حتى اليوم ينفى البنك المركزي المصري أي نية لديه بتعويم سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية في سوق الصرف، مؤكدًا أن المركزي يتخذ التدابير والإجراءات اللازمة لتوفير الدولار، حيث نجح في توفير أكثر من 14 مليار دولار خلال الشهور الثلاثة الماضية لتيسير حركة التجارة والتصنيع حسب جريدة الدستور المصرية.
يأتي صخب الأخبار حول نية المركزي بخفض قيمة الجنيه أو تحريره على خلفية تصريحات رئيس الحكومة شريف إسماعيل، بشأن اتخاذ قرارات صعبة في الفترة المقبلة، ففي تصريحات له قبل يومين قال “إن الموقف أصبح حرجًا ويتطلب اتخاذ قرارات مؤلمة، لأنه ليس هناك بدائل، لكن يمكن على الحكومة اتخاذ إجراءات لتوفير أسعار السلع الأساسية بأسعار تلبي احتياجات الفقراء ومحدودي الدخل”.
وأشار خبراء اقتصاديون أن رئيس الحكومة ألمح إلى احتمال خفض قوي لسعر صرف الجنيه الرسمي في الأيام المقبلة، ويتخوف العديد من المحللين أن أي رفع في سعر الصرف الرسمي سيشعل الأسعار، ويزيد الأعباء المعيشية على المواطنين ويؤثر بالدرجة الأولى على الفقراء وذوي الدخل المحدود.
حيث يشهد سوق الصرف ارتفاعًا ملحوظًا لسعر صرف الجنيه مقابل الدولار في السوق السوداء إذ وصل سعره إلى 9.25 حسبما ما أفاد ناشطون في مصر على صفحات التواصل الاجتماعي، في حين سعر الصرف الرسمي هو 7.83 جنيه للدولار.
ما الذي جرى للجنيه؟
استمرار هبوط الجنيه المصري في السوق الموازية هو نتيجة حتمية لما يعكسه حال الاقتصاد الحقيقي في مصر منذ فترة؛ فموضوع تعويم العملة ليس قرارًا فنيًا محضًا كما يشير وائل جمال الكاتب والباحث المصري المختص بالاقتصاد السياسي لـ “نون بوست” ولا يجب أن يقتصر أيضًا على حسابات المال وسد العجز دون أن يرتكز على سياسة أوسع تتعلق بالاقتصاد الحقيقي.
فالمشكلة في الاقتصاد المصري والتي طفت على السطح بتراجع قيمة الجنيه بعد تراجع الصادرات وحاجة البلاد للعملة الصعبة لا تتعلق بهذه العوامل فقط وإنما “إلى أي مدى الاقتصاد إنتاجيًا وقادرًا على الوفاء باحتياجات المواطنين وهل هو موجه لهذا الغرض أصلاً!” يقول السيد جمال لـ “نون بوست”.
صورة الاقتصاد الحقيقي هي صورة مكبرة للمشاكل الاقتصادية التي تعاني منها مصر؛ تتجذر أسسها في “الاقتصاد السياسي من حيث العدالة والشفافية والقضاء على الفساد وإعادة توزيع الثروة والتي تعد المدخل الوحيد للكفاءة الاقتصادية في مصر” على حد وصف السيد جمال.
إذن الخلل في الاقتصاد السياسي المصري سينتج عاجلاً أم آجلاً أمراضًا متفرقة وأزمة الجنيه لا تخرج كثيرًا عن هذا الإطار؛ فالجنيه لا يستعيد عافيته من خلال ضخ كتل دولارية في السوق ولا من خلال مساعدات مالية تقدمها الصين أو دول الخليج لدعم الاحتياطي النقدي الأجنبي، وسيبقى الجنيه ينزف مادامت طريقة معالجة المشكلة تتم بالطرق الإسعافية القاصرة من قِبل الحكومة المصرية.
