ترجمة وتحرير نون بوست
في البداية تم ضرب عمال الإغاثة المتطوعين الذين يتناولون الفطور بالقرب من الحدود السورية، ومن ثم المسيرة السلمية الكبيرة الفرحة في وسط أنقرة، عاصمة البلاد، ومن بعدها السياح الأجانب الذين يلتقطون الصور بجانب الآثار المجيدة في قلب مدينة إسطنبول القديمة، وأخيرًا، قافلة من العسكريين مرة أخرى في وسط أنقرة.
مع مقتل حوالي 200 شخصًا خلال السبعة أشهر الماضية فقط، تستمر الضربات التي تتلقاها تركيا؛ أربع هجمات، أربعة أهداف، وغاية واحدة: المزيد من الإرهاب والفوضى والعنف.
في خضم ذلك، سعى رئيس الوزراء التركي، أحمد داود أوغلو، لتحويل التفجير الأخير بسرعة ليوائم المصلحة الجيوسياسية التركية، حيث أعلن أن المهاجم هو السوري صالح النجار، الذي يتمتع بعلاقات مع المجموعة العسكرية الكردية السورية المعروفة باسم وحدات حماية الشعب (YPG)، وأضاف بأن النجار تلقى التوجيهات بشأن التفجير من حزب العمال الكردستاني (PKK).
حزب العمال الكردستاني، والذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كمنظمة إرهابية، خاض حربًا متقطعة مع تركيا منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويخوض اليوم اشتباكات عنيفة ومستمرة مع الجيش التركي في جنوب شرق البلاد منذ وقوع تفجير سروج في يوليو الماضي.
وفي ذات السياق، دعا داود أوغلو حلفاء تركيا، كالولايات المتحدة الأمريكية التي تعتمد على وحدات الحماية الكردية في حربها ضد داعش، لوقف التنسيق مع المجموعة، حيث صرّح قائلًا: “من غير الوارد بالنسبة لنا تبرير التسامح تجاه منظمة إرهابية تستهدف شعبنا في قلب عاصمتنا”.
تدهور الوضع الأمني
بالتزامن مع استمرار قصف الجيش التركي لمواقع وحدات الحماية في شمال سوريا لليوم الرابع على التوالي، نفى حزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني أي تورط لهما في الهجوم الأخير، ولكن في هذه المرحلة، من غير المهم حقًا معرفة هوية الجاني الحقيقي، لأن القضية الأكثر إلحاحًا هي الأمن؛ فتركيا هي دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتمتلك جيشًا محترمًا وجهاز مخابرات وأمن معتبر، كما أنها تشكل نوعًا من الجدار الذي يحمي من الفيضانات، حيث تساعد على إبقاء دوامة الاضطرابات الكبيرة السورية بعيدًا عن مشارف أوروبا؛ فمن بعد تركيا، سيحدث الطوفان.
سعت أنقرة منذ بداية الحرب السورية للإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، حيث دعمت الجماعات المعارضة السورية المسلحة من خلال توفير طرق عبور للأسلحة والمقاتلين، واُنتقدت في الآونة الأخيرة لمساعدتها على تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وفي الأشهر الأخيرة زادت تركيا من رقابتها على الحدود، بنت جدارًا حدوديًا، وألقت القبض على مئات الإرهابيين المشتبه بهم داخل البلاد.
ولكن من الواضح بأن هذه الإجراءات أتت بعد فوات الأوان، لأن أمن تركيا تدهور بشكل كبير بالتزامن مع تضاعف التحديات الأمنية وتحولها لتضحي أكثر فتكًا، وذلك بفضل امتداد الأزمة من سوريا.
أما في جنوب شرق البلاد، فتنخرط تركيا في حرب تمرد عنيف وصراع دموي يدور في المناطق الحضرية، أسفر مؤخرًا عن هجوم لحزب العمال الكردستاني على قافلة عسكرية قرب ديار بكر صباح يوم الخميس مزهقًا أرواح ستة جنود أتراك، وفي الوقت عينه، تتلقى تركيا ضربات متكررة ومميتة في قلب المناطق التي ينبغي أن تكون أكثر المناطق أمانًا وحماية.
تشير الدلائل بأن الإرهابيين، الأتراك منهم والسوريين، بنوا نوعًا من البنية التحتية التي يصعب القضاء عليها، وليس سرًا بأن داعش وحزب العمال الكردستاني على حد سواء يتخذان مقرات في الداخل التركي، ولا مندوحة من أنهما يستطيعان ضرب البلاد متى أرادا ذلك، كما أن قائمة الأعداء المحتملين للدولة التركية تشمل وحدات الحماية الكردية، نظام الأسد، وروسيا.
