نبذة تاريخية
شأنها شأن معظم الرياضات القتالية الفردية، يعود تاريخ ظهور المصارعة إلى سنوات فجر البشرية، فهي أبسط الطرق التي اتبعها إنسان العصور الحجرية، للحفاظ على وجوده ضمن حياة برية بدائية، ماله فيها من معين سوى قوته البدنية ومهاراته القتالية، اللتان طفق ينميهما توازيًا مع تطور المجتمعات الإنسانية، والتي أدركت أن بقاءها وتطورها منوط بصحة أفرداها العقلية والجسدية.
وكان المصريون أول من أخرج المصارعة من حالتها البدائية، فوضعوا لها الأسس والقواعد التي نظمت مواجهاتها الثنائية، قبل 4000 عام من الميلاد كما تظهر نقوشهم الأثرية، وعنهم أخذها الإغريق أصحاب النظرة الروحية، التي رأت في المصارعة فنًا مقدسًا وفي أبطالها قوى أسطورية، فأقاموا لأجلها الشعائر ونظموا الأبيات الشعرية، وجعلوها جزءًا لا يتجزأ من مهرجانات ألعابهم الأولمبية، التي انطلق أولها قبل 708 أعوام من ظهور المسيحية.
ولم تقتصر ممارسة المصارعة على الحضارتين المصرية واليونانية، بل لاقت رواجًا عند بعض ملوك الرومان أصحاب العقلية السادية، فكانوا يستمتعون بمشاهدة صراعات العبيد الدموية، التي تحفل بمختلف أنواع العنف والخشونة والهمجية، مما ولد كرهًا لدى جموع الشعب الأوروبية، لكل ما يمت لتلك الصراعات بصلة من ألعاب قتالية، بعكس الحال عند شعوب الشرق الآسيوية، التي تلقفتها باهتمام وطورت عنها بعض الرياضات الشعبية، شأنها شأن شعوب القارة الأمريكية، التي دخلها الأوروبيون فوجدوا أهلها مولعين بالمصارعة والتنمية البدنية، فتحرك شعورهم نحوها لتستعيد اللعبة بعض الشعبية، في إنجلترا وفرنسا وبعض الدول الأوروبية، لتعود للمصارعة أيامها الغراء ونزالاتها المشهودة القوية، المبنية على أسس سليمة وقواعد نبيلة عصرية، فتحظى بالقبول لدى جميع فئات المجتمع المدنية منها والريفية، نظرًا لسهولة ممارستها وبساطة متطلباتها الأساسية، التي جعلت منها أوسع الرياضات الفردية انتشارًا ورواجًا في الأوساط العالمية.
أنواع المصارعة الحديثة وأسسها
رسم توضيحي لأساسيات المصارعة والفرق بين نوعيها
تطورت المصارعة في العصور الحديثة واتخذت أشكالًا متعددة، كمصارعة الشواطئ، المصارعة الشعبية، المصارعة اليابانية (السومو)، المصارعة الطلابية، مصارعة جميع الحركات، وغيرها، وكلها من أشكال المصارعة المنتشرة عبر العالم، ولكن النوعين الأكثر انتشارًا، واللذين يحظيان بالاعتراف الأوليمبي هما:
المصارعة الحرة (Free style)، والمصارعة اليونانية الرومانية (Greco-Roman)، وهما تتشابهان في كل مقوماتهما وقوانينهما، ويكمن الاختلاف بينهما في الحركات المسموحة، حيث يحظر استعمال الأرجل والمسك من تحت الحزام في المصارعة الرومانية، فيما يسمح بذلك في المصارعة الحرة، أما بقية الأسس في اللعبتين فهي كالتالي:
البساط الإسفنجي: على شكل مربع (ضلعه 12 م)، بداخله دائرة حوافها حمراء (قطرها 9 م) تدعى بدائرة الصراع، وفي وسطها دائرة صغيرة (قطرها 1 م) تدعى بدائرة البدء.
اللباس: يرتدي المتصارعان قميصًا ملتصقًا بالجسم بدون أكمام، وسروالًا حتى منتصف الفخذ، وحذاءً خفيفًا بدون نعل، ويسمح لهم بارتداء واق للركبة.
لجنة الحكام: حكم الحلقة، القاضي، رئيس الحصير، والمشرف العام، وتتخذ القرارات بالمشاورة فيما بينهم.
