تقدم هوليود سينما مختلفة عن سينما بقية العالم، وهي في ذلك تشبه بوليود مثلاً، ولكن هوليود استطاعت من خلال سلطتها المعنوية ورواجها التجاري الكبير، أن تتمثل في الأذهان كمعيار سينمائي جعل من سينما بقية العالم استثناءً عوض أن يحدث العكس.
والمشاهد العربي معتاد على سينما هوليود إلى حد كبير، وخصوصًا التجارية منها، لذلك يشعر بنوع من عدم الارتياح تجاه التعبيرات السينمائية الأخرى، إن المنتظرَ من العمل السينمائي هو القصة الجيدة، وموسيقى الخلفية التي تملأ الفراغ، والمشاهد القصيرة المتتابعة بطريقة محمومة، لذلك يشعر المشاهد ببعض الضيق وعدم الارتياح تجاه السينما التي لا تنتهج هذا المنهج، وتحاول أن تقدم شكلاً آخر للصورة، لا أقول إن هوليود لا تنتج أحيانًا مثل هذه الصور، لكنها نادرة في عالم يمارس صناعةً على شاكلة الوجبات السريعة، حينما يولي المشاهد هذه التعبيرات الأخرى شيئًا من الاهتمام ويتجاوز خوفه اللامبرر من الملل، سيفاجأ بحجم الإبداع الذي كان يتجاهله.
سأقدم في هذا المقال، عملين سينمائيين جديدين، من عالمين مختلفين ولكن يتمحوران حول الفكرة نفسها تقريبًا، ترشح الأول لجائزة أوسكار أفضل فيلم لهذا العام، بينما لا يكاد يسمعُ أحدٌ بالثاني.
دائرة الضوء Spotlight
توم ماكارثي Tom McCarthy هو ممثل بالأساس، وقد شارك في أعمال شهيرة كثيرة مثل “كل رجال الملك” و”ليلة سعيدة، وحظا سعيدًا”، ولكن ذلك لم يمنعه من إخراج بعض الأعمال السينمائية، فيلم دائرة الضوء هو عمله الخامس، ويبدو أنه ضربة الحظ التي ستجعل الناس يتذكرون اسمه، خصوصًا لو فاز بأوسكار أفضل فيلم خلال سهرة هذا الشهر المرتقبة.
يسلط توم ماكارثي دائرةَ الضوء على مسألة أثارت لغطًا كبيرًا في المجتمع الأمريكي المحافظ، يعود بنا إلى بدايات هذا القرن بُعيد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حينما اكتشف فريق من الصحفيين الاستقصائيين ببوسطن، تورط عشرات رجال الدين في جرائم استغلال الأطفال جنسيًا، وهي تلك الفضيحة التي هزت المجتمع الأمريكي ومؤسسة الكنيسة وأثارت الانتباه إلى مسألة استغلال الأطفال جنسيًا.
ولقد حاول ماكرثي استخراج الدراما والإثارة من أحداث الفيلم القائمة أساسًا على مراحل تقصي الحقائق وجمعها، وشهادات بعض الضحايا وردود أفعال الكنيسة وغير ذلك، وهي عملية صعبة لأن مثل هذه العناصر تفتقر إلى عامل المفاجأة أو الإثارة، كما يأخذ التحقيق الصحفي وقتًا طويلاً، ولا تظهر فيه الحقائق دفعة واحدة كما يحدث في القصص الخيالية، وأعتقد أنه قد نجح في ذلك نسبيًا، بالاعتماد على فيلق من الممثلين المتميزين الذين أدوا أدوارهم على قدر كبير من الحرفية، يجب أن أذكر أهم هذه الأسماء، وهو مارك بوفالو Mark Buffalo أحد المنافسين الرئيسيين لليوناردو دي كابريو على أوسكار أفضل أداء لممثل في دور رئيسي، يؤدي مارك شخصية أحد أفراد فريق دائرة الضوء، وهو كباقي شخصيات الفريق يفتقر إلى التطور الذي يفترض أن يحدث للشخصيات الدرامية، فهو نفسه منذ البداية وحتى النهاية تقريبًا، لكنه رغم ذلك استطاع أن ينحت شيئًا خصوصيًا، مستغلاً فكرة اضطراب الوسواس القهري، وبعض الإضافات على مستوى اللكنة، عدا مارك، فقد كانت بقية الأدوار الرئيسية عادية جدًا، وقد أثـر الطابع التوثيقي كثيرًا في الدراما، إلى حد يجعلني أتساءل: ألم يكن أفضل للمخرج أن ينجز الفيلم في شكل عمل وثائقي؟ ما الذي دفعه إلى الدراما والحال أن الشخصيات الرئيسية خارجية تمامًا عن سياق الأحداث، ولا تتأثر بها إلا بقدر تأثر المشاهد؟
هز الفيلم رغم هذا الضعف الدرامي أمريكا، لأنه أعاد تذكيرهم بالمسألة التي لم تحسم بعد، بشأن حماية الكنيسة الممنهج لرجال الدين المتورطين في استغلال الأطفال جنسيًا، وقد ركز كثيرًا على سؤال “كيف”، الذي حلل من خلاله ميكانزمات هذا الاستغلال، فهو ليس اغتصابًا لأنه لم يحدث باستعمال القوة، ولكنه لم يكن أيضًا نوعًا من الذكرى الجميلة للضحايا، لأن الكهنة استغلوا خلاله سلطتهم المعنوية الكبيرة على الأطفال، سنكتشف عبر الشهادات المنثورة في الفيلم، حجم التدين الذي يتربى عليه كثير من الأمريكيين، إن القس هناك هو ممثل الله الشرعي، وكلمته هي كلمة الرب، فحينما يجد الطفل قسًا يخاطبه ويطلب منه أمرًا ما، يشعر بأنه قريب من الله، وذو قيمة كبيرة في هذا العالم.
