كم هي القامات والهامات التي تركت في كل محطة أثر، لكن دون أن نسمع عنها وعن مآثرها خبر، كم هم العلماء والعظماء الذين عاشوا طويلًا، ولم تسمع عنهم إلا بعد رحيلهم في قصائد الرثاء ومراسيم النعي والعزاء، كم هم الذين ملكوا قلوبًا ومحبةً وتعاطفًا دون أن يملكوا درهمًا ولا دينار، كم هم الذين باتو في زنازين مظلمة، لا نور فيها إلا نور الإيمان والقرآن، دون أن يكون لأحد عنهم كلمة.
عقدين من الدهر مضت، وسنوات طوال خلت، وما زال الأسير وليد خالد حرب في حضرة الغياب، وفي ضيافة مستمرة للاعتقال الإداري، حالة فلسطينية تجسد كثيرًا من صور المعاناة للأسرى في سجون الاحتلال الصهيوني، وحدهم أهلهم وذويهم ومن أحبهم ومن عاش يومًا مرارتهم يشاركهم هذا الألم وهذا الوجع.
يحتار القلم من أين يبدأ في عرض سيرة أبي خالد، من سجنه أم من شعره وأدبه أم من عزله الذي أتم فيه حفظ الكتاب، ولكن من أي محطة بدأت لكن تكون في شوق إلى الانتقال إلى المحطة الأخرى، لأنك ستشعر أنك اكتفيت، ويكفيك عنه ما عرفت.
ضيفنا مجاهد، كاتب، أديب، شاعر، حافظ لكتاب الله، ضيفنا يا قوم، أسير غائب، أكمل العقدين في سجون بني صهيون، أخفت وراءها تلك السنون آهات وعذابات وجراحات، وتلاشت مع ساعاتها الطويلة كثير من الأمنيات، لكن ضيفنا الأسير، واجه تلك المحن بإيمان وصبر، فامتلك أعصابًا من فولاذ وعزيمةً من حديد.
ضيفنا، ينظم الشعر ليس على ضوء القمر، أو على مكتب وبصحبة فنجان من القهوة، لذلك هو نظم فيه ريح العز والمجد والكبرياء، استمدها من جدران الزنزانة حيث يعيش، كتب فيها ما يزيد على مئتي قصيدة، خلال عامين من العزل الانفرادي، لا يرى فيها البشر، ولا ضوء القمر، وسط جدران العزل تلك فقط بالعجز والفقر تتبدد الظلمات وبالتوكل والإلتجاء ينقشع الظلام.
ضيفنا مهندس مع وقف التنفيذ، مازال في السنة الثانية في كلية الهندسة في جامعة النجاح رغم مرور أكثر من عشرين سنةً على التحاقه بها، ضيفنا صاحب فكر وقلم، يحسن اختيار كلماته بدقة واحتراف، فتخرج منه الجمل والعبارات رزينةً ورصينةً في صوت خافت هادئ وحنون، له قصص وروايات أجملها وابلغها، حكاية شهيد، تشابه في مضمونها واقع الشعب الفلسطيني الذي يقدم في كل صباح شهيد وكثيرًا ما يزيد.
ضيفننا، لديه من الأبناء ثلاثة، أتمت ولاء حفظ كتاب الله، يوم أن أكملت خمسة عشرة عامًا من عمرها، لكن ما لم تكتمل في ناظريها، صورة أبيها الحاني، قسمات وجهه وثغرات ابتسامته، تدرك ولاء أن سجانًا فرق بينهما، وأن وطنًا يستحق باعد بينهما، لكن شقيقتها آية ما زالت تدرك ما يحتمله عالم الطفولة فقط، أخبروها أن أبيها سيعود في القريب إن هي أصغت لكلام أمها وأحسنت اللعب مع أشقائها، لم يمض وقت طويل حتى دفعها ولع الشوق والحنين لضمة الصدر وقبلة الجبين، فاندفعت تخاطب جدها الصبور، يا جدي: أنا ما عدت شقية، أخبر أبي أن يعود إلى البيت، وأعدك يا جدي أن أعطي كل ألعابي لأخي خالد، الذي يسألني كل يوم، أين أبي.
وليد ومن مثله غيبهم القدر عن ساحات كثيرة ما كان لهم أن يغيبوا عنها لولا إيمانهم العميق بما هو أسمى وأكثر نبلًا وقداسةً على هذه الأرض، قد يروق للبعض أن يصف أمثالهم بالعظماء المنسيين في التاريخ، تلك العبارة التي ربما لا تجد أصداءً لتلك الفئة من البشر الذين أيقنوا أن المستقبل لذوي الإيمان والعقيدة والصبر، والماضي لمن هم دون ذلك.
تسقط لدى من ارتقى إلى هذه المرتبة حسابات الدنيا وإغراءاتها، ويومًا ما تحدث رجل همام انحدر من ذات المدرسة الجهادية والفكرية وكان يشترك مع ضيفنا بعمق طرحه وأصالة فكره فاحتل مكانةً كبيرةً في قلب الضيف الأسير، فقال الشيخ الشهيد جمال منصور في معرض حديثه عن أمثال هؤلاء من أهل التضحية والإقدام والفداء “حسبهم أن الله عرفهم”، حسبك يا أبا بكر أنك بين يدي الرحمن وقد اصطفاك شهيدًا، وحسبك يا وليد ومن معك أن الله معكم.
المال والبنون والجاه والسلطان والوظيفة والسيارة، كيف تكسب وكيف تنجح وكيف تبني وكيف تربح، أين موقعي ومنصبي ومكاني، نعم هذا قانون العصر، ولغة القوم، ولكن ما زال في هذا الزمن من يهوى السباحة في موج كله صعود، أبلغ في وصف السباحة تلك، ضيفنا الشاعر الأديب، الأسير وليد خالد، لما كتب “عكس التيار… سباحة لا بد منها”.