من عناوين الأخبار العربية هذه الأيام.. الحكومة المغربية تعلن عن إلغاء القمة العربية الدورية التي كانت مقررة هناك في السابع من أبريل، الإعلان جاء بعد تأجيل حوالي عشرة أيام عن الموعد السابق المقرر لها، في نهاية مارس المقبل، بطلب سعودي.. عناصر تابعة لقوى 14 آذار (موالاة لبنان) تنتشر بكثافة في العاصمة اللبنانية بيروت (الخبر في العام 2016 وليس من مانشيتات صحف لبنان عندما اندلعت الحرب الأهلية في العام 1975م).. الأمم المتحدة: ثمانون بالمائة من اليمنيين بحاجة إلى مساعدات غذائية..
بطبيعة الحال، هي ليست عناوين مبهجة، ولا يسرُّ القارئ والمتابع تكرارها، إلا أن هناك مغازِ عدة لكتابتها؛ حيث إن بينها خيط قوي واحد، يجرها ويشبكها جميعًا، وهو السياسة السعودية في المنطقة العربية في الفترة الراهنة، والتي يرى البعض أنها صارت معادلاً مساويًا لسياسات إيران والمشروعات السياسية والأصولية الأخرى، التي تتحرك في المنطقة العربية والمشرق الإسلامي، وتسببت في الكثير من عوامل الخراب والدمار بين ظهرانينا.
……
بدايةً لا بد من التأكيد على بعض الأمور القيمية في عالم السياسة، والتي تُعتبر بمثابة مقاييس لا يمكن أن تُدحَض في صدد تحديد نجاح أو فشل، أية سياسة أو أي موقف سياسي، وكذلك تحديد مدى كون هذه السياسة أو الموقف، أمرًا أخلاقيًّا من عدمه.
ومن بين هذه الأمور أو المقاييس، هو من أين تنطلق هذه السياسة، وكذلك ما هي تبعاتها ونتائجها، فيما يتعلق بالضرر الذي تسببت فيه أو عَمِلَت على منعه أو منعته بالفعل، من مخاطر وأضرار في الإطارَيْن السياسي والإنساني.
وفق هذه المعايير؛ فإنه، وبتقييم السياسات السعودية في المنطقة العربية والمشرق الإسلامي، ومنذ اندلاع ثورات الربيع العربي؛ فإننا نجد أنها لم تلتزم بأية بواعث أخلاقية في التعامل مع الأزمات التي تسببت فيها الرياض، بزعم “إنقاذ” العالم العربي والإسلامي، من الأعداء، و”حماية” الشرعية، و”حماية” أهل السُّنَّة والجماعة، في كل مكان.
وبطبيعة الحال؛ فقد “تصادف” أن هؤلاء “أعداء الأمة”، هم بالضبط “أعداء آل سعود”، وأن “الشرعية” – بالضبط – هي الأنظمة التي تؤيد سياسات آل سعود، وتضمن مصالحهم.
وهذا ليس كلامًا مرسلاً، فهو يتضح من خلال تقييم نتائج التدخلات السعودية في الأزمات الراهنة في العالم العربي في غضون السنوات الخمس الأخيرة.
فلا يقتصر الأمر على تطورات العام الأخير، منذ أن بدأت الرياض في الحرب على اليمن، بزعم دعم “الشرعية”؛ حيث إن القصة تبدأ من نقطة زمنية أبعد، ومن مكان بعيد عن اليمن.. من مصر، بعد ثورة يناير 2011م.
أولاً، وبتقييم سريع، وفق المعايير السابقة؛ فإن الرياض لم تنطلق من بواعث أخلاقية في تعاملها مع أزمات المنطقة، وإنما وفق بواعث تتعلق بمصالح النظام السعودي، وما تزعمه الرياض في صدد أنها تتصدى للمد الشيعي وتحاول محاصرة المشروع الإيراني في المنطقة، لدرء مخاطره على الأمن القومي العربي والإسلامي؛ إنما كلها مزاعم باطلة، ومحاولات لإلباس الحق بالباطل، لتزييف الوعي العربي والإسلامي، من أجل كسب تعاطف الجمهور العام والقوى السياسية مع الموقف السعودي.
إن الصِّدام السعودي مع إيران، ينطلق في الأساس من بواعث ذاتية تخص آل سعود، ضمن صراع المصالح والنفوذ في العالم العربي والمشرق الإسلامي.
