في ذكراها المئوية.. هل انتهت سايكس بيكو؟

bwtyn-wbm2

لا خلاف على أن الله عز وجل حبا منطقتنا “الشرق الأوسط” بالعديد من المزايا الطبيعية والديموغرافية التي جعلتها على مر التاريخ مسرحًا لصراعات كبيرة في العالم، زاد عليها الطبيعة الدينية لأهلها بعد انتشار الإسلام وتمكنه منها وما يملكه الإسلام من عوامل للبقاء أكثر من غيره من الأديان، وهو ما جعلها دومًا في مرمى الهدف بالنسبة لأي قوة عالمية “اقتصادية أو سياسية أو عقائدية” ترغب أن تسود، لأن عدم فرض السيطرة على هذه المنطقة يعني أن هذه القوة ليست عالمية باختصار، هي قوة من إحدى القوى العالمية في الكرة الأرضية.

منذ 100 عام تمامًا، وفي بدايات القرن العشرين، بدا واضحًا أن بريطانيا وفرنسا هما القوتان العظمتان في العالم، تليهما روسيا القيصرية في ذلك الوقت، حيث كانت الدول الثلاث تتجه لتحقيق النصر في الحرب العالمية الأولى، وكانت الدولتان قد اتخذتا فعلاً خطوات كبيرة في سبيل إخضاع مناطق كبيرة من الشرق الأوسط لنفوذهما إما بالاحتلال المباشر أو بالتأثير غير المباشر عبر الأذرع الاقتصادية والسياسية، فكانت اتفاقية سايكس بيكو (تحل ذكراها المئوية بعد شهرين تقريبًا) إيذانًا باتفاق مباشر بين تلك القوى بحضور روسيا القيصرية لوضع نهاية لهذا الشرق الأوسط الموحد “السني” تحت راية الدولة العثمانية، وقد دخلت حيز الإعلان بعدها بعام وحيز التنفيذ بعد تاريخها بثماني سنوات بعد سقوط الدولة العثمانية رسميًا في 1924.

ورغم أن ظاهر الاتفاقية وأسبابها وأهدافها كان سياسيًا واقتصاديًا، إلا أنه لا يمكن – برأيي – إغفال الجانب الديني أو العقائدي في هذا المشروع، فكون وجود دولة أو دول “إسلامية” و”سنية” تتوفر على كل هذه المميزات الاقتصادية والسياسية والجغرافية، بغض النظر عن حقيقة انتماء تلك الدولة أو الدول لصحيح الإسلام، فهي عامل خطر على المشروع الغربي تحديدًا لما لديهم من بعد عقائدي مسيحي مهم ولا يجب إغفاله.

وأستطيع الزعم أن ظهور الشيوعيين وسيطرتهم على روسيا وتوسعهم في أوروبا، وأيضًا ظهور هتلر والنازية، مع الضعف والإنهاك الذي أصاب فرنسا وبريطانيا وظهور الولايات المتحدة كوريث لهما، وانشغالها في حربها الباردة مع الشيوعية، فضلاً عما آلت إليه الأمور من تقسيم حقيقي وكامل في دول المنطقة، أقنع أصحاب المشروع الغربي وورثتهم بتأجيل القضاء والإنهاء على هذه المنطقة، وإن استمرت سياسات فرض السيطرة غير المباشرة تبعًا لواقع الحال ومقتضياته.

بسقوط الشيوعية في عام 1991، وعودة روسيا إلى المعسكر الرأسمالي وتحررها من النظرة الشيوعية، عادت القطبية العالمية حيث يمكن اعتبار أن أمريكا وروسيا قد ورثتا قطبي القرن التاسع عشر بريطانيا وفرنسا، وإن بدت أمريكا لفترة وكأنها شرطي العالم الأوحد، نظرًا لما عانته روسيا من سنوات اهتزاز طبيعية بعد سقوط الشيوعية، إلا أنها عادت وبقوة مع نهاية التسعينات وبدأت تظهر وتشتد طوال الألفية وحتى وقتنا هذا.

هنا يمكن القول إن ما نراه الآن في الشرق الأوسط، هو استكمال لمشروع سايكس بيكو القديم، فيبدو من ظاهر السياسة الدولية خلال الخمسة وعشرين عامًا الماضية أن هناك مخطط تقسيم للتقسيمات التي فرضتها سايكس بيكو القديمة، نظرًا لأن تلك التقسيمات وخاصة السنية منها تحتوي على بذور واتجاهات اتحاد وقوة لا يمكن الاستهانة بها وإغفالها.

بدأ الأمر مع العراق والسودان، ثم نجحت القوى العالمية في استغلال الاضطراب الناتج عن ثورات الربيع العربي لتحقيق مستهدفاتها من تقسيم بقية البلدان العربية والإسلامية القوية، فبدأت بسوريا، ثم دخلت ليبيا على الخط، وتبدو كل من السعودية وتركيا ومصر هي الفرائس الثلاث الجاهزة الآن للوقوع.