فالعملة في أي بلد تعكس الوضع الحقيقي للاقتصاد بشكل كلي، والاقتصاد المصري يعاني من مشاكل حقيقية بدءًا بالوضع الأمني المتدهور في البلاد مع ما يرافقه من عدم الاستقرار السياسي وهذا أفرز هروب الاستثمارات الأجنبية وتراجع عائدات السياحة وتراجع الثقة بالاقتصاد فضلاً عن أسس الاقتصاد السياسي التي ذكرها السيد جمال في الأعلى، وعليه نجد أن سعر الجنيه المصري هو بالفعل “يتم تداوله بأقل من قيمته الحقيقية التي يجب أن تكون في أقل تعديل 12 جنيهًا للدولار” حسب تقدير أحمد طلب الصحفي المصري المختص في الشأن الاقتصادي.
وفيما يلي نستطيع من خلال الأرقام والوقائع إثبات ذلك:
– تقلص تدفقات العملة الصعبة على مصر لأسباب عديدة من أبرزها انكماش عائدات السياحة والاستثمرات الأجنبية المباشرة وانخفاض إيرادات قناة السويس، حيث تراجعت إيرادات السياحة بنسبة 15% إلى 6.1 مليار دولار في عام 2015، ومن الممكن لهذا الرقم الهبوط إلى 3.5 مليار دولار، كما شهدت إيردات قناة السويس تراجعًا بنحو 5.3% في عام 2015.
– استوردت مصر في عام 2015 واردات تقدر بـ 80 مليار دولار وصدرت في نفس العام 13.8 مليار دولار والفارق يظهر حجم الأزمة التي تعاني منها الخزينة الدولارية في البنك المركزي، حيث يشكل هذا عبئًا ثقيلاً على البنك لتوفير الدولار لتمويل عمليات الاستيراد خصوصًا بعد إغلاق العديد من المصانع وضعف الإنتاج المحلي.
–السياسة النقدية المتبعة والتي تحاول إبقاء الجنيه عند مستويات قوية مصطنعة لا تُظهر الأثر الحقيقي للاقتصاد وللعملة، حيث ساهمت هذه السياسة في تراجع الثقة بالاقتصاد المحلي، وأدى إلى إقبال الكثير على شراء الدولار حفاظًا على مدخراتهم وممتلكاتهم من تآكل القيمة الشرائية للجنيه والاحتفاظ بالدولار خوفًا من مستقبل مجهول.
– مقترح موازنة السنة المالية المقبلة لمصر 2016 – 2017 وُضعت على أساس سعر 8.25 جنيهًا للدولار مقارنة مع 7.75 في السنة المالية الحالية، وهذا المقترح يعني بالضرورة أن الحكومة في الموازنة الجديدة تتجه بشكل مباشر نحو تخفيض سعر الصرف عن مستواه الحالي البالغ 7.73 جنيهًا للدولار، وتتوقع مصادر استثمار أن سعر الصرف الرسمي سيتراوح بين 8.5 و9.5 جنيهات خلال العام الحالي.
– تآكل احتياطيات النقد الأجنبي في البلاد خلال السنوات الأخيرة حيث بلغ في نهاية يناير الماضي 16.47 مليار دولار في مقابل 36 مليار دولار قبل خمس سنوات وهو ما يجعل من الصعب على البنك المركزي حماية قيمة الجنيه المصري.
يُجمع كثير من الخبراء الاقتصاديين في مصر أن تعويم الجنيه قادم لا محالة طالما أن مصادر النقد الأجنبي محدودة والحكومة غير قادرة على السيطرة على سعر صرف الدولار لعدم قدرتها على توفير العملة الأجنبية.
ولكن التحدي لا يقف عند حدود تعويم العملة فقط، بل يجب أن يرافق التعويم تحسين الإنتاج وزيادة التصدير ورفع القيود على الإيداع والسحب من أجل جذب سيولة دولارية كبيرة من السوق الموازية.
أما متى تتوقف موجة الارتفاع هذه فيرى أحمد طلب أنه من غير المتوقع أن يشهد الجنيه تحسنًا ملحوظًا وتوقفًا لصعود الدولار طالما أن هناك فجوة كبيرة بين الصادرات والواردات، كما أن الأسواق بحكم حاجتها للدولار تدفع الأسعار باتجاه الثمن الحقيقي للجنيه أمام الدولار والذي لا يقل عن 12 دولارًا”.