كما أنه في جانب آخر، هذا الصِّدام، هو أحد صور صراع الأصوليات الحالي في الشرق الأوسط، والذي يضم السعودية وإيران والمشروع الصهيوني والمشروع السلفي الجهادي المتعدد الأوجه، وهو الأسباب الرئيسية وراء كل هذا الخراب والدماء الذي نشهده بين ظهرانينا في العالم العربي في الوقت الراهن.
وما ترتب من أضرار على أهل السُّنَّة والجماعة، والشرعيات الحاكمة في البلدان التي تدخلت فيها السعودية، سياسيًّا وعسكريًّا؛ أفدح بكثير مما لو كانت الرياض لم تتدخل، كما أن موضوع دعم “أهل السُّنة والجماعة” مضحكٌ بالنسبة للبعض؛ حيث يتساءلون عن موقف السعوديين مما يجري في العراق تجاه العرب السُّنَّة، ولماذا لا تدخل السعودية في حرب مع إيران بدلاً من أسلوب حرب الوكالة هذا الذي أشعل المنطقة كلها.
وقد يقول البعض إن هذه الأضرار عارِض جانبي للتدافع السعودي ضد المشروع الصفوي الإيراني في المنطقة؛ إلا أن هذا التقييم خاطئ؛ حيث إن الرياض عامل أذى مستقل في هذا الأمر، فهي تتصرف في مناطق الأزمات بما لا يمكن معه أن يصون مصالح أهل السُّنَّة والجماعة في هذه المناطق.
فعلى أبسط تقدير؛ وفي اليمن؛ فإنه وبعد عام كامل من الحرب والقصف؛ لم تنجح السياسة السعودية في إقرار “شرعية” الرئيس هادي منصور، وفرض سلطة واحدة، واستباب الأمن، في عموم اليمن، وسط دمار كبير في البنية التحتية والمنازل، أدى – وفق أرقام الأمم المتحدة – إلى أن يتحول اليمن السعيد، إلى يمن تعيس بكل معنى الكلمة، بأكثر من 6500 ضحية مدنية، وثمانين بالمائة من الشعب اليمني، تحولوا إلى جياع، بمن فيهم سُنَّتهم وشيعتهم!
فوفق منسق الشؤون الإنسانية في اليمن، جيمي ماكجولدريك، فإن نحو 21 مليون شخص من إجمالي سكان اليمن، البالغ عددهم 26 مليونًا، بحاجة إلى نوع من الدعم الإنساني [“قدس برس”/ 21 فبراير]
كما أنه ينبغي الإشارة إلى أمر شديد الأهمية، وهو أن باعث العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، لأخذ قرار التدخل العسكري في اليمن، كان هو سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء والمدن اليمنية الكبرى، ومعسكرات الجيش اليمني، بينما هذا الوضع، هو نتيجة وبتأثير مباشر من سلفه الراحل، الملك عبد الله، الذي دعم الوجود الحوثي في اليمن، من أجل إسقاط هيمنة الإخوان المسلمين على الحياة السياسية والاجتماعية، بعد ثورة فبراير 2011م.
أي أن المأساة اليمنية منذ البداية للنهاية؛ هي نتيجة لسياسات النظام الحاكم في الرياض، وتمكين الشيعة الذين تزعم الرياض أنها تتدافع ضد مشروعهم في الإقليم، في اليمن، كان بدعم مباشر من الرياض.
والغريب أن الرياض التي لم تستطع للآن حسم المعركة في اليمن، بالرغم من أنها تحارب بكل ما أوتيت من قوة جوية، ومن خلال تحالف يمني وعربي واسع على الأرض، يضم آلاف العناصر المقاتلة؛ لم تستطع لاعتبارات سياسية وإستراتيجية، بعضها يتعلق بقدرات الرياض العسكرية الضعيفة في الأصل في هذا الجانب، القدرة على خوض حربٍ ميدانية، بالرغم من كل ذلك؛ نجدها تتكلم عن حرب أو تدخل بري في بلد مثل سوريا، أكثر تعقيدًا بكثير في وضعه السياسي والجيوسياسي، عن اليمن.
سياسيًّا، سوريا تملك نظامًا حاكمًا له شرعيته القانونية أمام العالم، وتدعمه دول وقوى كبرى إقليميًّا، مثل إيران والعراق و”حزب الله” اللبناني، ودول عظمى، مثل روسيا، كما أن الموقف الفرنسي قريب من النظام السوري الآن، أكثر من أي وقت مضى، فيما الحليف الأمريكي لا يدعم الموقف السعودي، في المقابل.
جيوسياسيًّا، المملكة العربية السعودية لا تملك أية حدود برية مع سوريا تسمح للرياض بنشر قوات برية بشكل مباشر، ولابد من تعاون بين السعودية وبين الدول التي تملك حدودًا برية مع سوريا لإمكان ذلك، بفرض امتلاك الرياض قوة عسكرية مناسبة، أو حتى قوات خاصة قادرة على التدخل في سوريا، كما يقول “الخبراء” السعوديون.
هذه الدول الأربع، هي لبنان والعراق وتركيا والأردن، ومن المستحيل أن توافق بغداد أو بيروت على أي طلب سعودي في هذا الأمر؛ بجانب أن الدخول من الحدود العراقية معناه قطع آلاف الكيلومترات في صحراء جرداء، أو في مناطق معادية للرياض، كما في جنوب العراق.
أما في الحالة اللبنانية؛ فإنه من المستحيل أن تقدِم الحكومة اللبنانية على هذا؛ لأن ذلك معناه حربًا أهلية لا مراء، في ظل رفض “حزب الله” لذلك، وكون “حزب الله” جزءًا من الحكومة ومجلس النواب اللبنانيين؛ أي أن رفضه سيرتبط بمواقف تحالف واسع يضمه مع قوى لبنانية أخرى، بجانب أنه هو من يسيطر على منطقة الحدود اللبنانية – السورية من الجهتَين؛ فهذه بدورها جبهة مغلقة.
الطرف التركي تحمس في البداية لأن له مصلحة في ذلك، في ظل أزماته مع الأكراد فوق وتحت خط الحدود مع سوريا؛ إلا أن ضغوطًا أمريكية واضحة وصريحة جعلت الأكراد يتراجعون في موقفهم المبدئي هذا، لأن واشنطن تعلم أن أنقرة لن تدخل سوريا لمحاربة “داعش”؛ فـ”داعش” من الأصل تسيطر على مناطق حدودية مع تركيا، ولا يقوم الأتراك بقصفها، مثل معبر “تل أبيض”، شرقي الفرات، ومعبر “جرابلس”، غربي الفرات، وهنا تلعب “داعش” دورًا مهمًّا للغاية في ضمان مصلحة تركية مهمة، وهي عدم عبور قوات الأكراد إلى غرب الفرات.
كما أن الأتراك كانوا يعولون على موقف حلف “الناتو” من أزمتهم مع الأكراد في جنوب شرق تركيا وفي شمال سوريا؛ لكن حلف “الناتو” قال إن التزامه إزاء تركيا كعضو في الحلف، لا يكون إلا لو تعرضت تركيا لاعتداء مباشر، ومن ثَمَّ؛ أعلن الجيش التركي، والحكومة التركية، بما لا يدع مجالاً للشكِّ أنه لن يتدخل عسكريًّا في سوريا بأي شكل خارج إطار مجلس الأمن، أو التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، في سوريا.
فوزير الدفاع التركي، عصمت يلماظ، أعلن أمام البرلمان التركي – في موقف له دلالته – أن قوات لن تتدخل في سوريا بريًّا، كما أن رئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو، ووزير خارجيته، مولود جاويش أوغلو، أكدا على أن التدخل البري لن يكون منفردًا، وأنه سوف يكون ضمن قرار دولي أوسع.
ولم يتبقَّ أمام السعوديين الآن إلا الأردن، وبالفعل وردت تقارير أن هناك محاولات من جانب الرياض لإقناع الأردن بالسماح لقوات سعودية بالدخول إلى سوريا من الحدود الجنوبية لها، من خلال الأردن، وهي الأقرب إلى السعودية؛ إلا أن المخاطر الأمنية والسياسية المترتبة على هذا القرار، لبلد مثل الأردن، بتركيبته العشائرية والسياسية المعقدة؛ لن تسمح للملك عبد الله الثاني بن الحسين، بأخذ مثل هذا القرار.