النزالات: يبدأ النزال بإشارة من حكم الحلقة، حيث يقف المتصارعان حول دائرة البدء، ويخوضان جولتين مدة كل منهما دقيقتين، وبينهما استراحة لمدة نصف دقيقة، ويلجأ للجولة الثالثة فقط في حال تعادل المتصارعين في الجولتين الأولتين.
طرق الفوز: الطريقة الأولى أن يتفوق المصارع على خصمه بنتيجة نقاط جولتين، والطريقة الثانية أن يسجل المصارع 6 نقاط على خصمه في الدقيقة الأولى من النزال، وحينها توقف المباراة مباشرةً ويعلن فائزًا، أما الطريقة الثالثة فهي عندما تنتهي الدقيقة الأولى من النزال دون أن يسجل المتصارعان أية نقاط، وحينها يأمرهما الحكم باتخاذ وضعية الثبات على البساط بحسب نتيجة القرعة، حيث يربح النزال من يتمكن من تثبيت كتفي خصمه على الأرض لمدة ثانيتين.
المحظورات: لي الذراع، مسك الرأس والرقبة، اللكم، الرفس، والضرب على الوجه بجميع أشكاله.
المصارعة في الألعاب الأوليمبية
جانب من فعاليات المصارعة في أوليمبياد لندن 2012
التاريخ الأوليمبي: أدرجت المصارعة الرومانية ضمن المنهاج المعتمد لأول دورة ألعاب أوليمبية حديثة في أثينا 1896، وغابت عن دورة عام 1900، لتعود في أوليمبياد سان لويس 1904، وتحافظ على مكانها الثابت في جميع الدورات التالية، وبدورها، تواجدت فعاليات المصارعة الحرة في جميع الدورات الأوليمبية منذ عام 1904 وحتى الآن، باستثناء أوليمبياد ستوكهولهم عام 1912، أما مصارعة السيدات فقد اقتصر حضورها على منافسات المصارعة الحرة، التي سمح بها اعتبارًا من دورة أثينا عام 2004.
المنافسات المعتمدة: اتفقت اللجنة الأوليمبية في أوليمبياد لندن الأخير، على اعتماد 7 فعاليات – بحسب الأوزان – لكل من المصارعتين الرومانية والحرة بالنسبة للرجال، مقابل 4 للنساء في المصارعة الحرة فقط، وتتشابه الأوزان تمامًا بين شقي المصارعة، فتبدأ عند الرجال بوزن الديك (55 كغ)، وتنتهي بوزن فوق الثقيل (120 كغ)، أما لدى السيدات فتبدأ بوزن الذبابة (48 كغ)، وتنتهي بوزن الثقيل (72 كغ).
السجل الأوليمبي: رغم تفكك الاتحاد السوفييتي منذ عام 1991، مازال مصارعوه يتصدرون السجل الأوليمبي التاريخي للعبة المصارعة بجميع فعالياتها، برصيد 80 ميداليةً ذهبيةً و134 ميداليةً في المجموع، بفارق كبير عن الولايات المتحدة الثانية برصيد 50 ذهبيةً و125 ميداليةً في المجموع، أما المركز الثالث فتحتله السويد وفي جعبتها 28 ذهبيةً و84 ميداليةً في المجموع.
بطولات وأبطال
الروسي ألكسندر كاريلين أبرز أساطير المصارعة عبر التاريخ
يتولى الاتحاد العالمي للمصارعة (FILA) من مركزه في سويسرا، إدارة وتنظيم جميع منافسات رياضة مصارعة الهواة (المصارعة الأوليمبية) منذ تأسيسه عام 1912، ويضم في عضويته حاليًا 174 اتحادًا وطنيًا، يشارك معظمها في بطولة العالم الموحدة للمصارعة بنوعيها الرومانية والحرة، التي تقام بشكل سنوي منذ بطولة عام 2005 في بودابيست بالمجر، والتي حلت محل البطولات الـ 3 المنفصلة لكل من: المصارعة الرومانية للرجال (بدأت منذ عام 1904)، المصارعة الحرة للرجال (بدأت منذ عام 1951)، والمصارعة الحرة للنساء (بدأت منذ عام 1987)، وقد استضافت مدينة لاس فيغاس الأمريكية بطولة العالم الموحدة الأخيرة في سبتمبر 2015.
