تحاول مدينة عدن، جنوب البلاد أن تحيا حياتها العادية، وأن تستعيد إيقاعها المدني الذي سُلِب منها عنوة بعد أن غزتها قوات الحوثيين وصالح في منتصف مارس من العام الماضي. هي تبدو كفاتنة ومارد في الوقت نفسه، لكنها تصاب بالعي عند السؤال، عمن يحكمها ومن هو المتسيد فيها وفارض سلطاته على مفاصلها المختلفة، هل سيستطيع المستقبل المشرق في التسلل إلى تفاصيلها، التي هي مرعبة نوعا ما. لكن تبقى عناوين بارزة ومصطلحات يفسح لها المجال من باب الثورة مستمرة والمقاومة في قوتها وجاهزيتها لمحاربة أي دخيل يعكس أهداف المقاومة والقضية، والأمر يبدو خلاف ذلك البتة.
شرارة
عاشت المدينة أسوأ فترات تاريخها المعاصر، بعد أن صحت ذات صباح على وقع المجنزرات والآليات، وفتح المعسكرات، وقتل الناس في الشوارع، بعد أن اعتلى قناصون أسطح المنازل، وبدأوا يفرضون حظر التجوال حينها على كل السكان حتى انطلاق أولى شرارة للمقاومة الشعبية، التي أرادت تخليص المدينة من ربقة المليشيا التي بدأت تلتف رويدا رويدا على كل جزء في المحافظة المسالمة، والتي لا تنشد سوى السلام.
شباب وناشطون يحاولون إعادة البسمة إلى وجوه الناس هنا، ويحاول آخرون إزالة القتامة ومسح الغبار عن الجدران، وإعادة تراث المدينة إلى الواجهة، فحسب تعبيرهم، أن عدن لن تعود إلى سابق عهدها إلا إذا صمتت الرصاصة إلى الأبد، وظهر الفن بكل أشكاله وأنواعه، ولم لا وهي معين زاخر بالإبداع والخلق والابتكار.
على عكس ذلك تعمل خلايا نائمة للحوثيين وأتباع صالح على استمرار الفوضى يشاركهم في الأمر فصائل كانت محسوبة على المقاومة الشعبية في المدينة، التي يقول عنها بعض الأهالي، إنها لا تمثل المقاومة الجنوبية أكثر ما تمثل أجندة علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي.
إهدار الفرص
سالم عياش من سكان حي المنصورة، الحي الذي شهد مواجهات دموية مؤخرا، تحدث لمسند للأنباء بنبرة تبعث على الأسف، بأن هناك من يعمل من أجل طمس أهداف القضية الجنوبية ودفنها بفعل الفوضى وإقلاق السكينة العامة، لا شيء تغير حسب قوله، بل الأمور تزداد تعقيدا، في ظل غياب الأمن وضياع الحقوق، وما يحز في النفس هو إهدار الفرص، فالشعب الجنوبي وأبناء عدن لديهم الفرصة التاريخية لتقديم أنموذج حقيقي للعدالة وتمكين الأمن والنظام والقانون، لكن من المشاهد أن هناك من لا يعجبه أن تتم ثورة الجنوبيين في تحقيق أهدافهم العادلة.
تطل المدينة على ساحل طويل من خليج عدن، ومؤخرا أصبحت مطلة على بحر لا شاطىء له، هو بحر الاغتيالات.. فقبل 3 أشهر تقريبا فجعت العاصمة المؤقتة بمحافظها جعفر سعد، بتفجير استهدف موكبه، قادات في المقاومة تعرضوا للاغتيال أيضا في ظروف مشابهة.. وآخرون لا يجدون متسعا إلا الاغتراب والهجرة إلى خارج البلاد بعد أن ضاقت عليهم عدن بعد التحرير، وكانت واسعة لهم وهم يقودون المعارك في الجبهات القتالية المختلفة.