ما جرى في مصر
أشرنا إلى أن الدور السعودي في أزمات المنطقة لم يبدأ من اليمن، أو من سوريا، وإنما بدأ منذ بدايات الربيع العربي، وكان ولا يزال دورًا إجهاضيًّا، ويبرز من خلال تفاصيل عدة، أنَّ تشدُّق الرياض بمسألة حماية إرادة الشعب اليمني والشرعية في اليمن؛ إنما هو مزاعم باطلة لا أساس لها من الصحة.
من المعروف في السياسة بالضرورة، ومن البديهي فيها أيضًا؛ أن الشعب هو مصدر الشرعية، وهو مصدر السلطات، ولكن الرياض، وعندما انهار نظام الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي؛ كانت أول من احتضنه، بالرغم من أنه أصبح رمزًا لنظام خلعه شعبه، من خلال ثورة جماهيرية حاشدة ونظيفة، أتت بنظام جديد، وصار وجود بن علي في السعودية رمزًا لدعم سياسي سعودي يتم بالتعاون مع أطراف إقليمية أخرى، من بينها الإمارات، لثورة مضادة تعمل على محاربة الشرعية الجديدة التي أسسها الشعب في تونس.
فكانت كلاًّ من الرياض وأبوظبي، وراء الكثير من الأزمات الأمنية والسياسية التي زعزعت حكومة النهضة الأولى والثانية، قبل أن تأتي الانتخابات الرئاسية بالرئيس التونسي الحالي، الباجي قايد السبسي، نائب بن علي، إلى الحكم في تونس.
هذا يُعتبر تمهيدًا لما حصلنا عليه من مصادر خاصة، في شأن ما جرى في مصر من أجل الإطاحة بالإخوان المسلمين، حتى ولو كان الثمن هو دماء المصريين وخراب مصر، وبالتالي يكذِّب مزاعم السعودية وهي تدعم النظام الحالي في مصر ـ والذي أتى به الانقلاب على حكم الإخوان، من أنها تدعم مصر، حبًّا في مصر والمصريين.
في شتاء 2011م، وربيع 2012م، كان هناك اتفاق ضمني بين الدولة المصرية وبين الإخوان المسلمين، على عدم التقدم بمرشح رئاسي، وتم التأكيد على هذا الاتفاق في بضع جلسات جمعت ما بين عدد من قيادات الإخوان المسلمين، ومسؤولين كبار في الدولة، من بينهم مسؤولين من المخابرات العامة، باعتبار أن ذلك الأمر، قد يجر على البلاد مشكلات داخلية وخارجية هي في غنىً عنها في تلك المرحلة الحساسة التي كانت تمر بها مصر.
وبعد الانتهاء من أحد هذه الاجتماعات أو الجلسات، التي كان يحضرها ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية بالإسكندرية، أكبر الكيانات المنظَّمة التي تمثل السلفيين في مصر، خرج بعض مسؤولي الإخوان المسلمين، لكي يعلنوا الخبر المشؤوم الذي رفضه فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين، الدكتور محمد بديع، نفسه، وحذرت منه أوساط عديدة داخل الجماعة، ومن محبيها الناصحين في داخل مصر وخارجها؛ بأن الإخوان المسلمين سوف يدخلون السباق الرئاسي في مصر.
ووفق مصادر خاصة؛ فإن برهامي، بتأثيرات من السعودية، أو بمعنى أدق، بطلب مباشر من الرياض، في مقابل دعم مالي وسياسي، حصلت عليه الدعوة السلفية، وحزبها، حزب “النور”، كان عاملَ تأثير مهمًّا للغاية على تفكير قيادات الإخوان المسلمين، للتراجع عن قرارهم السابق بعدم خوض انتخابات الرئاسة، والإعلان عن خوضها.
المصادر أشارت إلى أن الرياض كانت تعلم – مثلما كان مسؤولو المخابرات العامة، ومسؤولون آخرون في الدولة المصرية يعلمون ويتخوفون – أن دخول الإخوان إلى المساحة الرئاسية، سوف يجلبهم إلى مساحة صِدَام مروِّع مع المؤسسة العسكرية، ينتهي بالإطاحة بالإخوان، وبإنهاك المؤسسة العسكرية، ولو على حساب دماء المصريين وخراب مصر؛ فالمهم مصالح آل سعود.
