جزيرة أسسها السير ستامفورد رافلز عام 1819 كانت عبارة عن قرية للصيادين تخلو من أي موارد طبيعية وفيها قاعدتان عسكريتان ويسكنها خليط من المهاجرين غالبيتهم أتوا من الصين وماليزيا والهند، دولة لا تتجاوز مساحتها 61 ألف كيلو متر مربع خالية من الموارد الطبيعية وليس لديها ماء للشرب واحتاجت في وقت من الأوقات إلى استيراد الرمال.
واليوم تعد رابع أهم مركز مالي في العالم ومدينة عالمية تلعب دورا مهما في الاقتصاد العالمي ولديها خامس أنشط ميناء في العالم، يصل عدد سكانها خمسة ملايين وربع المليون، خليط من الهنود والصنينين والملاويين وآسيويين من ثقافات مختلفة، سميت في عام 2006 بالمدينة الأكثر عولمة في العالم بحسب شركة “أي تي كيرني”، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لها في عام 2013 نحو 297 مليار دولار يبلغ حصة الفرد منه 78 ألف دولار ألف دولار تقريبا.
إنها سنغافورة.
استقلت من الاستعمار البريطاني مع ماليزيا 1959 وفي عام 1965 انفصلت عن ماليزيا وتأسست جمهورية سنغافورة وبدأ نموذج التنمية الاقتصادية الذي أشعل نهضة في البلاد في كل مجالات الحياة، وقد واجه الوزراء مشكلة تعريف سنغافورة للمستثمرين وكبار رجال الأعمال آنذاك فهي بالفعل “تختفي إذا أشرنا إليها بالإصبع الصغير ” ولكن أدائها وتطورها الاقتصادي والنجاح الذي أنجزته جعل مفعولها أكبر من حجمها بكثير حتى باتت قبلة للاستثمار والتطوير المالي.
ويجدر التنويه هنا أن 1959 تم انتخاب لي كوان يو كأول رئيس وزراء للبلاد واستقال 1990 أي دامت فترة رئاسته 30 عاما ونيّف بينما تولى الأسد رئاسة سوريا عام 1970 وحكمها لمدة 30 عاما أيضا.
لي كوان يو أول رئيس وزراء لسنغافورة
من المعلوم أنه لا يوجد وجه للمقارنة بين البلدين سوريا وسنغافورة من حيث المساحة وعدد السكان والثروات الطبيعية، فسوريا البلد المتنوع بكل شيء طبيعيا وبشريا وماليا، عكس سنغافورة التي لا تمتلك شيء تقريبا إنما يمكن المقارنة بما فعل “الديكتاتوريان” إن صح التعبير.
سعى “لي” لبلاده أن تمتلك كل شيء في بلد لا يملك شيء بينما سعى الأسد لنزع سوريا من كل شيء، 30 عاما جعل لي سنغافورة حاضرة الدنيا ومركزا رائدا بالعلم والصناعة والإنتاج والسياحة والمال أما حكم الأسد في سوريا فقد أثمر جهلا وتقشفا وفقرا حتى استوردت سوريا كل شيء علما أن لديها كل شيء، سنغافورة بلغ معدل البطالة فيها نحو 2% أما في سوريا فبلغت البطالة مستويات عالية ناهزت 20% وتزيد، علما أن الأسد عتّم على الأرقام الاقتصادية الصحيحة لإنها عالية، سنغافورة بنت نموذجا سياسيا متعدد الأحزاب احترمت مبادئ الديمقراطية والحرية والتعبير الحر على الرغم من الآراء المنشورة والتي توسم “لي” بالحكم الحديدي والديكتاتوري والأسد حكم سوريا بمبدأ الحزب الواحد وألّه نفسه لدى الشعب وقام بالعديد من المجازر بحق الشعب ارتقى على إثرها الآلاف المألفة من السكان، سنغافورة بنت الحدائق والمطارات والأبراج والمدن الصناعية ولا يوجد سنغافوري ليس لديه منزل ملك له، وفي سوريا بنيت السجون وامتلأت بالمظاليم وأنشأت الأفرع الأمنية والمخابرات وتفنن الأسد بها للتنكيل بالشعب، في سوريا مات الأب وورث الابن وفي سنغافورة استقال “لي” ولم يورث ابنه. سنغافورة تعني مدينة الأسد وسوريا جعلها الرئيس دولة الأسد ولكن شتان بين الأسدين.
بقي أن أقول أن الأسد اعتبر سوريا مزرعة له ولحاشيته بينما في سنغافورة اعتبر لي نفسه أبا لكل السنغافوريين وحرص على تأسيس حياة مرفهة للشعب بكل المقاييس.
تولى لي رئاسة الحكومة وكل شيء ينذر بالانهيار فنسبة البطالة تقارب 15% والقوة العسكرية مؤلفة من كتيبتين ماليزيتين، بنية تحتية متخلفة ولا وجود لقوات الشرطة، المدارس والجامعات حالة يرثى لها فضلا عن الغليان العنصري والديني الذي كان يهدد بالانفجارفي أي لحظة.
بعد سحب بريطانيا كل قواتها من سنغافورة بسبب تراجع قوتها في العالم تدريجيا خسرت سنغاورة ما يقرب من 30 ألف فرصة عمل كانت توفرها تلك القوات أي ما يعادل 20% من الناتج المحلي الإجمالي، فبدأ “لي” بتعزيز السياحة ونجح مبدأيا ولو جزئيا في التخفيف من وطأة البطالة ثم شجع على بناء مصانع صغيرة خصوصا تلك التي تعنى بتجميع المنتجات الأجنبية على أمل أن يبدأوا بتصنيع بعض قطعها محليا.
ومما قال لي في هذه الفترة: “اخترنا دائما الفرد أو العنصر الأفضل لأي مهمة أو واجب، مهما كانت انتماءاته أو أصله أو دينه، كنا نهتم بالنتيجة فقط وكنا نعلم تماما أن فشلنا يعني حروبا أهلية واندثار حلم”.
وفي فترة قصيرة استطاعت سنغافورة استغلال موقعها المتوسط بين اليابان وأوروبا واندماجها الكامل في الاقتصاد الدولي وبعدها عن نقاط التوتر في قارة آسيا فأصبحت تستقبل 70% من تجارة الحاويات في العالم كما تحولت إلى واحدة من أهم المراكز المالية في العالم، ومن بين أهم الإنجازات في تلك الفترة بناء مدينة جورونغ الصناعية على مساحة 9 آلاف فدان لجذب الاستثمارات الأجنبية.
في فترة حكمه حول سنغافورة إلى واحة خضراء وعمل على إنجاز مشاريع أبنية سكنية وقدمها للسنغافوريين بأقساط مريحة وطويلة الأمد واهتم كثيرا بمعايير النظافة حيث تعد سنغافورة من أقسى البلدان حول العالم التي تحمل عقوبات وجزاءات فمن يبصق بالشارع يتحمل غرامة مالية قد تصل إلى 500 دولار سنغافوري، ومن أجل إنجاب جيل ذكي حث الشباب بشكل صريح وسافر على الزواج من فتيات في مستواهم الثقافي نفسه، واهتم كثيرا بالشفافية فاختار في أحد الأيام اللون الأبيض ليرتديه حزب الشعب الحاكم والذي ينحدر منه في إشارة إلى الشفافية والنظافة. وأسس في عهده بنية شركات عامة تحولت إلى خاصة فيما بعد باتت اليوم شركات متقدمة استطاعت أن تحجز لها مكان في المنافسة العالمية بجدارة من قبيل الخطوط الجوية السنغافورية.
اعتمد لي على وزراء من ألمع الشخصيات كل في تخصصه وقدم لهم مساحة حرية لتقديم ابداعهم وابتكاراتهم للقيام بواجباتهم ونجح في وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وفي عام 1989 حول لي الحكومة إلى أول حكومة إلكترونية في العالم وبعدها بعام استقال لي دون أن يورث ابنه وبقي هو مستشارا لرئيس الحكومة الذي أتى بعده يقدم له المشورة والنصيحة.
آمن لي بالعلم وبنى اقتصاد البلاد بالارتكاز على المدارس والجامعات وقال في السياق: ” التعليم أحد الدعائم الرئيسية لاقتصاد أي دولة وكلما زاد عدد المتعلمين قل حجم البطالة وعلى الرغم من البطالة في بعض البلدان التي تمتلك نسبة كبيرة من المتعلمين فإن ذلك لا ينفي هذه القاعدة حيث إن الوظائف التي تفتقر إليها هي وظائف صغيرة وغالبا ما تحل التكنولوجيا الحديثة محلها”.
وعلى الرغم من تعدد الأعراق والأديان واللغات القومية في البلاد إلا أنه اتخذ قرارا بأن تكون اللغة الإنكليزية هي اللغة الرسمية في البلاد وفي التعليم وكل عرق يتكلم باللغة الخاصة به، فالصيني يدرس اللغة الصينية كلغة ثانوية والهندي يدرس اللغة الخاصة به والملاويون يدرسون اللغة الملاوية، وهكذا يبقى التواصل لدى الجميع باللغة الانكليزية مع تعزيز كل عرق للغته الأصلية دون إهمال لها.
لم يقبل لي أن يخضع لإرادة أي أحد من الدول الكبيرة عالميا وتصرف تبعا لما اقتضته مصلحة بلاده وشعبه وليس لما اقتضته مصالح تلك الدول.
الاستقرار السياسي والركائز المايكرو-اقتصادية التي تعززت في سنغافورة منذ البدية كانت البذرة لانطلاقة في الاقتصاد ومن ثم إطار العمل القانوني والقضائي والجودة العالية للإشراف على الحقل المادي كلها عوامل اجتمعت مع بعضها البعض لتشكل بيئة حاضنة لإدارة الثروة في سنغافورة، كما أن هذه الدولة الصغيرة باتت تمتلك تجربة عميقة في الاستثمار ففي عام 2003 نمت الأرصدة المسيّرة بواسطة المؤسسات الموجودة فيها بنسبة 35% لتصل إلى 465.2 مليار دولار سنغافوري.
كما وتعتبر سنغافورة حاليا من أكبر مصدري اسطوانات الكومبيوتر في العالم وواحدة من أهم مراكز صيانة السفن كما تقدم خدمات مالية لمعظم بلدان المنطقة ما يشكل 27% من دخلها القومي وتمتلك مؤسسات إعلامية متقدمة 9 إذاعات و 3 شبكات تلفزيون و 8 صحف محلية.
وفي النهاية تكاد لا تقرأ جدولا أو إحصاء إلا وتجد سنغافورة في المراتب الأولى فيه سواء في النمو أو الازدهار أو الشفافية أو الأمان أو حتى العناية بالبيئة، ولا تجد مواطن سنغافوري بدءً من الرئيس وانتهاءً بالمواطن العادي في الشارع إلا ويحمل الإصرار والالتزام للمحافظة على المستوى المعيشي الراقي الذي وصل إليه المواطن السنغافوري، ويكاد لا يذكر “لي” في الأوساط السياسية والشعبية حتى يُمدح به وكني بالأب الروحي والمستشار وعرّاب سياسة دول جنوب شرق آسيا. مات “لي” في السنة الماضية عن عمر يناهز 91 عاما ترك وراءه الكثير من الكتب التي ألفها في مقدمتها سيرة حياته على جزأين” قصة سنغافورة”.
وفي النهاية أيضا ولكن في سوريا هذه المرة مات الأسد الأب وحصل من شعبه على الأغاني الشعبية التي تسخر منه وتلعنه ولا يكاد يُذكر اسمه حتى تذكر مجزرة حماة والجهل والتقشف والفقر والظلم الذي كان يعيشه الشعب السوري على عهده، وبعد استلام الأسد الابن لم يكن أفضل من والده وسار على خطاه وتبين ذلك إبان اندلاع الثورة واكتشاف السوريون أنه لم يكن لديهم دولة، وأن الجيش الذي تم الإنفاق عليه على حساب الشعب بني من أجل قتل أي ثورة تخرج ضد الأسد، وبعد كل الدماء والشهداء والجرحي الذين ارتقوا من أجل تغيير نظام الحكم، إلا أن الأسد الابن لا يزال يؤمن بأن سوريا هي دولة الأسد ويرفع شعار “الأسد أو نحرق البلد”.