في اتفاقية سايكس بيكو القديمة، اعتمدت بريطانيا وفرنسا لإنجاح المشروع على مشاريع القومية العربية في مواجهة مشاريع القومية العثمانية واستغلتها أحسن استغلال، فيما يبدو في سايكس بيكو الجديدة أن أمريكا وروسيا تعتمدان على خليط من مشاريع القومية، ومشاريع الطائفية، وسنسلط الضوء هنا على السعودية بشكل كبير باعتبارها الدولة الأبرز في هذا المخطط.

تمتلك السعودية عدة مميزات تجعلها دولة كبرى في المنطقة – والعالم أحيانًا -، بالطبع البترول إحداها، ولكن وجود الحرمين الشريفين على أراضيها، يعطيها زخمًا إسلاميًا كبيرًا بين دول المنطقة، ورغم أن النظام السعودي ليس إسلاميًا بالمعنى الكامل وخاصة فيما يتعلق بالجوانب السياسية والاقتصادية، إلا أنه يبقى نظامًا “سنيًا” قويًا من الناحية الاجتماعية، ويبقى في النهاية قوة سنية يمكن أن تتحول إلى الالتزام الكامل بالإسلام في السياسة والاقتصاد وهو ما يشكل خطرًا كبيرًا على المشروع الرأسمالي العلماني “سياسيًا”، المسيحي “دينيًا” في الغرب.

تخوض كل من السعودية وتركيا حربًا ضروسًا لإفشال هذا المخطط، الذي يعتمد على الأزمة السورية بالأساس لأنها الوحيدة التي تحمل عاملي النجاح لتقسيم الدولتين – تركيا والسعودية – باعتبارهما أقوى الدول الإسلامية اقتصاديًا وسياسيًا، فمن ناحية يعمل الأكراد السوريون مع أكراد تركيا لتحقيق تقسيم الأخيرة على أساس قومي، وتعمل إيران – بعد تمكنها من العراق – مع حليفها “الشيعي” بشار الأسد على الحفاظ على الهلال الشيعي الشمالي (إيران – العراق – سوريا – لبنان)، وبالتعاون مع تنظيم الدولة باعتباره مخلب القط في المنطقة، وهو ما قد يؤدي إلى تقسيم المملكة على أساس طائفي، باعتبار الوجود المكثف للشيعة في شرق المملكة في البحرين والمنطقة الشرقية، وأيضًا مع إمكانية خلق إمارة شيعية جنوب المملكة في اليمن من خلال الحوثيين وهو ما يعني حصارًا من ثلاث جهات للمملكة، وأيضًا مع الانتشار السريع لتنظيم الدولة وأفكاره، مما يخلق ضغطًا على المملكة يمكن استغلاله فيما بعد لتقسيمها، كما تم في العراق وسوريا وكما يجري في مصر وليبيا.

في حال نجاح هذا المخطط الذي أتصوره فإن المملكة تكون قد اقتربت كثيرًا من مخطط التقسيم، فمن ناحية تستطيع إيران – لو نجحت في مخطط اليمن – السيطرة على مضيقي هرمز وباب المندب، وهو ما يعني حصارًا اقتصاديًا كاملاً للمملكة، ومن الجانب السياسي ستخسر المملكة كل مساحات التأثير والإشغال التي يمكن أن تستغلها لإبقاء الأزمة الطائفية خارج أراضيها.

تدفع الرياض تكلفة عالية اقتصاديًا لدحر هذا المخطط، لكنها على الجانب الآخر – برأيي – تدفعه بالطريقة الخطأ، فمئات المليارات التي تدفع في حرب هنا وحرب هناك وتحمل تكلفة انخفاض أسعار النفط عالميًا وخلافه، يمكن أن تدفع لتنمية مناطق الشرق الشيعية واستيمالهم لصالح الدولة وليس لصالح الطائفة، كما كانت هناك مئات المليارات التي دفعت من أجل مواجهة شكل آخر من السياسة الإسلامية السنية التي رأتها السعودية خطرًا عليها، كان يمكن أن تكون لها حليفًا في حربها تلك.

بالنهاية نحن نسير بخطى حثيثة نحو تقسيم جديد للشرق الأوسط، سنتحول فيها كمنطقة إلى دويلات في حين تخرج الدول العظمى وقد سيطرت على الاقتصاد العالمي بكل جوانبه، وأيضًا قسمت الدويلات بينها كمناطق تأثير أو احتلال، وضمنت بشكل كبير غياب أي تأثير للإسلام السني على المنطقة أو اقتصادها أو حياتها الاجتماعية، وستبدأ عصور ظلامنا الحقيقية.

ربما أكون متشائمًا بعض الشيء في هذا التصور، لكنني أجده في الحقيقة ضرورة تاريخية لازمة لإنشاء نهضة حقيقية للإسلام السني الصحيح في المنطقة والعالم، لأنه لا يمكن إنشاء تلك النهضة على الأسس التي توجد بها وعليها الدول الحالية، غير أني آمل أن تحقيق ذلك لن يكون متأخرًا وأن بذوره وجذوته قد زرعت مع ثورات الربيع العربي وأنها ستنمو بأسرع وقت ممكن.