ستكمل القضية الصحراوية قريبًا عقدها الرابع، هذه القضية التي اختلطت فيها كل عناصر الإشكال وتراوحت بين فترات السلم والحرب والاستقرار واللجوء، وكانت الأقاليم الصحراوية مسرحًا لكل التدخلات الخارجية والمشاريع الاستغلالية والطموحات التوسعية لدول الجوار وحتى الدول القوية لما وراء البحار.
في زمن السماوات المفتوحة والاتفاقيات الكبرى لتوحيد شعوب ودول العالم من الاتحاد الأوروبي الذي يجمع 28 دولة مختلفة الدين والعرق واللغة والمحملة بتاريخ من الحروب والنزاعات لكن الموحدة بفكرة العيش المشترك، وحتمية المستقبل الواحد، في هذا الزمن لا زالت قضية الأقاليم الصحراوية قضية تقرير مصير وإرادة شعب في الاستقلال.
1- الصحراء والصحراويون في التاريخ
كل من يعرف تاريخ المغرب يعلم أن الأقاليم الصحراوية كانت جزءًا من المغرب الكبير ويقرون بوحدة الإنسان الذي عاش فيها منذ العصور الحجرية الأولى والذي خلد آثاره ورسومه على صخور الصحراء حين كانت مروجًا وسهولًا خضراء تحولت إلى صحراء بفعل التغيرات المناخية خلال آلاف السنين.
يتفق كل علماء التاريخ على حقيقة عدم قيام أي دولة في هذه المناطق الصحراوية التي كان يسكنها البدو، وكل من يرى خريطة العالم العربي قد يلاحظ في كثير من مواضعها أن الخطوط المكونة للحدود كأنها رُسمت بخطوط مستقيمة أو أن أحدهم سطرها بكل بساطة، كل هذه الحدود الهندسية الشكل موجودة في المناطق الصحراوية الخالية من السكان أو مسكونة ببدو الصحراء وهذا راجع لكون الإنسان البدوي الصحراوي لا يعرف معنى للاستقرار أو الثبات في حيز مكاني واحد بل يعيشون مع جمالهم وحيواناتهم، وينتقلون بحثًا عن الماء والمرعى في رحلات عبر خطوط سير ممتدة لكيلومترات وينتظمون في تشكيلات قبلية واتحادات ومجالس يقودها شيوخ القبائل تحل النزاعات وتدبر الاختلافات وتعقد التحالفات، بعد مجيء الاستعمار وتقسيم شمال أفريقيا والصحراء الكبرى مع بداية القرن التاسع عشر، لم يراع المستعمر أي خصوصيات اجتماعية أو ثقافية لهذه المجموعات البشرية، فقسم الصحراء الكبرى حسب مصالح الدول المستعمرة وحلفائها المحليين، بعد رسم هذه الحدود وجدت العديد من القبائل الصحراوية نفسها محبوسة داخل حدود تمنعها من مواصلة رحلاتها في الرعي والبحث عن الماء والمرعى.
2- من مجتمع البيضان إلى الدولة الصحراوية
كما ذُكر فالمجال الصحراوي الواقع بين غرب النيجر ومالي إلى موريتانيا ومن نهر درعة إلى نهر السنغال، لم تعرف أبدًا قيام دولة مستقلة عن المغرب أو الجزائر أو عن الخلافة الإسلامية بالمشرق، ولكن عرفت مجموعات بشرية ذات خصوصية اجتماعية وثقافية مشتركة يمكن أن نسميها أو تُسمى بمجتمعات البيضان أو البيظان.
ذكر ابن بطوطة وابن خلدون وغيرهم من المؤرخين اسم البيضان كوصف مقابل لمصطلح السودان وهما توصيفان لمجموعات بشرية على أساس الاختلاف العرقي والإثني، في الجزء موضوع النزاع تعيش منذ القدم مجموعات من القبائل يمكن تقسيمها وظيفيًا:
– قبائل مقاتلة تمتهن ممارسة الحروب والجهاد مثل: أيتوسى، السكارنة، أولاد دليم، أولاد بوسباع، قبائل تكنه التي تجمع تحالفًا حربيًا من العديد من القبائل، وقبائل أعريب.