تفجيرات
محافظ عدن الجديد عيدروس الزبيدي ومدير أمن المحافظة، تعرضا لمحاولتي اغتيال وهما الرجلان القويان كما تصفهما وسائل الإعلام، لكنهما فشلا حتى في تأمين نفسيهما، وقد صارا هدفا مباشرا لهجمات عدة، قتلت العديد من مرافقيهم وحراسهم الشخصيين.. محاولات وصلت إلى أقرب الأماكن حيث مقرات عملهم ومساكنهم، ولم يقتصر الأمر عليهم بل وصلت التفجيرات إلى قصر المعاشيق حيث إقامة الرئيس عبدربه منصور هادي ونائبه خالد بحاح والعديد من أعضاء الحكومة.
تتداول وكالات أنباء وتقارير صحفية يعدها البعض مقربة من المطبخ الإعلامي للحوثيين وصالح بأن عدن تحكمها القاعدة وداعش، مستدلين بالانفلات الأمني وموجة الاغتيالات التي لم تستثن أحد سواء من قيادات المقاومة الجنوبية أو التابعين للحكومة اليمنية.. وهو الأمر الذي تؤكده مظاهر مسلحة وأعمال لجماعات تطلق على نفسها هذه المسميات وتسيطر على مربعات كبيرة في عدن الساحلية.
الثقافة العدنية
(ع، ف)، والذي في البداية امتنع عن الادلاء بأي تصريح إلا عند عدم ذكر اسمه قال لمسند للأنباء إن جماعات لا تمثل الثقافة العدنية أصبحت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة، وغدت لديها السلطة أكثر من أي تشكيلات عسكرية أو أمنية، يتدخلون في كل شيء، وأصبح لمناطق كثيرة أمراء لهم مسميات غريبة ومريبة، من الضرورة أن تلجأ إليهم أو تحتمي بهم بعد أن غابت كل السلطات أو غيبت للأسف الشديد.
نفوذ كبير لجماعات تنعت نفسها بمسميات متعددة أصبحت محل سخط وخوف عند البعض، ومحل رضا عند آخرين، يحكمون المدينة بلغة الإقطاع يحاولون التدخل بكل صغيرة وكبيرة حتى في تسيير المؤسسات ومنها جامعة عدن، المؤسسة التعليمية الأولى بدأت تعايش أوضاعا وتصرفات وسلوكيات هي خارجة عن النهج الأكاديمي والعرف التعليمي، التي كانت تنتهجه الجامعة التي تعد من أولى الجامعات في الجزيرة العربية.
حاضنة للتغيير
لا قاموس محدد في عدن إذن، غير قاموس العنف. مفرداته دخيلة على العدنيين، فعدن للعدنيين كذبة كبرى كما يقول أحد مثقفيها فهي مدينة تفتح صدرها للجميع، من دخل عدن فهو آمن، وهذه الممارسات ستزول، والذين يمارسون اليوم الحقد ويضايقون الآخر، خصوصا أبناء المحافظات الشمالية، لا يمثلون ثقافة عدن السلمية التي صهرت كل الثقافات واغترفت من معين التسامح والتعايش، ففي عدن تحدث الاغتيالات لكنها لا تمثل المجموع، من يوقف الشماليين يمثل نفسه لا غير، أما عدن ستبقى أما وحاضنة للجميع، حاضنة للتغيير والمدنية والثورة، فهي عنوان لليمن الجديد وثغر ابتسامته التي ستبقى ما بقي الشاي العدني يلامس الأرواح، قبل أن يصل إلى الأفواه والحناجر المتعطشة للارتواء من كل ما هو قادم من عدن وبابها العتيق.
واقع جديد
وهو واقع تكذبه المشاهدات اليومية لمن ينجح في زيارة عدن، فالشارع الفني مثلا أصبح منزويا على نفسه وكذلك الثقافة وإن حاول البعض كسر هذا الروتين الجديد فأحد الشباب يصدمك وهو مدجج بالسلاح ليقول لك كم من الأحاديث تحفظ ليجيبك بنفسه بأنه يحفظ، من الصحاح والمسانيد ومع ذلك حين تمعن في النظر إليه تعرف بأنه لا يعرف من الدين إلا هذه الألفاظ التي يرددها كببغاء فقط، أما الإنسانية قد انتزعت من قلبه، تدل على ذلك تصرفاته وسلوكياته مع الغير من المرضى والجرحى والباحثين عن فرص عمل في مدينة أعلنت بأنها عاصمة مؤقتة لليمنيين جميعا وهي عكس ذلك تماما كما يرأها آخرون.