على مقهى في إسطنبول جلسنا، لا لشيء سوى الاطمئنان على أحوال كُل منا “الشخصية” فقط، ليصل بينا الحديث في نهاية الليل عن الجماعة الربانية، وطارق دونما جدال ينتمي إلى فكر جماعة الإخوان المسلمين، التي تربى داخلها لسنوات، لكنه الآن ونتيجة انعدام الرؤية لم يعُد يأبه بشيء من هذا التنظيم، سوى إخوانه المُلقى بهم قسرًا داخل سجون السيسي، وبعض أحاديث الذكريات.
أحاديث الذكريات هذه هي التي قادتنا للحديث الطويل، عن الجماعة التي لم نعُد نعرفها، فأنا أيضًا لا أنكر أنني حظيت ببعض الاهتمام من قِبل مسؤولي الأشبال في الشعبة، سعيًا منهم ومن أبي، رحمه الله، أن أصير كما أحُب، فهو لم يكن يحب شيئًا كما أحب الإخوان، لكن يبدو أن أمي كانت على حق، حين دعت أبي للكف عن دفعي أن أكون منتميًا، وأنه لو أحببت الانتماء، فلن يُفلح معي “زَق” الوالد، رحمه الله.
الجماعة والمجتمع
لجنة البر، تلك التي تم إنشاؤها عام 1945 وكان ينصب عملها على تقديم الخدمات للفقراء وجمع التبرعات وصرفها في أوجه الخدمات الصحية والمجتمعية المختلفة كما عملت اللجنة على إنشاء وتمويل مستوصفات خيرية خاصة، تقوم بالكشف الطبي على الفقراء نظير أجور رمزية، أيضًا تنظيم قوافل طبية لعلاج الفقراء في المناطق النائية يُنظمها أطباء الإخوان، طارق، لا يمكن أن ينسى أبدًا هذه الدور الذي قامت به اللجنة، في النجوع والقرى من أقصى أسوان حتى قلب الدلتا، حيث كان يسكن.
ولم لا، فكان أبناء القرية يعدون أعضاء الإخوان على الأصابع، وحين يحتاج أي منهم شيئًا، لزواج يتيمة أو إعالة أسرةٍ محتاجه لم يكُن لهُ أن يتوجّه لغير الإخوان، فكان دورهم “التكافلي” النابع من أحد أهم ركائز الجماعة وهو الأخوة، ساعد الكثير من محتاجي مصر على التوجه إلى القائمين على هذا الدور، لسد عجز الدولة وفشلها في تلبية حاجيات مواطنيها.
هذا التكافل الذي أنشأت الجماعة له نظامًا محكمًا، جعلها تلتصق بأحلام الشعب وقوت يومه، وجعل الشعب يُدرك أن هذه الجماعة هي الأجدر بقيادة هذا البلد.
بالمناسبة، تقول أكثر من دراسة، أعدها باحثون مصريون وغير مصريين، أن النظام الاجتماعي للإخوان كان أحد أهم عوامل نجاحهم، في كُل الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة، فقد جربهم الشعب لعقود.
أما الإشاعات التي تم إطلاقها على الجماعة، بشأن شرائها لأصوات الناخبين بـ “السكر والزيت”، لم يعلم مروجوها، أن هذا كان ديدن الجماعة حتى قبل الثورة، وهو ذات الدور الذي يقوم به الجيش المصري الآن في كُل حدثٍ انتخابي.
الجماعة والتربية
في “حوش” المنزل، نهاية يونيو2010، جلس أبي يستقبل مهنئيه بالخروج من سجون مبارك، فألقى أحد المارين السلام على الجمع الكبير، فقاطعه مازحًا أحد الأهالي، بلاش ليقولوا عليك إخوان، ضحك أبي، ثم يصيح زوج عمتي رحمه الله، متندرًا، وهو فيه حد في مصر مش إخوان؟
تلك كانت، العلاقة الفعلية التي كانت بين الجماعة فترة حسني مبارك، وبين عامّة الشعب، غير المخبرين طبعًا، فكانت لجان التربية داخل الجماعة تعمل على قدمٍ وساق، بين رحلات ترفيهية، ولقاءات رياضية، ومسابقات حفظ القرآن الكريم، وتكريم أوائل الشهادات، ودورات كرة القدم الرمضانية التي كانت جزءًا من برنامج الفعاليات الرمضانية المزدحم، بالاعتكاف والتراويح وليلة القدر، وإفطار الصائمين وتزيين المساجد، ثم العيد.
صحيح، هل قارنت تنظيم أول عيد بعد الانقلاب، بغيره من الأعياد السابقة التي كانت ينظم صلاوتها شباب الجماعة؟ احتفظ بالإجابة لنفسك.
في قريتنا أتذكّر أنه لم يكن يمنع أقران سني من الحضور للقاء الرياضي في “الملعب الكبير”، سوى تهديد مخبري أمن الدولة لأبائهم، بأن أولادهم ربما يتعرضون للمساءلة نتيجة لعبهم الكرة مع الإخوان.