خارج هذا السؤال يصعب أن نجد في الفيلم ما يستحق الانتباه، لقد كان القس نفسه غائبًا تقريبًا، حاضرًا فقط من خلال جريمته، وكان الضحايا حاضرين بشكل مقتضب متناثر على مساحات من الفيلم، كثيرًا ما يغيبون عن الذهن لانشغال الأحداث بعملية تقصي الحقائق وجمع الوثائق، وهذه الأمور الغائبة هنا، كانت حاضرة بقوة في الفيلم التشيلي: النادي.
النادي El Clùb
هو فيلم يأتينا من أقصى جنوب القارة الأمريكية، من تشيلي تحديدًا، ومن إخراج بابلو لارايين Pablo Larain، كنت قد شاهدته أشهر قليلة قبيل مشاهدتي لدائرة الضوء، وقد أثار الفيلم إعجابي، ولكن ليس إلى ذلك الحد الذي بلغه حينما شاهدت الفيلمَ الأمريكي، لقد أضفى “دائرة الضوء” في ذهني، قيمة أكبر للفيلم التشيلي، لأنني أحدثتُ مقارنة بينهما، ورأيتُ كم توفق لارايين في تناول المسألة دراميا.
النادي هو منزل جميل معزول في إحدى بلدات تشيلي الساحلية الجميلة، تديره أخت راهبة، ويعيش فيه بعض القساوسة المسنين، ويبدو أنه ينتمي بشكل أو بآخر للكنيسة، نعرف تباعًا أن هذا النادي أشبه بالمنفى الذي يرسَل إليه أولئك القساوسة الذين مارسوا بعض التجاوزات التي لا تليق بسمعة الكنيسة، ليبقوا بعيدًا عن الأنظار والأسماع.
تبدأ عجلة الأحداث بالدوران حين يظهر رجل غامض، يصرخ كل يوم أمام المنزل مناديًا أحد القساوسة، راويًا قصة فضيحة جمعته به طفلاً، يتحول المنزل والبلدة إلى جحيم لم ينتظره أحد، ويبدو أن القس الشاب الذي أرسلته الكنيسة للتحقيق وحسم الأمور، وجد أمامه معضلة أكبر بكثير مما تخيل.
وسط كل هذه الأحداث، يتأرجح المشاهد بين نفسية الجلاد المعاقب، والضحية المعذبة، يتوه في قسوة المنظومة وما أنتجته، ويرى القس الذي يفترض أن يتلقى اعترافات الآخرين، في وضع المتهم الذي ينشد منهم الخلاص، إنها لجة كبيرة من المشاعر الإنسانية المعقدة والعميقة والمرهقة، ضرب من المأساة التي تتأزم فيها الأمور إلى حد لا يبدو التخلص فيها إلا أكثر إيلامًا، وهو ما أفرزته النهاية العبقرية للفيلم.
لم يكن هناك ضحايا كثيرون إذا، بل هو رجل وحيد، ولم يكن القساوسة يحاولون تبرئة أنفسهم، بل يحاولون التملص من عارهم، لم يكن هناك صحفيون، ولا محاكم، بل كان المشهد أكثر قسوة: مجتمع يلهو بسباقات كلاب الصيد، وقساوسة مختبئون خلف الكلاب، وصرخات الضحية المريعة التي تريد أن تدير إليها رقاب الكلاب… هكذا بدا لي النادي، أطهر نادٍ للظلمة البشرية.
لقد بدا لي أن النادي قد نجح في الوصول إلى كل ما لم يبلغه “دائرة الضوء”، لا أعني بهذا أن الفيلم الأمريكي كان فاشلاً، فهو عمل له قيمته التوثيقية والأدبية، ولكن من الغريب أن يبقى فيلم أفضل منه على مختلف المستويات مغمورًا، هل هي قدرة السينمائي الأمريكي على الملائمة بين الطابع الترفيهي للصناعة السينمائية والطابع الفني؟ هل هي نتائج الخبرة التراكمية لمؤسسة هوليود؟ هل هي خبرة الأمريكي وقدرته على استخراج المتعة الاستهلاكية الخفيفة من أكثر الموضوعات خطورة وجدية؟ أم هي فقط متلازمة إنسان العصر الحديث التي تنفــره من كل عمل جاد وترغبه أكثر في الوجبات الخفيفة؟ أم هي بكل بساطة نتيجة سيطرة هوليود على عالم السينما؟ أدعوكم إلى مشاهدة الفيلمين لتحكموا بأنفسكم.