ترجمة وتحرير نون بوست
الحملات الانتخابية الرئاسية غير المعتادة لدونالد ترامب وبيرني ساندرز هي الحدث الأكثر تسلية الذي نشهده منذ سنوات عديدة؛ فالحشود الكبيرة التي تحضر حملاتهما الانتخابية بشكل روتيني يذكروننا بجمهور الأحداث الرياضي وليس بجمهور الأحداث السياسية، كما أن الجمهور الذي يتابعهم على شاشات التلفاز يستمعون بشغف للمناقشات المتلفزة غير مبالين بما ستحتويه من احتماليات تعلّم أمر جديد حول برنامج رعاية أوباما الصحي أو حول الأوضاع في سوريا، بل ينشدون مشهد ترامب وهو يُزعج بتصريحاته جيب بوش التعيس، وينجذبون لشكل ترامب وهو يتلقى الصفعات السياسية المحرقة عبر استنكارات ساندرز المحقة.
هناك شيء مختلف، ولم يسبق له مثيل، حول ترشح ترامب وساندرز، فالحملات التاريخية لرئاسة الولايات المتحدة في هذه الدورة تعكس الأعراض الحقيقية للحياة التي تعيشها الولايات المتحدة اليوم، والمتمثلة بأوجه القصور الأمريكية الوخيمة في حكم المؤسسات الاقتصادية والسياسية والوطنية، وفقدان الشرعية التي تعاني منها تلك المؤسسات جرّاء تبرّم الرأي العام الأمريكي من أوجه القصور في الوضع الراهن.
شهدت الألفية الجديدة ثلاثة أحداث فارقة منذ دخولها إلى حياتنا، فأولًا حصل الهجوم على مركز التجارة العالمي في سبتمبر 2001، وبعدها غزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003، وأخيراً الكساد الاقتصادي العظيم.
انحسار حياة الطبقة المتوسطة
لم يقم الاقتصاد الأميركي بأداء ما هو متطلب منه بمواجهة معظم الأميركيين منذ عقود؛ فالإيرادات تعاني من الركود، والحلم بحياة مريحة للطبقة المتوسطة ينحسر بشكل متسارع.
لم تنجم هذه الآفات على إخفاق أخلاقيات العمل الأمريكية الشهيرة، بل نجمت عن تشوه وانحراف المصالح والسلطة في صفوف القوة المالية الأمريكية والفساد المستشري في قلب عمالقة الاقتصاد الأمريكي.
كشف الهجوم الناجح لتنظيم القاعدة على الولايات المتحدة في مطلع هذه الألفية، والحرب اللاحقة الدامية والمدمرة في العراق، عن العفن الذي ينخز في نخاع نظم صنع القرار السياسي والمخابرات الأمريكية؛ فعملية شن الحرب برمتها تم اتخاذها في صلب دائرة صنع القرار بناء على كذبة، فهل هناك من ينسى سلسلة المزاعم الزائفة التي طُرحت في قلب النقاش؟
قادت الطبقة السياسية في الولايات المتحدة – الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء – جوقة دعم ضمن الولايات المتحدة لتأييد تلك المغامرة الفاشلة، والتي لا يزال إرثها المدمر يهيمن على أخبار اليوم، حيث حرّضت نظم الاستخبارات والجيش على المهزلة، وصفقت لها الصحافة مشجعة.
العصر الرقمي، الذي كان من المفترض أن يفتح آفاقًا خيالية من بث الحقيقة والمعرفة للجمهور المهتم والمتعلم، ويفتح الباب أمام النقاش العام حول القضايا الوطنية الهامة، تحوّل بدلًا من ذلك إلى أداة حيوية خبيثة لخلق ونشر الأكاذيب الرسمية، ولصناعة الجهل الشعبي وسوء الفهم الخطير، التي مهدت بتعاضدها الطريق لغزو واحتلال العراق.
النظام الأمريكي فقد صوابه
غالبًا ما يُنظر إلى هذه الأحداث ويتم فهمها كأحداث مهمة ولكنها منفصلة، بمعنى أن أهميتها تكمن بانفرداها بحد ذاتها بمعزل عن غيرها.
