انتهت جولة مفاوضات وزير النفط الفنزويلي ديل بينو بنتيجة عدتّها الدول المنتجة للنفط أنها ليست على المستوى المطلوب ولكنها خطوة ستؤدي إلى خطوات أخرى إيجابية في المستقبل القريب، وبعد كل تلك الاجتماعات الماراثونية طفت أسئلة على السطح حول الأثر الحقيقي لتجميد الإنتاج على روسيا؟ وهل كان كل هذا الدفع بخفض الأسعار يستحق هذه النتيجة التي وصلت إليها؟
وُصف الاقتصاد الروسي قبل سنوات ضمن الاقتصاديات الأقوى في العالم مع احتياطيات كبيرة للعملة الصعبة وللنفط والغاز واقتصاد ينمو بوتيرة سريعة ومستقرة، إلا أن شيئًا ما حدث بعد إظهار روسيا نيتها التمدد خارج حدودها غير آبهة بالطريقة التي تتبعها، فاتبع بوتين أساليب الحرب القديمة لإبراز حضور روسيا في الملفات الساخنة على المستوى الإقليمي والدولي، دون الاكتراث أن الضغوط الاقتصادية والسياسية اليوم قد تحقق ما لا تحققه الحملات العسكرية التي تكلف أموالا طائلة وترهق الاقتصاد.
فسيطر الجيش الروسي على شبه جزيرة القرم ودخلت روسيا في أزمة سياسية مع أوروبا فرضت بسببها الدول الغربية عقوبات اقتصادية ساهمت في عزل روسيا وإنهاء حالة الانفتاح الاقتصادي على الغرب.
ومن ثم ناطحت الدول النفطية المنتجة في أوبك كالسعودية ودخلت معها في صراع صامت أدى لهبوط أسعار النفط إلى مستويات متدنية جدًا وصلت إلى حدود 30 دولارًا للبرميل، علمًا أن النفط يشكل ما يقرب من 80% من إيرادات الصادرات الهيدروكربونية وهذا استنزف الخزينة الروسية بشكل حاد أدى لجعل الاقتصاد الروسي فريسة سائغة أمام سعر النفط.
وفتحت جبهة حرب في سوريا لمساندة حليفها بشار الأسد والتي تحتاج لمصاريف ضخمة حيث تقوم القوات الروسية بطلعات جوية في سوريا يوميًا تقدر بـ 300 طلعة على أقل تعديل، كل طائرة تحمل 4 صواريخ باستثناء القصف المدفعي الكثيف، واستقبل الاقتصاد الروسي أزمة أخرى بعد تصاعد حدة التوتر مع تركيا على إثر إسقاط الأخيرة طائرة السوخوي الروسية.
وبالتالي تجتمع هذه العوامل الآنفة الذكر مع بعضها لتشكل أساسًا قويًا أصاب الاقتصاد الروسي “الوهن” وبدأ يقوم بخطوات عملية للتخفيف منه من خلال الدخول بخطوات جدية مع السعودية لإعادة الاستقرار لأسواق وأسعار النفط، ومحاولة الانتهاء من الأزمة السورية بسرعة.
في شهر فبراير/شاط أفلس مصرفان روسيان أحدهما “إنتركوميرتس” متوسط الحجم والذي وضع تحت الوصاية في نهاية يناير/كانون الأول بسبب ضعف وضعه المالي في الأشهر الأخيرة، حيث لم يعد قادرًا على تأمين سحوبات الزبائن، كما سحب المركزي الروسي الرخصة من مصرف آخر صغير “التايتك” بسبب خسائر في السيولة تمنعه من الوفاء بالتزاماته لدائنيه، وكان قد أفلس مصرف كبير هو “فنيرشيرومينك” بعد اكتشاف مخالفات كبيرة في حساباته.
وأعلنت ثمانية بنوك روسية كبرى تسريح ما يقرب من 50 ألف موظف من أبرزها بنك “روسكي ستاندارت”، “إف تي بي”، “روس فينانس بانك”، “كريديت فينانس بانك”، و”بانك فستوتشني إكسبرس”، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن حجم الأجور الحكومية للموظفين المتأخرة بلغ نحو 550 مليون دولار.
