توفي اليوم الكاتب الصحفي المصري محمد حسنين هيكل عن عمر يناهز 93 عامًا بعد صراع طويل مع المرض دام لسنوات عدة تناثرت خلالها شائعات وفاته التي كان دائمًا ما ينفيها مكتبه وأسرته.
كانت أحد هذه الشائعات عن وفاته الأسبوع الماضي بعد الحديث عن تدهور حاد في صحته جراء إصابته بفشل كلوي، لكن مكتب هيكل خرج لينفي الأمر، حتى وافته المنية اليوم.
هيكل وهو أحد أشهر الصحفيين في الوطن العربي في القرن الماضي ولد في سبتمبر من العام 1923، لأب من جذور صعيدية وتحديدًا مركز ديروط بمحافظة أسيوط حيث كان يعمل تاجرًا للحبوب، اختار هيكل طريق الصحافة بعد التحاقه بمدرسة التجارة المتوسطة.
تدرج هيكل في السلم الصحفي حتى أصبح رئيسًا لتحرير جريدة “الأهرام” الحكومية حتى عام1974. كما أنه رأس مجلس إدارة مؤسسة “أخبار اليوم” ومجلة “روزاليوسف” في حقبة الستينيات. وفي عام 1970، عُين وزيرًا للإرشاد القومي، بأمر من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
صحفي بدرجة سياسي
السيرة المهنية لمحمد حسنين هيكل لم تكن صحفية فحسب، بل منذ الحقبة الملكية في مصر وهيكل على صلة قوية برجال السياسة في مصر والوطن العربي ومن دون مبالغة في العالم أجمع.
تعرف هيكل خلال تلك الفترة على سكوت واطسون الصحافي المعروف بجريدة “الإيجيبشان جازيت”، وهي صحيفة مصرية تصدر باللغة الانجليزية، ونجح واطسون في إلحاق هيكل بالجريدة في 8 فبراير 1942، حيث كان عمر هيكل حينها 19 عامًا فقط.
ومن خلال نجاحاته الصحفية رشح لتغطية الحرب العالمية في منطقة العالمين بمصر ثم انطلق من هناك إلى العالمية حيث سافر إلى باريس ليقابل السيدة فاطمة اليوسف صاحبة مجلة “روز اليوسف”، والتي قررت أن تضم الصحفي الموهوب إلى مجلتها، ومن هنا انتقل هيكل بعلاقاته القوية بين أدراج الصحافة المصرية مكونًا شبكة من العلاقات السياسية الوطيدة، حتى حاز الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل على “جائزة فاروق”، أرفع الجوائز الصحفية بمصر في ذلك الوقت.
قبيل انقلاب يوليو عام 1952 كان هيكل قد وصل إلى مرتبة رئيس تحرير مجلة “آخر ساعة” في مصر قبل أن يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو الأمر الذي أهله لصداقة البكباشي جمال عبدالناصر النشط في حركة الضباط الأحرار، وهي النقطة المفصيلة في حياة هيكل التي حولته من صحفي معروف إلى سياسي صعد مع جمال عبد الناصر إلى الرئاسة خطوة بخطوة، وأصبح قوة إعلامية في يد مجلس قيادة الثورة ومستشارًا خاصًا لعبدالناصر.
وفي الفترة من عام 1956 إلى عام 1957، عرض عليه مجلس إدارة صحيفة “الأهرام” رئاسة مجلسها ورئاسة تحريرها معًا، واعتذر هيكل في المرة الأولى، لكنه قبل في المرة الثانية، وظل رئيسًا لتحرير جريدة “الأهرام” حتى عام 1974.
علاقته بالسلطة في ذلك الوقت لم تكن علاقة صحفية فقط، بل ساهم هيكل في وضع استراتيجيات للدولة الناصرية وللقومية العربية في ذلك الوقت، حتى باتت منهجًا سارت عليه الدولة، فقد كان هيكل أحد عرابي نظام يوليو المستمر حتى اللحظة في مصر، وقد ظهر ذلك في تحرير هيكل لكتاب “فلسفة الثورة”، الذي كتبه عبد الناصر بعد انقلاب يوليو بعام واحد.