ولكن الحقيقة هي أن هذه الأحداث المؤثرة في الحياة الأمريكية، وغيرها من الأحداث المرتبطة بها، لا تحدث بمعزل عن بعضها البعض، كما أنها لم تحدث بين عشية وضحاها؛ فجميعها نتاج لفقدان صواب النظام في الولايات المتحدة الأمريكية، وتمثل علامات على أزمة أعمق مما تبدو عليه بكثير، وتتطلب اهتمامًا يفوق مجرد الوصفات والعلاجات المترهلة التي اتخذها قادة القرار المالي والسياسي في الولايات المتحدة.
أنصاف الحلول المُتخذة ليست أمرًا مفاجئًا؛ فما الذي يمكن أن تتوقعه عندما تطلب من الثعلب أن يصلح حظيرة الدجاج؟
لا يمكن فهم الترشيحات غير المعتادة لترامب من الحزب الجمهوري وساندرز من الديمقراطي دون الرجوع إلى هذه الأزمات، التي ترتبط بحد ذاتها مع بعضها البعض؛ فترامب وساندرز لا يتوافقان على أساليب حلول المشاكل التي تعاني منها أميركا، لكنها يتشاطران ذات وجهة النظر حول حاجة أميركا لثورة جديدة لجعلها بلادًا عظيمة مرة أخرى.
الأمريكيون غاضبون وخائفون، ليس فقط بسبب فشل النظام بمعالجة طائفة عريضة من التهديدات الأمنية التي تهددهم وعائلاتهم، بل أيضًا لعدم دفع أي شخص في المجتمع المالي أو السياسي لثمن الآثام أو سوء التقديرات التي تمت ممارستها، بل عدم وجود أحد في الواقع يدرك حتى خطورتها؛ فهجوم تنظيم القاعدة يُعتبر كبوة حصان منفردة، ويُلقى باللوم على الحرب في العراق على العراقيين، كما يُقال بأن الكساد العظيم لقّن النظام دروسًا سيتم الاستفادة منها.
يتحول الغضب الشعبي إلى كراهية من قِبل الناخبين في حال الإخفاق في معالجة أسباب هذا الغضب أو في حال الفشل بالاعتراف بها؛ فالدعم المعلن من المرشحين الجمهوريين الرئيسيين خلال المناظرتين الأخيرتين لسلوك جورج بوش في حرب العراق، ورفض تحميله المسؤولية عن حوادث الحادي عشر من سبتمبر، وتشكيل هيلاري كلينتون للشراكات مع وول ستريت، هي انعكاسات لجهل السياسيين وسوء استعدادهم للتصدي للمزاج العام الذي لا يفهمونه.
ضراوة الكراهية
صناديق الاقتراع هي المكان الذي سيسجل ضمنه الناخبون ضراوة كراهيتهم للطريقة التي تبدو عليها الأمور اليوم، وليس من المستغرب بأن النقاد والمتخصصين، الذين يدعون بأنهم يعرفون كيف يفكر الأميركيون أو يسعون لتعليمهم، مندهشون من الحملات النشطة لمنشقي اليسار (ساندرز) واليمين (ترامب).
الطاقة التي يتمتع بها هؤلاء تتناقض تمامًا مع طاقة جمهور المرشحين الأوفر حظًا، بوش وكلينتون، وريثا العائلتين اللتان تتمتعان بخبرة في السلطة، واللذان خفت بريقهما بشكل قاتل بسبب الإيمان الذي يغمر صدور الجمهور حول عدم استحقاق ممثلي النظام التقليدي لثقتهم بعد الآن.
وعود ترامب بجعل الولايات المتحدة عظيمة مرة أخرى، ونداءات ساندرز بتحقيق ثورة أمريكية جديدة، هما وجهان لعملة واحدة، وكل شخص منهما يمثل، بطريقته الخاصة، استجابة حقيقية لمعارضين كبيرين للفشل غير المسبوق لنظام الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة، وللقطيعة والجفاء التي يشعر بها العديد من الأميركيين تجاه المؤسسات الاقتصادية والسياسية التي تحكمهم.
كل من ساندز وترامب يطالبان بتحمل القادة والمؤسسات للمسؤولية غير المريحة للحقائق التي يعتقد كل منهما بأنه الوحيد الذي يمتلك الجرأة الكافية للاعتراف بها، تلك الحقائق التي تتمثل بفشل بوش في حماية الولايات المتحدة، تأسيس الحرب في العراق بناء على كذبة، وبأن السياسيين التقليديين، الجمهوريين منهم والديمقراطيين، هم مصدر المشاكل الاقتصادية للولايات المتحدة والعقبة التي تقف في وجه حلها.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية