عندما انتهجت الحكومات العراقية المُتعاقبة بعد 2003م سياساتها الطائفية الإقصائية وبثوب الدولة؛ حكمت على نفسها بالفشل من أن تنجح في بناء الدولة العراقية الجديدة، فلبناء العراق من جديد تحتاج الحكومات إلى رجال دولة وهم العرب السنة الذين حكموا العراق طيلة العقود الماضية، خاصة وأن العرب الشيعة لم يكونوا مستعدين فكريًا للمشاركة في الدولة قبل فكرة ولاية الفقيه الإيرانية التي تُعتبر اجتهادًا أو ربما بدعة في الفكر السياسي الشيعي.
إن العرب السنة ساعدتهم مكانتهم لدى الدولة العثمانية ونفوذهم داخل مفاصلها على تَسلم مهام الدولة الجديدة بعد الاستقلال عام 1921م بسبب كفاءتهم وخبرتهم العسكرية والإدارية، فحافظوا على مكانتهم في الدولة إداريًا وعسكريًا، واستمر ذلك أثناء الحكم الملكي، وحتى حين تحولت الدولة من ملكية إلى جمهورية.
ولكن بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 انعكست سلبًا على حقوقهم وتمثيلهم السياسي بالرغم من أن تلك الأنظمة المحسوبة على العرب السنة لم تمثلهم كطائفة وإنما مثلتهم كأمة تحتوي الجميع بمعنى أنها لم تنتهج سياسات طائفية بقدر ما كانت أحزاب وأنظمة شيوعية واشتراكية مستبدة تتصرف باسمها وتقمع جميع المكونات بوحشية وخاصة التي حاولت استهداف السلطة السياسية.
عندما نقول إن العرب السنة رجال دولة هذا لا يعني أن غيرهم ليسوا كذلك، وإنما لن تقوم للعراق قائمة بدون العرب السنة الذين لم تتعرض مكانتهم في الدولة للخطر إلا في فترات تاريخية مظلمة من تاريخ العراق كما حصل بعد 2003، واحتلال المغول لبغداد، إن العقل السني ليس طائفي بالضرورة لأنه عقل الأمة الجامع لكل الأطياف والألوان، أما عندما يتصدر المشهد الطائفيون أنصاف العقول، لا يطرحون حلولاً كاملة للدولة تجمع وتُوحد الجميع وإنما يطرحون أنصاف حلول، لأن أنصاف الحلول تُطرح من قِبل أنصاف العقول وفكر هؤلاء لا يبني دولة مطلقًا، فكيف يمكن تفسير ماحصل بعد عام 2003 عندما حَكمت الأحزاب العقد المُنصرم وعندما فازت بتشكيل الحكومات المتعاقبة بالانتخابات والديمقراطية وبحكم الأغلبية ولم تستطع تقديم شيء ولا حتى بناء أركان الدولة التي تُعتبر ألف باء السياسة من الدستور والعملية السياسية والجيش والمؤسسات، فهم باستطاعتهم حكم العراق والوصول إلى أهدافهم الشخصية والطائفية ليس عن طريق المليشيات والقتل والتزوير بل عن طريق الديمقراطية وأدواتها وآلياتها، لكن للأسف العقل الطائفي لا يبني دولة.
إن العراق واحد من 90% من دول العالم التي تعيش مجتمعاتها خليطًا غير مُتجانس اجتماعيًا وعرقيًا ولغويًا، لكن تفعيل نقاط الخلاف بين المكونات وذلك الخليط الاجتماعي يُعتبر سلوك وتعبير عن حالة ما قبل الدولة، علمًا أننا كذلك، فأصحاب العقول ورجال الدولة الذين يحكمون دولهم غير المتجانسة يحاولون إحضار المشتركات وتغييب المتناقضات بين الطوائف والأعراق أو استيعابها على الأقل، فهم يُدركون أن السني والشيعي والكردي بشر في النهاية وهناك مشتركات إنسانية تجمعهم وتتبلور عن طريق المشروع الوطني للدولة الذي يستظل الجميع تحته.
وتتعامل الدولة مع أفراد المجتمع ليس على أساس أن فلان من الجنوب أو من الشمال أو من الطائفة الفلانية أو العرق الفلاني، وإنما على أساس أنهم بشر فقط، لذا سيشعر هذا الفرد بأن انتماءه للوطن أكبر من الانتماء للطائفية أو العرق أو الهوية الفرعية وستصبح شيئًا ثانويًا مع الزمن، أما إذا غاب الشعور بالانتماء للوطن؛ ستظهر المشاعر غير الوطنية التي تعبر عن نفسها بالسلوك الطائفي والعرقي، وهذا ما يَحدث في العراق جراء حكم سياسيين طائفيين متطفلين على العراق والزمن وادخلوا العراق والعراقيين في غياهب التاريخ.