وقد لخص الكاتب الراحل أنيس منصور، طبيعة العلاقة بين الدولة الناصرية وهيكل في حوار مع صحفي قال فيه إن “هيكل كان مفكر عبد الناصر، وصاغ الفكر السياسي للرجل في هذه الفترة، ولم يحصل أي شخص على هذا الدور، وأكاد أقول إن عبد الناصر من اختراع هيكل”.
انطلق هيكل من صداقته لعبدالناصر إلى صداقات أخرى بشخصيات سياسية لها وزنها في العالم، واستخدم الصحافة في توطيد هذه العلاقات، حيث كان دائمًا ما يروى هيكل نوارده وقصصه مع زعماء العالم ورجال السياسة والمال في فترة عبدالناصر وما بعدها.
كان هيكل يرى أن الدولة بشكلها الذي برز بعد سيطرة الجيش في مصر، هي النظام الذي يجب أن يسير عليه أي حاكم في الوطن العربي، وحاول التبرير للسلطوية في سبيل بقاء هذا الشكل من الحكم، وقد ظل هيكل يؤلف ويكتب ويترجم لسنوات عديدة في هذا الإطار، حتى أنه بات مستشارًا سياسيًا لكثير من القيادات العربية.
مقرب من الرؤوساء
بعد رحيل عبدالناصر وتولي نائبه محمد أنور السادات حكم مصر، كان لهيكل دورًا مفصليًا في الوقوف بجانب الرئيس الجديد للتغلب على مراكز القوى التي كانت تكره هيكل والسادات سويًا، لكن سرعان ما انقضى شهر العسل بين السادات وهيكل، حيث دبت الخلافات بين الرجلين بعد حرب أكتوبر حول تداعيات الحرب ومباحثات فض الاشتباك، خرج هيكل على إثر هذا الخلاف بقرار رئاسي من “الأهرام” عام 1974، ثم اتجه لتأليف الكتب والترجمة ومحاورة زعماء العالم، واعتقل السادات هيكل ضمن اعتقالات سبتمبر 1981، ثم خرج بقرار من الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك بعد مقتل السادات.
التقى هيكل الرئيس الجديد محمد حسني مبارك لنحو ست ساعات، كما روى هيكل في كتاب “من المنصة إلى الميدان.. مبارك وزمانه”، حيث حاول مبارك الاستفادة من خبرة هيكل السياسية وعلاقاته المتشعبة في المنطقة، لكنه لم يكن له دور بارز في النظام السياسي المباركي نظرًا لاعتماد مبارك على مجموعة لا تنتمي إلى مدرسة هيكل في السياسة.
وعندما انتخب محمد مرسي رئيسًا لمصر عام 2012، التقى بهيكل في العام نفسه، وناقش معه الأوضاع الداخلية والخارجية، حيث اقترح عليه هيكل -حسب ما نشر في الإعلام وقتها- إجراء حوار وطني مفتوح مع القوى السياسية المختلفة دون استبعاد أحد.
وعقب الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي اتهم هيكل بأنه كان أحد مهندسي هذه الانقلاب وداعميه بالنصائح والتوجيهات، فيما التقى الرئيس المعين عدلي منصور عقب الانقلاب بأربعة أيام فقط، وقد كان هيكل أحد داعمي الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي عارضًا عليه كافة الخدمات لمساعدته إقليميًا في الحكم.
لم يتخل هيكل عن أفكاره السلطوية طوال هذه الفترة التي تدعم حكم الفرد وسيطرة الجيش على مقاليد الأمور حتى آخر نظام في مصر، رغم أنه كانت لديه انتقادات للأنظمة المتعاقبة في روايته للتاريخ، إلا أن هيكل ظل أحد القلاع الفكرية للسلطوية في العالم العربي التي قدست فكرة الدولة والنظام أمام الشعوب وحقوقها.