كما هوى الإنتاج الصناعي الروسي بنسبة 20% خلال شهر فقط، وهوت العملة الروسية الروبل إلى 80 روبلاً للدولار وهذا سبب زيادة في التكاليف على الشركات الروسية التي تتعامل بالروبل في حين أنها تسدد ديونها الخارجية بالدولار أو بالعملات الصعبة الأخرى مما سبب إفلاس الكثير منها، ومن جهة أخرى يضطر التجار بسبب عدم استقرار أسعار الروبل والأسواق إلى إعادة تسعير البضائع بشكل يومي ورفع الأسعار على المواطنين الذين تراجعت قدراتهم الشرائية بالفعل.
ومن ثم تتأثر حركة الاستثمارات الأجنبية حيث عمد العديد من المستثمرين إلى سحب استثماراتهم من روسيا وعلقت بعض الشركات أعمالها فيما قلصت أخرى من أنشطتها هناك، وهذا بدوره أدى إلى تفاقم الآثار الاجتماعية بسبب تقليص العمالة و تسريح العمال فارتفع معدل البطالة.
فالسيناريو الخطر الذي يفترضه المصرف المركزي الروسي يعتمد سعرًا للنفط أقل من 40 دولارًا للبرميل الواحد، وفي هذه الحالة فإن الاقتصاد الروسي، بحسب تقديرات المصرف، سوف يتراجع بنسب إضافية تتراوح ما بين 2 – 3%، كما أن معدلات التضخم شهدت ارتفاعًا إلى 15%، والروبل الروسي هبطت قيمته لأكثر من النسبة التي حددها فلادمير بوتين وعليه فإنه من الصعب التخمين بتحسن في الاقتصاد الروسي في ظل هذه الظروف التي تحيط بالاقتصاد؛ فالميزانية الروسية تفتقر للأموال لرفع الرواتب والمعاشات وهذه الحالة ستفرض على السكان تقليص نفقاتهم من شراء السلع والخدمات وخصوصًا الإنفاق على السلع الكبيرة ذات الاستخدام الطويل كالسيارات والسكن ما سيؤدي إلى تراجع في النمو الاقتصادي في البلاد.
لقد خاضت روسيا في نفس الوقت حربًا عسكرية خارج حدودها واقتصادية في سوق النفط مع الدول الأخرى المنتجة للنفط واجتماعية مع الشعب الروسي؛ ما أرهق الاقتصاد الروسي وحملتّه أكثر مما يطيق فبدأت السياسة الروسية بتغيير الدفة السياسية للتخفيف من وطأة الضغط الاقتصادي الذي تواجهه.
حيث أدركت في النهاية أن دخولها المتعسف في غمار المعركة الدولية حوّل اقتصادها إلى اقتصاد حرب موجه للإنفاق العسكري ومعزول دوليًا بسبب العقوبات الغربية على قطاعي المصارف والطاقة، وكبّل مشاريع قومية بعد الأزمة مع تركيا، فتحولت من المواجهة العسكرية إلى التفاوض والتهادن من أجل رفع الثقة بالاقتصاد الروسي في مقابل تقديم تنازلات.
ففيما يخص تجميد الإنتاج ستستفيد روسيا منه من خلال إيجاد قاع للهبوط في أسعار النفط كما أنه خطوة مهمة لتحقيق استقرار أسعار النفط أو حتى الأسواق العالمية كما يشير تقرير لـ “بنك أوف أميركا ميريل لينش” ويتوقع التقرير أن يساعد تجميد مستوى الإنتاج إلى ارتفاع سعر النفط إلى 47 دولارًا بحلول يونيو /حزيران القادم.
فأبدت بعض الليونة ليس بتثبيت إنتاج النفط عند مستويات يناير/كانون الأول فحسب ولكن أيضًا في الجلوس مع السعودية والحديث بشأن إعادة الاستقرار لأسواق وأسعار النفط، فهذه بحد ذاتها تعتبر خطوة للأمام.
كما أن رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو أشار يوم الجمعة في كلمة تلفزيونية أن بلاده بصدد إرسال مقترحات جديدة لزعماء دول في أوبك وخارجها من أجل تحقيق استقرار السوق.
فيما أشار ديل بينو وزير النفط الفنزويلي أن “الذين ينتجون النفط عليهم أن يحكموا الأسواق ويحددوا الأسعار”، وقال إن الدول الأربع اتفقت على مراقبة سوق النفط حتى شهر يونيو القادم وقد تتخذ تدابير إضافية إذا لزم الأمر.
وفي النهاية يبقى السؤال : هل استحق العناد في هذه السياسة المتبعة كل هذا؟ في رسم الإجابة عند المواطن الروسي الذي تأثر كثيرًا بهذه السياسة وتحمل أعباءً اجتماعية واقتصادية كثيرة.