تروج النخبة الحداثية العلمانية التونسية اليوم خطابًا ملغمًا تلخصه في عبارة “التونسة” التي تحولت عندها إلى شفرة تمثل كلمة السر لدخول باب الحداثة والمدنية والديمقراطية من بابها الواسع، بمجرد الالتزام بها وفق مواصفات جاهزة ومشروطة بقدر ما هي ملغومة ومخاتلة ومفخخة، فإنها تتزين في رداء المصلحة والمصالحة والتصالح مع المجتمع والدولة والسلطة، وقد وقع استدراج بعض الإسلاميين لهضمها وتكرارها وكأنها مفردة بريئة ومعبر حقيقي لقبول النخبة بهم.
غير أن المتوقف عند خلفية هذا الخطاب ومقتضياته سيكتشف مساحة الألغام التي يسير عليها كل من يخوض فيه ويجيب عن أسئلته الموجهة عن بعد بآلة تفجر من الألغاز والألغام ما يجعل مفرداتها تتلاشى دون أن تؤسس لمعنى أو قيمة إضافية غير الانتفاء الذاتي والتلاشي الإرادي والمسخ والتشويه تلقائيًا.
ومن أبعاد هذا الخطاب المفخخ يتجلي ما يلي:
الازدواجية: لا يوجه خطاب “التونسة” إلا إلى الحركة الإسلامية بتونس ويقصد به قطع العلائق مع العالم الإسلامي فكرًا وتواصلاً والانغلاق على البيئة التونسية تنظيمًا وتفكيرًا وخلائق، دون مطالبة الحركة القومية الموصولة بحلم قومي عريق بذلك أو مخاطبة الحركة اليسارية الأممية التي تنتزع حلمها من نموذج الدول الاشتراكية والشيوعية ورموزها التاريخيين في هذا.
المفارقة: تفرض الأقلية التي رفضها الشعب التونسي في أكثر من مناسبة انتخابيًا لعدم تعبيرها عن هويته وذاته، شروطها على الأغلبية التي اختارها شعبها لتماهيها مع خطابه وحياته اليومية ومشاغله.
فمن هو المطالب بتحيين شعاراته ومشاغله ومرجعيته إذن؟ هل هم الإسلاميون المدافعون عن الهوية التونسية العربية الإسلامية أم المنخرطون في الأجندة الغربية الشاذة والمنفتحون على القيم الكونية السامية والمنحرفة والمطالبون بفرض المعاهدات الدولية الغريبة بمختلف بنودها دون تحفظ على الشعب التونسي (معاهدة سيداو مثلاً)؟
الاحتواء: يهدف خطاب “التونسة” إلى عزل الحركة الإسلامية عن سياقها المغاربي والمتوسطي والعربي الإسلامي سواء على مستوى التجارب الفكرية أو المشاغل المشتركة أو القضايا الإنسانية والحقوقية، وذلك للاستفراد بها وإجبارها على مزيد من العزلة والتنازل، عبر صورة نخبوية مرجحة بلا لون ولا طعم ولا رائحة ولا هوية.
الافتراء: ينطوي خطاب “التونسة ” على تمرير تهم خطيرة تستبطن تبعية الحركة الإسلامية التونسية للتنظيم الإخوانية العالمي فكرةً وتنظيمًا، واشتغالها على أجندات غريبة عن المشاغل المحلية، وذلك لعزل الجماعة عن حاضنتها الشعبية التي ترشحها حصنًا حصينًا يذود عن هويتها وانتمائها ومشاغلها التنموية والاجتماعية وأفقها الحضاري.
الاستعلاء: تمارس النخبة الحداثية وصاية فجة على الحركة الإسلامية، وفق منطق مغلوط، إذ يوجه أصحاب الفكر الدخيل التغريبي، بأبعاده الاشتراكية والقومية والليبيرالية واليسارية، أصحاب الفكر الأصيل المنغرس في تربته المجتمعية، وتتجلى مفردات هذا المنطق في ادعاء امتلاك مفتاح الحداثة والمدنية والديمقراطية وفق انتهاج وصفة سحرية لا يوفرها إلا هم ، بحسب خارطة الطريق التي يقترحونها على هواهم.
الاستغباء: تراهن النخبة العلمانية على خطاب تبدو فيه حريصة على مصلحة الحركة الإسلامية في تونس بمصالحتها مع بيئتها المحلية، من حيث تسعى إلى إقصائها وتهميشها وعزلها وتقليص شعبيتها وتماسكها الداخلي وإشعاعها الخارجي، وفق حسابات انتخابية وإيديولوجية لا تخفى على أحد أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً.
الانتقاء: يبدو الإلحاح على “التونسة” هو انتقاء لمسلك في توجيه الحركة الإسلامية وفق هوى النخبة للقبول بها ضمن مفردات المشهد السياسي المحلي، بدفعها إلى التخلي عن منهجها الشمولي وفصل السياسي عن الدعوي والثقافي دون مقدمات أو تدرج، وهذا الاختيار توظيف سريع لنتائج المشهد المصري بعد شيطنة الإخوان، واستثمار للإجماع الدولي على محاربة إرهاب الدولة بالعراق والشام، وذلك بعد التأكد من تحول الإسلاميين إلى رقم صعب وواقع لا سبيل إلى التخلص منه حاضرًا أو الاستغناء عنه مستقبلاً.
غيرأن مستقبل الحركة الإسلامية حينئذ بيد أبنائها حقيقة لا خصومها وأعدائها، وهي في حاجة إلى إنتاج النصوص النظرية التي تسطر معالم هويتها المستقبلية على ضوء متغيرات المشهد السياسي المتقلب واللحظة الحضارية الحرجة.
فهل تدرك الحركة الإسلامية التونسية أن قرارها بيدها بعيدًا عن الإكراهات والإغراءات، وبعيدًا عن التسويات المتسرعة، والمقترحات المفخخة التي تلغيها وتعزلها من حيث إنها تغريها وتطمئنها على وجودها ومستقبلها؟