وفي ذات السياق، تم تنفيذ التفجيرين الانتحاريين الأخيرين في تركيا من قِبل لاجئين سوريين، حيث يعيش نحو 2.5 مليون لاجئ سوري الآن في تركيا، ويستمر العديد منهم بالعبور من تركيا للاستقرار ضمن الاتحاد الأوروبي، مشكّلين تهديدًا أمنيًا محتملًا سواء لتركيا أو للقارة العجوز.
يشير أوزغور أونلو هيساراجيكلي، مدير مكتب أنقرة لصندوق مارشال الألماني، إلى ثلاث خطوات اتخذتها الحكومة التركية قوضت من خلالها قدرات الأمن التركي في السنوات الأخيرة، الأولى هي حالات مؤامرات الانقلاب الواسعة النطاق، والمعروفة باسم إيرجينيكون وباليوز، والتي أدت إلى إقالة أو سجن كبار العسكريين المسؤولين وتآكل الروح المعنوية للجيش، والثانية قيام الحكومة التركية بتسريح الآلاف من ضباط الشرطة المرتبطين بحركة غولن، مما أدى إلى انخفاض فعالية قوة الجيش، وأخيرًا تأسيسها لعلاقات مضطربة على نحو متزايد مع الدول المجاورة، مما قيّد دبلوماسية تبادل المعلومات الاستخبارية مع تلك الدول.
سلام في الداخل وسلام في العالم
قد ترغب أنقرة بوقف تركيزها على مناوشة بوتين وتدمير حزب العمال الكردستاني ووحدات الحماية الكردية والأسد، لتلتفت إلى شؤونها الداخلية، وهو ما يلخصه أونلو هيساراجيكلي بقوله: “يجب للسياسة الخارجية التركية أن تعطي الأولوية لأمنها القومي بدلًا من التركيز على دول الجوار”، وهذه المقاربات من الممكن أن تنطوي أولًا على الوصول لاتفاق وقف إطلاق النار مع حزب العمال الكردستاني واستئناف مفاوضات السلام، ومن بعد ذلك الالتفات للتركيز بشكل حازم على الإرهاب المحلي، وأخيرًا، يجب على أنقرة أن تتجه للمملكة العربية السعودية للتشارك معها بتجربتها الناجحة بمحاربة الإرهاب بالداخل.
فبعد اطراد الهجمات الإرهابية في المملكة العربية السعودية ما بين عامي 2003 و 2006، شنت الرياض إحدى أنجح حملات مكافحة الإرهاب في العالم، حيث عززت الحكومة من تعداد عناصر الشرطة وقوات الأمن، وسعت وحسّنت من نطاق جمع المعلومات الاستخبارية، شيّدت سجونًا جديدة، خلقت أحد أكثر برامج مكافحة التطرف فعالية في العالم، كما شجعت الأئمة المشهورين على إلقاء الخطب المعارضة للتطرف والنشاط الإرهابي، والنتيجة كانت عدة سنوات من انعدام الوفيات الإرهابية تقريبًا.
بالنسبة لتركيا، تبدو مهمة تحسين الظروف الأمنية في الداخل، في ظل الحرب العالمية المصغرة الجارية في سوريا، شاقة للغاية، ولكن تحقيق ذلك سيقدم ميزة إضافية، تتمثل بوضع ضوابط أكبر للحدود ومراقبة حركة الهجرة، حيث مازال حوالي 10.000 مهاجر يعبرون من تركيا إلى اليونان عبر بحر إيجة في كل أسبوع، كما رفضت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل الالتزام بخطة أنقرة المقدمة لدول الاتحاد الأوروبي والساعية لإعادة توطين مئات الآلاف من اللاجئين الذين يعيشون الآن في تركيا.
في الواقع، ألغى داود أوغلو زيارته المقررة إلى بروكسل للقاء ميركل ومناقشة هذه القضية على خلفية وقوع تفجيرات أنقرة الأخيرة، ولكن إذا استطاعت تركيا تحسين الرقابة على الحدود وتحسين مراقبة المهاجرين عبر البلاد، فإن الاتحاد الأوروبي سيباشر بتخفيف الأعباء الملقاة على كاهل تركيا.
بطبيعة الحال، لم تأت حملة مكافحة الإرهاب السعودية بثمن بخس، وهذا يلقي بعبء إضافي على اقتصاد أنقرة المتراجع بالفعل جرّاء تباطؤ الدورة الاقتصادية، ولكن الخيارات التي تمتلكها تركيا بسيطة للغاية، إما إعطاء الأولوية لمكافحة الإرهاب والاستثمار بكثافة في تحسين الأوضاع الأمنية، أو الاستمرار بالانزلاق، ببطء ولكن بثبات، في المستنقع السوري.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية