منذ أن انهالت عليها أكوام من النقد اللاذع والممنهج من قِبل مختلف التيارات؛ التيارات السياسية والعقدية والفكرية في تونس عقب تجربة حكم الترويكا التي عاشتها قبيل الثورة، شهدت حركة النهضة التونسية حالة من الاضطراب تلتها عملية فقدان للتوازن الفكري والثقافي الذي أسس على ضوئه الحزب في حقبة زمنية معينة.
وتعتبر هذه الضجة أولى بذور هذا الانفلات الذي شهدته الحركة التونسية المحافظة عقب إثارة موضوع الفصل التنظيمي والهيكلي بين المنهج الدعوي والمنحى السياسي ما بين مؤيد ومعارض لذلك، ورغم أن هذه المسائل الجوهرية لا يفصل فيها إلا أثناء أشغال المؤتمر المزمع عقده في نهاية شهر أبريل القادم إثر نقاش وتصويت بين المؤتمرين حتى يكون المؤتمر سيد نفسه ولا يشهد وصايةً أو توجيهًا مسبقًا، فإن الخلاف بين الفصيلين ظل قائمًا والهوة تزداد اتساعًا واللعبة لم تتوقف عند هذا الحد، فقد وجدت القيادة نفسها بين فكي رحى انقسام جديد واصطفاف حتمي ما بين “إسلاميين” و”علمانيين” داخل نفس الحركة، رغم أن الأغلبية لم يسبق لهم حتى مجرد الخوض في هذا النقاش من قبل، ولكن الإعلام وبواسطة التأكيد والتكرار المستمر قادر على نحت العقول وتشكيلها كيفما يشاء.
وفي تسارع هستيري أصبحت تتوالد وتتكاثر التنظيرات لتطل على الساحة مسميات جديدة تختلقها الحركة لنفسها بغية تبرئة نفسها مما ينسب إليها من اتهامات حصرية من قبيل تبييض الإرهاب والتجارة بالدين وتوظيف هذا الأخير لأغراض حزبية ضيقة، وكل تيار داخلها ينقسم ويتشعب إلى تيارات أخرى متنافسة ومتناحرة فيما بينها وكل فصيل تلهث خلفه حشود من المؤيدين، وكل منهم على يقين لا يقبل الشك بقياداته ومنظومته العقائدية، وبذلك استطاعت القيادة المنفلتة فكريًا أن تجعل من مختلف روافد الحركة مجرد أكوام بشرية مؤدلجة ومتنافرة، كل مجموعة لا تستمع إلا لنفسها وتتجاهل وتتغاضى عن كل ما لا يتوافق مع منظومتها الفكرية واتجاهاتها ولا يدين بالولاء لقياداتها، فلا أحد يجرؤ حتى على مجرد التفكير في السؤال: ماذا لو كنت مخطئًا؟ أو أن قناعاته واختياراته كانت خاطئة أو أنه كان ضحية خداع وقد أساء تقدير الأمور؟ ولا نعتقد بأن المسألة ترتبط بعدائية أو حقد أي من الأطراف المتناحرة تجاه حركتهم، بقدر ما تتعلق بشكل أساسي باضطراب ذهني لدى أتباعها وفقدان اتزانهم النفسي بسبب التناقض بين سلوكهم والمعتقدات والقيم التي يروجون لها ويؤمنون بها.
ولا يهم ما يحدث لتونس في خضم ذلك كله، فعلى سبيل المثال، فإن معارضي الثورة اليوم تملؤهم نشوة النصر، وكلما ازداد حجم الخراب والفساد والفقر ازداد يقينهم بصواب موقفهم، ونجاعة اختيارهم، وصدق نبوءات الرئيس بن علي وحاشيته.
ما على حركة النهضة فعله هو الاعتراف بالخطأ والعجز والفشل والتقاعس دون تغليف ذلك بتبريرات جاهزة لعجزها على مقاومة الفساد ومحاسبة المخالفين ومقاومة الجريمة والتخفيض في نسب البطالة فهنالك عجوز ميت في قبر مجهول مازالت كتفاه تحتمل حمل أوزارها وإخفاقاتها في الحكم، إذ إن كل حركة تخلط بين المعاني وتتخلى عن مميزها الفكري حتى ترضي خصومها ليست جديرة بأن تدعي أنها ذات مرجعية دينية خاصة بعد أن وثق فيها الشعب فاختارها لتحقيق أهداف ثورته.
يبقى أن مع كل اصطفاف جديد تتبدل الشعارات والتحالفات وتتغير الأسماء والألقاب وحتى الأنساب وقوائم الأصحاب، وتتغير قبلة السياسيين من عاصمة إلى أخرى لنصبح جميعًا في مهب أوهام الأيديولوجيا والاستقطاب، منهمكين في حروب وهمية لا معنى ولا نهاية لها، إلى أن نخسر أنفسنا وكياننا ووطننا.