وكان تقدير السعوديين في ذلك، أن هذا الصِّدَام سوف يؤدي إلى القضاء على الإخوان، وإضعاف العسكر؛ فتخلو الساحة الإسلامية في مصر أمام السلفيين المؤيدين أو التابعين للرياض، ويكون العسكر أقل قدرة على معارضة طلبات الرياض – التي سوف تتقدم بمساعداتها لإنقاذ نظام العسكر المترنِّح – في السياسات الإقليمية.
وهو ما يفسر السرعة غير المسبوقة، والحسم الكبير، الذي قابل به الملك عبد الله، الانقلاب في مصر؛ حيث كان يتوافق بالضبط مع ما خططوا وسعوا إليه في مصر.
وبالطبع، فإن السياسات التي تبنتها الرياض، ضمن أطراف أخرى في المنطقة، وفي داخل مصر، أدت إلى الحالة الراهنة التي تقف فيها الدولة المصرية على شفا الإفلاس، والمجتمع على شفا الانفجار، بجانب عشرات الآلاف من جرائم القتل والتشريد والاعتقالات، والتي أدت إلى ثارات داخلية في المجتمع المصري، لم تحدث في تاريخه!
……
نصل إلى النقطة الزمنية الحالية، وهي اعتذار الرباط عن استضافة القمة العربية، والأزمة في لبنان.
فالمعلومات المتاحة تشير إلى أن الرياض، خلال زيارة وزير خارجيتها، عادل الجبير، مؤخرًا إلى المغرب، عرضت على الرباط المشاركة في حملة برية على سوريا، وهو ما رفضت الرباط من الأساس مناقشته رسميًّا، حتى لا يُحسَب عليها موقفٌ من الأصل، ولو بالرفض، وهو عُرفٌ قائم في الدبلوماسية، فمناقشة الأمر رسميًّا، يعني أنه مطلوب منك ردٌّ في صدده، والرباط لا ترغب في قولة “لا”؛ لأن ذلك من شأنه أن يفتح المجال للإعلام السعودي – وهو بالمناسبة، به مصادر أسوأ من الإعلام المصري في مسألة التشهير، مثل قناة “العربية” و”الشرق الأوسط” اللندنية – لحملة ضد المغرب.
ترتب على ذلك خروج السعودية بطلب لتأجيل القمة إلى السابع من أبريل المقبل، بدلاً من نهاية مارس، فما كان من الرباط إلا أن أعلنت اعتذارها عن تنظيم الدورة الحالية من القمة العربية، وكان المبرر بسيطًا وواضحًا ويرمي الرياض ولكن ليس بالباطل، فبيان الخارجية المغربية أشار إلى أن الأوضاع الراهنة في المنطقة لا تسمح بقمة قرارات، وبالتالي؛ فلا داعي لعقدها من الأصل!
وبطبيعة الحال، فإن سياسات الرياض الحالية، قد خلقت انقسامًا غير مسبوق في المواقف العربية، كما أن الأزمات الأمنية والسياسية الموجودة في المنطقة، جعلت الكثير من الدول العربية تنكفئ على ذاتها ومشكلاتها، بدلاً من التورط في مزيد من المشكلات بسبب الاستجابة للمطالب والسياسات السعودية التي أشعلت المنطقة بالفعل.
فيما يتعلق بلبنان، فالأمر خطير؛ حيث خلقت المواقف السعودية الأخيرة بوقف المساعدات عن الجيش وقوى الأمن اللبنانيَّيْن، والبدء في مراجعة العلاقات مع لبنان بشكل عام، في تصعيد الأزمة الداخلية التي يعاني منها البلد، من خلال حلفاء الرياض في قوى الرابع عشر من آذار، وفي تيار المستقبل (أكبر القوى السُّنِّية في لبنان) وفي الحكومة اللبنانية ذاتها، مثل وزير العدل أشرف ريفي الذي أعلن استقالته من منصبه بسبب سياسات “حزب الله”.
الرياض أرادت من وراء قراراتها تلك في حق لبنان، إلى إجبار الحكومة اللبنانية والقوى السياسية هناك، على الضغط على “حزب الله” لوقف قتاله إلى جوار نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهو أمر تحدث عنه سعد الحريري زعيم تيار المستقبل صراحةً.
وهو أمر مضحك أن يتصور آل سعود تحقيقه؛ لأن حزب الله لا يقاتل في سوريا من تلقاء نفسه؛ حيث هو ضمن منظومة الأدوات الإيرانية في الإقليم، كما أنه لا يقاتل لأجل حليف لبواعث سياسية؛ إنما يدل الأمر في إطار شديد التعقيد من المصالح السياسية والاتصال المذهبي، ضمن صراع الأصوليات الحالي في الشرق الأوسط، ولو كان الأمر بهذه البساطة؛ لتوقف بشار الأسد نفسه عن القتال في سوريا، ولجأ إلى روسيا لو تعامل مع الموقف مثلما تعامل معه حليف بن علي في تونس.
وفي جانب آخر؛ فلا معنى اعتراض السعودية – في قرارها بوقف المساعدات عن الجيش وقوى الأمن في لبنان – على كون “حزب الله” جزءًا من الدولة اللبنانية؛ حيث هم اللبنانيون، ارتضوا ذلك، بسبب ظروفهم وتركيبة مجتمعهم، ولأنهم يريدون الحفاظ على الدولة من الانهيار، وبالتالي، فهم في الحكومة اللبنانية، شديدو الحساسية لأي موقف قد يقود إلى توترات سياسية وطائفية داخلية، مثل الموقف من قتال “حزب الله” إلى جوار بشار الأسد في سوريا، أو التضامن العلني مع الرياض في أزمة واقعة حرق واقتحام ممثلياتها في طهران ومشهد.
فـ”حزب الله” – اتفقت أو اختلفت معه – يبقى أنه يُعبِّر عن طائفة كبيرة، ربما هي الأكبر في لبنان الآن، والحزب نفسه، على مستوى العدد؛ يمثل قسمًا كبيرًا من المجتمع اللبناني، أي أن وجوده في الدولة اللبنانية أمر منطقي، ولو بحكم الأمر الواقع.
والليلة، المشهد في بيروت، مع انتشار عناصر قوى الرابع عشر من آذار في شوارعها، ربما لإجبار “حزب الله” على استدعاء جزء من قواته من سوريا، يكرر نفس الموقف الذي تم قُبَيل الحرب الأهلية البنانية الماضية، عام 1975م، مع اختلاف الفاعلين.
فالمرة الماضية، كانت القوى المسيحية المدعومة من إسرائيل وفرنسا والغرب عمومًا، هي التي أشعلت الموقف بسبب السلاح الفلسطيني، بزعم المخاوف من أن الوجود الفلسطيني “السُّنِّي” المسلح، يدعم طائفة على حساب باقي الطوائف اللبنانية، وأن السلاح الفلسطيني يعني اختلال معادلة توازن القوى السياسية والطائفية في لبنان.
الآن القوى المدعومة سعوديًّا في لبنان، تقود حالة سياسية مماثلة داخل بلد هشٍّ بطبيعته، ولكن الهدف هذه المرة هو “حزب الله”، وهي هزة لا يتحملها بلد مثل لبنان، شهد تفجيرات واشتباكات طائفية مروعة خلال السنوات الماضية، بسبب هذه الطبيعة الهشة، وهو ليس تعاطفًا – بطبيعة الحال – مع “حزب الله”؛ إنما هو توصيف دقيق للوضع.
فإجراءات السعودية وحلفائها في لبنان، لا تقل ضررًا، ولا تختلف كثيرًا في طبيعتها، عما تفعله إيران وحلفائها في لبنان، وهو أمر يتكرر في سوريا، وفي اليمن، فما الفارق؟!.. وما الذي يعطي الرياض الأفضلية الأخلاقية والسياسية في التأييد عن إيران؟!
……
في الأخير، تقف أطلال المدن اليمنية، وفي سوريا، والأزمات المتوالية في مصر وتونس ولبنان، وفي دول عربية أخرى، تبقى شاهدة على حقيقة مهمة، وهي أن الرياض تقف في زمرة أكبر قوى الخراب في المنطقة، ولا يعفيها حسن النية – لو توافر، وهو من قبيل الخزعبلات السياسية لو قيل هنا – من أنها مسؤولة – ضمن أطراف أخرى – عن أسوأ مرحلة مرت بها الأمة العربية والإسلامية من الاقتتال الداخلي!