ترجمة وتحرير نون بوست
ربما بفضل والدتهم، يمتلك أطفالي ذاك الشعور الحاد بالحاجة الملحة لمعالجة الحالة التي يرثى لها التي يعيشها الكثيرون من سكان العالم، ولكن من جهتي، كنت أريد أن أوسّع مداركهم ليستوعبوا الدور الأساسي الذي يمكن للرأسمالية، التي خلّصت أناسًا كثرًا من براثن الفقر بشكل أكبر من أي نظام اقتصادي آخر في التاريخ، أن تلعبه ضمن هذا الجهد الهام والملح.
لذلك قمت باصطحابهم إلى كوبا، التي تُصنَف، جنبًا إلى جنب مع كوريا الشمالية، على أنها أدنى دولة بالاقتصاد الحر في العالم.
تعجبنا من المباني القديمة المذهلة وغير المرممة، والتي تشهد على إرث الازدهار الكوبي في الماضي، ومن الأعداد الكبيرة لسيارات الخمسينيات الأمريكية الملونة التي كانت تضاهي تلك المباني جمالًا، ورأينا أيضًا البلد الذي يبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيه ذات ما يكسبه الفرد في سريلانكا وسوازيلاند.
يعمل حوالي ثلاثة أرباع الكوبيين في المصالح الحكومية، وأغلبهم يتقاضى أجورًا هزيلة؛ فأجر الطبيب في الشهر هناك لا يتجاوز حوالي الـ75 دولار أميركي في الشهر أو أقل.
بالنسبة للمواطنين المتوسطين الكوبيين، الحصول على السلع الغربية هو أمر بعيد المنال للغاية، فكما لاحظنا أنا وأطفالي عندما دخلنا إلى أحد المتاجر المتهالكة التي تقبل عملية البيزو فقط، لا تعرض تلك المتاجر سوى البضائع الكوبية ذات الجودة المنخفضة.
ولكن لنكون منصفين، توفر كوبا شبكة أمان واسعة تعمل على تخفيف أثر تدني الرواتب، وتساعد أولئك الذين يمتقعون بالفقر للتأقلم مع الفقر المدقع في البلاد، ولكن مبدأ رعاية المحتاجين لا يتعارض مع مبادئ الرأسمالية، وفق ما أثبتته العديد من البلدان الأوروبية.
كنت أريد لأبنائي أن يروا عن قرب عدم فعالية الاشتراكية في خلق الازدهار، وكنت حريصًا على أن يستوعبوا بأن خلاص البلاد يمكن أن يكون بعين النظام الذي انتقده فيدل كاسترو: الرأسمالية.
مع انهيار اقتصادها إبان تبخر الدعم من روسيا وفنزويلا، بدأت كوبا في عام 2011 بمنهج تحرر تدريجي للغاية، حيث سمحت للمؤسسات الخاصة بالازدهار في بعض القطاعات، سيّما تلك المتعلقة بالسياحة، مثل المطاعم.
“إما أن نغير مسارنا أو سنغرق”، قال راؤول كاسترو الذي خلف شقيقه رئيسًا للبلاد.
اليوم، وبمساعدة عودة انفتاح العلاقات مع الولايات المتحدة، تفيض هافانا بالزوار الأجانب وتضج بالثرثرة حول جحافل السياح المحتملين الذين لم يصلوا بعد إلى البلاد.
السيارات الأمريكية العتيقة الملونة، والتي كانت جزءًا لا يتجزأ من نظام النقل عندما زرت كوبا لأول مرة منذ 14 عامًا، أضحت الآن تبدو إحدى المعالم السياحية مع فيضان السيارات الحديثة التي تملأ البلاد، كسيارات الهوندا، الكيا، الفولكس واجن، وحتى البي إم دبليو في بعض الأحيان.
هافانا القديمة، التي كانت المناطق التي تم ترميمها ضمنها تتمثل بمجرد بضعة كتل غير مزدحمة في عام 2000، توسعت وتضخمت بالتوازي مع تجديد المباني القديمة الساحرة، وهذه المنطقة الجديدة الخلابة أصبحت متكدسة اليوم بالسياح الذين ينحدرون إليها من الحافلات السياحية الأنيقة المنتشرة في كل مكان.
إضافة إلى ما تقدم، تم إنشاء منطقة للتجارة الحرة في ميناء مدينة مارييل الصغيرة، وأضحت قيادة البلاد تنشر الآن قائمة أمنيات سنوية تضمّنها جميع المشاريع التي تسعى لتعهد بها للاستثمارات الأجنبية، وأغلب هذه الاستثمارات هي في قطاعات الرعاية الصحية والسياحة والنقل؛ فمثلًا هذا العام، تسعى كوبا لاستقطاب استثمارات أجنبية بقيمة 8.2 مليار دولار لتغطي 326 مشروعًا.
تم استقبال هذا الانفتاح بحماس هائل من قِبل عمال القطاع الخاص الكوبيين، الذين يعملون في كل المجلات، كتشغيل المطاعم وبيع الفن لهواة جمع العملات والتحف الأجنبية، ويتقاضون أجورهم بالبيزو الكوبي القابل للتحويل (CUC)، كما أضحت المتاجر في المدينة تقدم مجموعة واسعة من السلع الأجنبية ذات النوعية الأفضل.
وفي ذات الوقت، بلغت الإثارة أشدها لدى المواطنين حول مشاريع التطوير العقاري المحتملة، والتي لا تزال شائعات أكثر من كونها حقيقة، حيث زار ممثلون عن سلاسل فنادق الفور سيزنز وماريوت المدينة مؤخرًا لاستطلاع المواقع، وتقول التسريبات بأن الخطط جارية لتشييد ما لا يقل عن 12 فندقًا جديدًا.
صقل الهياكل القديمة لا يزال مستمرًا على قدم وساق، فالخمسة عقود ونيف التي قضتها هافانا بمعزل عن تنمية الطراز الأميركي، جعلتها موطئًا مثاليًا لحركة إعادة الترميم لتصبح وجهة سياحية خلابة.
الوجود الأميركي في كوبا آخذ في الازدياد؛ ففي أحد المطاعم الحديثة في هافانا القديمة، قام النادل بتسجيل طلباتنا باستخدام جهاز آيباد لامع صغير، كما أن موقع (Airbnb) يقوم بأعمال هائلة في الداخل الكوبي، وحتى ملاعب الغولف – التي حظرها فيدل كاسترو – بدأت بالعودة بشكل متباطئ إلى الحياة في كوبا، وقريبًا ستتمتع البلاد بوصول أفضل إلى شبكة الإنترنت، وهو أحد شروط الاتفاق الأخير بين كوبا وأمريكا، وبالتوازي مع ذلك ستطرد حرية تدفق الأفكار والمعلومات.
هذه هي كوبا، التي سيراها الرئيس أوباما في رحلته المزمعة إلى هناك الشهر المقبل، في أول زيارة لرئيس أمريكي على رأس منصبه لكوبا منذ 88 عامًا، وعلى الرغم من أن التجارة بين الولايات المتحدة وكوبا ما لا تزال مقيدة للغاية، إلا أن زيارة أوباما هي إحدى أقوى الأدلة التي تشير إلى أن الوجود الأمريكي والأفكار الأمريكية حول الحرية الاقتصادية آخذة في النمو هناك.
تحوّل كوبا إلى التحرر السياسي يبقى أمرًا غير مؤكد في أحسن الأحوال؛ ففي بعض النواحي، تذكرني كوبا بالصين، تلك البلاد التي يبدو بأن سكانها يفضلون الازدهار الاقتصادي على تحقيق الديمقراطية.
أخيرًا، وفي ظل بقاء أغلب القطاع الاقتصادي تحت سيطرة الدولة، ما زال أمام كوبا قائمة طويلة من الأمور التي ينبغي أن تقوم بها، ولكن في الوقت الذي لم ينجح الحظر الأمريكي المفروض على كوبا في إصلاحها، ربما قد تنجح الرأسمالية التي تتسلل ببطء وثبات إليها في تلك المهمة.
المصدر: نيويورك تايمز