– قبائل مرابطية أو زوايا دينية هم قبائل عرفت باشتغالها في الدعوة للإسلام ونشره والتفرغ لطلب العلم وممارسة تدريس القرآن والفقه من هذه القبائل: أولاد تيدرارين، توبالت، فيلاله، أهل بارك الله، أهل الشيخ ماء العينين، أهل ألفغ الخطاط، تركز، أديبسات، وتاجاكانت.
– قبائل تمتهن الحرف اليدوية والتجارة: لميار،الشناكلة، أولاد بوعيطة، لفيكات، ايمراغ، ومجاط.
تجدر الإشارة أن العديد من هذه القبائل الصحراوية لها ارتباطات تاريخية مع المغرب، فبعضها لها امتدادات إثنية أو لها فروع خارج الفضاء الصحراوي وداخل الوسط المغربي وعلى سبيل المثال لا الحصر قبيلة الركيبات التي تنحدر مباشرة من سيد أحمد الرقيبي أحد أحفاد حفيد مولاي عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم قرب تطوان، ومن أبناء أحمد الرقيبي تفرعت قبيلتي الركيبات، فمن قاسم بن أحمد انحدرت رقيبات القواسم ومن أخيه علي بن أحمد انحدرت قبيلة ركيبات الساحل.
قبيلة العروسيين ينتسبون إلى الأشراف من سلالة إدريس الثاني، فحين ارتحلوا نحو الصحراء لا يزال إلى اليوم جزءًا من قبيلتهم شمال المغرب يحمل نفس الاسم بني عروس.
واضح أن القبائل التي تسكن الجزء الغربي من الصحراء الكبرى لها ارتباطات قوية وثابتة مع كل المناطق في موريتانيا والجزائر والسنغال، ومن المعروف تاريخيًا أن العديد من الدول والممالك التي حكمت المغرب وأجزاء من شمال أفريقيا ضمت إليها هذه القبائل، وعلى سبيل الذكر دولة المرابطين التي انطلقت من المنطقة المجاورة للعاصمة نواكشط حاليًا وامتد حكمهم ليشمل باقي قبائل الصحراء وغرب الجزائر والمغرب والأندلس.
استمرت العلاقة بين القبائل الصحراوية وباقي قبائل المغرب وقبائل الصحراء، لكن ظهور الاستعمار ووضعه لتلك الحدود الدائمة والمانعة، والتي لم يعرفها الإنسان الصحراوي ساهمت في خلق العزلة وتعميقها بين سكان الصحراء وباقي سكان المغرب الكبير.
3- من جيش التحرير إلى البوليساريو
مع دخول الاستعمار الإسباني للأقاليم الصحراوية وما صاحبه من اعتداءات على الإنسان والأرض كان من الطبيعي ظهور حركات للمقاومة والمناداة بالاستقلال، خاض جيش التحرير في كل مناطق المغرب حربًا ضد المستعمر الفرنسي والإسباني كبَّدته خسائر فادحة، مع الحركة الوطنية والمطالب السلمية وانتصارات جيش التحرير اضطر المستعمر الفرنسي أن يعترف باستقلال المغرب ثم تلاه استقلال الجزء الشمالي المحتل من المستعمر الإسباني، بقيت الأقاليم الجنوبية وبقي جيش التحرير يواصل عملياته الحربية ضد المستعمر الإسباني، لكن التحالفات والمساومات التي كانت بين الدولة المغربية والمستعمرَين الفرنسي والإسباني التي أعطت الاستقلال في شمال ووسط المغرب كان من شروطها تفكيك جيش التحرير وإكمال المطالبة بالاستقلال بالوسائل السلمية والدبلوماسية والمفاوضات، هذه المساومات سيرفضها قادة جيش التحرير الذين رفضوا وضع أسلحتهم مادامت مناطق تحت الاحتلال وسيترتب عن هذا الرفض أولى الصدامات بين النظام المغربي الرافض لكل جيش خارج الجيش الملكي والنظامين الاستعماريين الفرنسي والإسباني من جهة ومن جهة أخرى قيادة جيش التحرير في الجنوب، أهمها عملية إيكوفيون سنة 1958، هذه العملية الإسبانية الفرنسية المشتركة مع التسهيلات المقدمة من النظام المغربي والتي استهدف جيش التحرير وخلفت خسائر كبيرة في المدنيين الصحراويين قتلاً وتهجيرًا وحرقًا لخيامهم وقتلا لإبلهم، العديد من الصحراويين أعضاء جيش التحرير أو ضحايا هذه الحرب سيُؤسس أبناؤهم بعد سنوات جبهة البوليساريو.