تهيمن روسيا على صدارة ترتيب بطولات العالم لمصارعة الهواة عبر تاريخها، وفي رصيدها 343 ذهبيةً و654 ميداليةً في المجموع، بفارق شاسع عن اليابان التي تحتل المركز الثاني برصيد 102 ذهبية و230 ميداليةً في المجموع، فيما تحتل بلغاريا الترتيب الثالث برصيد 61 ذهبيةً و249 ميداليةً في المجموع.
تحتفظ سجلات المصارعة العالمية بأسماء أبطال حفروا أسماءهم بأحرف من ذهب، فعلى صعيد المصارعة الرومانية يحتل الأسطورة الروسية ألكسندر كاريلين صدارة ترتيب بطولات العالم عبر تاريخها برصيد 9 ذهبيات، يليه الإيراني حميد سوريان برصيد 6 ذهبيات، وفي المصارعة الحرة يحتل كل من البلغاري فالنتين يوردانوف والسوفييتي ألكسندر ميدفيد صدارة الترتيب التاريخي برصيد 7 ذهبيات لكل منهما، أما على صعيد السيدات، فتهيمن المصارعات اليابانيات على صدارة الترتيب التاريخي لبطولات العالم، وفي مقدمتهن كل من: ساوري يوشيدا حاملة 13 ذهبية، وكاوري إيكو حاملة 10 ذهبيات.
أسوةً بالملاكمة وغيرها من الألعاب القتالية الفردية، دخل الاحتراف عالم المصارعة عبر عدة منظمات غير رياضية، أشهرها: الاتحاد العالمي للمصارعة الحرة الاحترافية (WWE)، الذي تأسس عام 1952 على يد عائلة ماكمان الأمريكية، وهو يقوم منذ عام 1963 بتنظيم بطولات العالم للمصارعة الحرة الاحترافية، والتي خرجت عن طابعها الرياضي التنافسي، وتحولت إلى مجرد عروض ترفيهية تمثيلية مبتذلة، هدفها جذب أكبر عدد من الجمهور والمشاهدين، بغية تحقيق أكبر قدر من الأرباح.
المصارعة عند العرب
البطل الأوليمبي المصري كرم جابر
لأجدادنا العرب في المصارعة باع طويل، ولهم فيها صولات وجولات، وبطولات تشهد عليها الساحات، كانت تنظم ضمن الأسواق الكبرى والمهرجانات، بين أقوى مصارعي القبائل العربية، وقد جاء الدين الإسلامي الحنيف ليؤيد تمتين البنيان وتنمية الأبدان، فـ (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) كما قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام، والذي استطاع يومًا بطح (يزيد بن ركانة) أقوى مصارعي قريش 3 مرات، في الواقعة المثبتة التي أسفرت عن إسلام الرجل.
وفي العصور الحديثة بقي اهتمام العرب بالمصارعة قائمًا، وبقيت أرضهم الطيبة ولادةً لصناديد المصارعة وأبطالها، ولا سيما أرض الكنانة التي قدمت للعالم عدة أبطال أولمبيين، أولهم “إبراهيم مصطفى” الذي أحرز ذهبية العرب الأولى بأوليمبياد أمستردام 1928، وآخرهم وأشهرهم “كرم جابر” الذي أحرز ذهبيةً بأثينا 2004 وفضيةً بلندن 2012، وما بينهما مرت أسماء كـ “محمود حسن” حامل فضية في لندن 1948، “عثمان السيد” حامل فضية في روما 1960، “إبراهيم عرابي” حامل برونزية في لندن 1948، و”عبد العال راشد” حامل برونزية في هلسنكي 1952.
ولم تقتصر ميداليات المصارعة الأوليمبية على الأبطال المصريين، بل تألق المصارعون اللبنانيون، عبر فوز “زكريا شهاب” بفضية في أوليمبياد هلسنكي 1952، و”خليل طه” ببرونزية في الدورة ذاتها، و”حسن بشارة” ببرونزية في أوليمبياد موسكو 1980، فيما سجلت سورية اسمها في لائحة ميداليات المصارعة الأوليمبية عبر بطلها “جوزيف عطية”، الذي أحرز فضيةً في أوليمبياد لوس أنجلوس 1984، لتصبح حصيلة المصارعة العربية عبر تاريخ الدورات الأوليمبية زاخرةً بـ 11 ميدالية، قوامها: ذهبيتان، 5 فضيات، و4 برونزيات، جميعها في المصارعة الرومانية.