مشاهد القتل والدمار والجوع والتشريد في مناحي عالمنا العربي قد تثير لدى البعض الحنين إلى عهد ما قبل الثورة، لأن استقرارًا قد وفرته تلك الأنظمة حتى لو كان بطعم الاستبداد قد بات مفقودًا، وباتت سوريا والعراق وليبيا واليمن مسرحًا للتمثيل الحي، على غرار مشاهير الأفلام التي تنتجها إستوديوهات هوليوود الأمريكية، وكانت أشهر الأفلام المنتجة في مرحلة ما بعد الثورة في مصر الكنانة، حين أنتجو لنا فيلمًا هنديًا بطله عبدالفتاح السيسي والمخرج جون كيري وطاقم التمثيل الإعلام وجمع غفير من عناصر الأمن ورهط جائع مغلوب على أمره وقع ضحية التضليل والتشويه.
فحمل الواحد منهم أسطوانة الغاز وآخر قارورة فارغة من الماء وأغلقت محطات الوقود أمام الحافلات في مشاهد كثيرة لتهيأة الرأي العام لقبول الانقلاب وتلبيسه زي الثورة التي تنقذ البلاد والعباد عبر المخلص عبد الفتاح السيسي، أما في البلاد الأخرى يختلف فيها أدوار المثلين والأبطال وطاقم التمثيل ولكن يبقى المخرج ذاته منفردًا ومحتكرًا لإخراج تلك الأفلام التي تمتاز بأن البطل فيها لا يموت ولا تظهر فيها الحقيقة كباقي الأفلام في آخر الحلقات.
مرت بعض البلاد العربية في مرحلة ما بعد رحيل النظام بحالة ضبابية اشتبكت فيها بعض قوى الثورة ببعضها وجزءًا منها مع ذاتها، فقد كانت الثورات العربية عفوية غير منظمة اتسعت قاعدتها وامتدت بشكل تدريجي، لم يكن لها رأس يحمل مطالب الجماهير ويحافظ على ديمومة الثورة عبر حراك سياسي موازي لحراك الشارع، حيث بقيت المطالب والنداءات حبيسة الميادين والشوارع.
التأسف على سنوات خلت من الحكم الاستبدادي كان نتيجة مطلوب الوصول إليها، وكانت هذه إحدى أدوات إفشال الثورة، وإن كانت السلمية في بداية الأحداث هي ديدن الثورات العربية، كان القتل والبطش هما أدوات الثورات المضادة التي تقودها أذرع الدولة العميقة في مصر ونظام الأسد في سوريا برعاية دولية، سلكت فيها الولايات المتحدة الأمريكية درب الصمت العلني والدعم الخفي لأحد الأطراف بحيث تبقى وتيرة الصراع مشتعلة.
لم تفشل الثورات العربية، لأن شرارتها ما زالت متقدة رغم دخولها في آتون صراعات دموية فرضت عليها بسبب الإجرام التسلطي الذي يمارس بأقسى أشكال القمع والإرهاب والذي أدى إلى وأد الشكل السلمي والطابع الشعبي الجماهيري، لم تفشل لأنها أسقطت جدران الخوف التي شيدت به الممالك والقصور حين بني سورها على القهر والتسلط والاستعباد.
صحيح أن تلك الثورات لم تحقق انتصارًا بالمعنى التقليدي، سقوط الأنظمة الاستبدادية لا يعني بالمعنى الدقيق انهيار تلك الأنظمة، لقد سقطت رؤوسها لكن بقيت أذرع وأدوات الدولة العميقة نافذة، نعم لقد قدم حسني مبارك كبش فداء أريد بزواله امتصاص غضب الجماهير، في حين بقيت المؤسسة العسكرية الحاكم الفعلي للبلاد، واستمر تنسيقها مع الولايات المتحدة الأمريكية فيما ستؤول إليه الأمور، حتى توجت الثورة المضادة بالانقلاب العسكري بتاريخ 30/6/2013 على التجربة الديمقراطية التي من أولى استحقاقاتها إزالة كل مخلفات النظام البائد وإرساء أسس المجتمع الديمقراطي والاستمرار في تحقيق مطالب الثورة.
الحالة الراهنة شكلت فرصة ذهبية لإعادة تقسيم المقسم من البلاد العربية، خاصة في سوريا والعراق، واليمن التي ظهرت فيه المقاومة موحدة إلى حد ما بحكم الطبيعة القبلية للشعب اليمني الذي حقق في الفترة الأخيرة زحفًا جيدًا نحو صنعاء في تقليص واضح للمساحات التي يسطر عليها الحوثيون ومقاتلو علي عبد الله صالح.
الوضع البائس في بلاد الثورة يزيد من حالة الجدل حول المآلات التي ستنتهي إليها الثورات العربية، إذ توحي كل المؤشرات إلى إعادة إنتاج أنظمة جديدة على مناطق جغرافية مجتزأة من العراق وسوريا، الغائب الوحيد عنها هو أي كيان سياسي سني، بينما يكون من إفرازات ذلك الهيكل السياسي الجديد كيان كردي يمثل جيب أمني ضارب في خاصرة تركيا من مقتضياته ضمان استمرار عدم الاستقرار في المنطقة، إضافة إلى كيان علوي مرضي لإيران ترى فيه استمرار لامتداد نفوذها في المنطقة، الجامع المشترك لتلك الكيانات الصغيرة هو الضعف والوهن والحاجة الملحة لرضى الغرب وإسرائيل لضمان البقاء والاعتراف بالشرعية.
ومع ذلك وأيا كانت نهايات الثورات العربية فإن ذلك لن يشوبها ولن يترك على انطلاقتها ما يثير الشك أو الجدل ولن تكون أبدًا في موضع المؤامرة أو المكيدة التي حاكها آخرون، وستبقى محطاتها علامات فارقة في تاريخ الأمة العربية، ولا يمكن الوقوف والاستسلام لأي نتائج لم تقم الثورة من أجلها، ليست الجماهير العربية من يوضع في قفص الاتهام لهذا البؤس الذي وصل إليه حال البلاد العربية، إنما هي الأنظمة الاستبدادية التي أثقلت كاهل شعوبها عبر سنوات طويلة من الاستبداد السياسي، ناهيك عن دور القوى العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي رأت في الظروف الراهنة فرصة سانحة لهدر كل مقومات وثروات البلاد واستنزافها عبر صراعات داخلية بأدوات غير أمريكية وصولاً إلى إعادة تشكيل المنطقة بما يضمن مصالح واشنطن ويضمن أمن تل أبيب.
ولكن هم كثيرون الذين يعتقدون أن نهايات الثورة لن تكون كما تشتهي واشنطن وطهران وموسكو، وإن كان ثمة من يرى أننا أمام مرحلة سايكس بيكو جديدة ورسم حدود أيضًا جديدة لكنها أكثر تجزيئًا وتفتيتًا، لكن بالتأكيد ستكون النهايات على غير ما كانت عليه قبل مئة عام.
رحلة التغيير بدأت ولن تعود إلى الوراء رغم كثرة أعداء الثورة، أجمل ما في الثورات العربية أنها أظهرت بجلاء أعداء الأمة وأعداء التغيير في الداخل والخارج، اليوم تدرك جماهير الثورة تمامًا المناخ السياسي العام وما يحركه من تجاذبات ومخطّطات من الفاعلين السياسيين في المنطقة، ولن تصمت أو تستسلم إلى ما يحاك في الخفاء أو العلن.