مع بداية الستينات واكتشاف فرنسا للبترول بصحراء الجزائر ستبدأ إسبانيا بالتماطل عن الخروج من الصحراء الغربية، وبدأت بالترويج لأول مرة لفكرة الوطنية الصحراوية مع المسؤول الإسباني لوبيز ريدود سنة 1963 دون أن تلقى هذه الدعوات والأفكار الدخيلة أي تجاوب من الشعب الصحراوي، لكن مع السبعينات سيتحرك مجموعة من الشباب الصحراوي الذي يدرس في المغرب لطرق أبواب مقرات الأحزاب المغربية من أجل التحرك لتحرير الصحراء المحتلة، هذه الأحزاب والشخصيات التي كانت تخوض صراعات مع القصر وأزمات داخلية إجاباتها لم تكن لتشفي غليل الشباب الصحراوي، هؤلاء الشباب سيتلقفهم نظام القدافي الذي كان أول من زودهم بالسلاح النوعي آنذاك وقاموا بواسطته بأول هجماتهم على الأهداف الإسبانية في الصحراء المحتلة مستفيدين من معرفتهم الجيدة بالأرض، النظام الجزائري بدوره سيتدخل بعد أن خشي على مصالحه من تدخل نظام القدافي ليعلن من على أراضيه وبدعمه إنشاء جبهة البوليساريو التي سيتكلف بتجنيد الشباب الصحراوي وتسليحه واحتضان قاعدة ثابتة له على مدينة تندوف الجزائرية، لتنطلق مرحلة جديدة من كفاح وتضحيات الشعب الصحراوي ولكن بتوجيه من المحتضن الأول النظام الجزائري وبتأثير مصالح هذا النظام.
إن كان التاريخ شاهدًا على الوحدة الثقافية والدينية والإنسانية لشعوب المنطقة وفي قلبها الشعب الصحراوي، فإن كل أحداث التاريخ الحديث منذ ظهور الاستعمار الغربي يشهد على كل الظلم والاعتداء الذي وقع على هذه الشعوب من طرف الاستعمار ومن طرف الأنظمة التي جاءت بعده.
إن مشكل الصحراء وتطلع الشعب الصحراوي وباقي شعوب المنطقة للاستقلال والكرامة بمرور كل هذه السنوات لم تزد المشكل إلا تأزمًا، والأسباب متعددة من أطماع الاستعمار واستغلاله للأرض والإنسان ثم الأنظمة الحاكمة التي جاءت بعده والتي كرست لسياسات القمع والاستغلال وإلغاء وجود شعوب كاملة وسحق كرامات الناس أو تخييرهم إما الإلحاق وليس الوحدة أو الحروب وإشعال الفتن القبلية والعرقية.
ما يحتاجه الشعب الصحراوي هو ما تحتاجه شعوب المنطقة، وهو إحقاق دولة الحق والقانون والانتقال من الانتماء القبلي الضيق إلى رحابة الانتماء إلى الوطن، وما يجب أن تعييه الأنظمة الحاكمة والشعوب المحكومة هو ضرورة التخلي عن منطق الرعية والرَّيع إلى منطق المواطنة والمساواة.