وأتذكّر أيضًا، ذاك اليوم الذي عاد فيه أبي أيام انتخابات 2010 حزينًا، لأن القمع قد وصل مداه، ففي إحدى جولات طرق الأبواب للتعريف بالمرشحين خرج أحد الأهالي، مؤكدًا أنه سينتخب الحاج شفيق الديب، لكن، بلاش تيجولي البيت تاني.
وأكاد أجزم، أن كثيرًا من التعاليم الإسلامية في نفوس المصريين، لم يزرعها سوى الإخوان المسلمين، وأن ثقة الناس في الإخوان وفي دينهم، كان يدفع بأهالي القرى، لتحكيم الإخوان بين الزوج وزوجته المتنازعين وبين الإخوة الأشقاء في النزاع عن الميراث، وأن مشاكل كثيرة لم تكن لتُحل لولا تدخل الإخوان لحلها، مشاكل البيع بالقسط، على سبيل المثال.
ماذا تغير؟
هناك قاعدة، أرستها الجماعة قبل غيرها، وهي أن التنظيم، لا يتقن العمل إلا في الظل، ولا يستطيع التأثير إلا في حالة القمع، سبب ذلك ربما يكون هو أن ما عاشته الجماعة تحت وطأة الظلم أكثر بكثير من فترات حريتها، وانفتاحها، ظهر ذلك جليًا بعد ثورة يناير، حيث أصبح المجال العام في مصر مشاعًا، بعدما كان يقتصر على مظاليم الإسلاميين وبعض المشتغلين بالسياسة.
فبعد حالة السيولة السياسية التي عاشتها مصر بعد الثورة، وجهت الجماعة جهودها وجهود أعضائها إلى ملئ الفراغ السياسي الذي أحدثه خروج نظام مبارك بكثير من رموزه من الحياة السياسية، تلك الجهود تضافرت، لإنجاح المشروع السياسي للإخوان، دون الالتحاف بالشعب كمصدر رئيسي للقوة، فـ “المتغطي بغير الشعب عريان”.
في تلك الأثناء نجحت الدولة المصرية العميقة وأداوتها الإعلامية في تشويه الإخوان ومشاريعم، وساعدهم في ذلك الإخوان نفسهم بانشغالهم عن الشعب بالسياسة، لتتكلل المساعي في فترة حكم الرئيس مرسي، بتأزيم الوضع أكثر في كُل نواحي الحياة.
ليظهر في الثلاثين من يونيو حجم النوى الذي أصبح فيه الشعب والإخوان، بعد أن كانت الجماعة، جبيرة كسره طيلة عقود.
فمن كان يصدق أن الشعب المصري، سيقبل دعوة وزير الدفاع بتفويضه لقتل معارضيه، في القلب منهم الإخوان؟ ومن كان يصدق أن يهلل الشعب لحمامات الدم في المنصة ورابعة والمنصورة والإسكندرية؟
قصةٌ شهيرة، لا يمكن نسيانها في هذا المقام، أن مواطنًا شريفًا كان بجانب بعض الشرطيين في أحد الأكمنة في المناطق الشعبية، وتعرّف على أحد الإخوان، وقام بالوشاية عليه، مؤكدًا للضابط، أنه يعرف هذا الإخواني جيدًا، فقد كان الأخ مسؤولًا عن توصيل معونة دورية لوالدة هذا البلطجي.
وقتها كان على الإخوان أن يعوا، أن الشعب الذي التحفوا به لسنوات، لم يعد يريدهم، بل أصبح يبارك ذبحهم.
لكن للأسف، ودون أسبابٍ معلنة، لم تسع الجماعة للعودة لأحضان المصريين مرة أخرى، بل ويمكن القول أن قياداتها وبعض تصريحاتهم ساعدت على ذلك الشقاق المجتمعي، الذي كان خطًا أحمر طيلة عشرات السنين.
الحل
على الجماعة أن تدرك أنها وصلت للحكم ذات يوم ليس بسبب رؤيتها الفذة والسحرية لرفع الهموم عن كاهل المصريين، فالملايين التي أدلت بصوتها للجماعة في 6 استحقاقات انتخابية، لم تقرأ برنامجها، بل إن مرشحين مغمورين، وصلوا إلى كراسي البرلمان بسبب قائمة الإخوان التي وسعتهم، لا برامجهم العبقرية.
على الجماعة أن تسعى للعودة للمساجد مرة أخرى، ولو بأشكال ووسائل وأشخاص لا يحملون شعار “وأعدوا” وعلى الجماعة أن تجد حلًا ومنفذًا لها بعيدًا عن أبواق الإعلام الفاسد التي تخون كُل ما هو لا ينتمي للدولة وأجهزتها.
مدرك أن الكرب الواقع على الجماعة وأعضائها ليس بقليل، لكن الجماعة التي صمدت أكثر من ثمانين عامًا لا ينبغي لها أن يكون دورها في ظرف حالك كهذا مجرد مناهضة للنظام من خلال تظاهراتٍ تخرج كل أسبوع دعمًا للشرعية، التي يتندر المصريين بمصطلحها الآن.
كما عمل الإخوان سابقًا على وعي الشعب، عليهم الآن أن يعملوا على نزع الغشاوة عن أعين الشعب المضحوك عليه.
بعد كُل هذا الكلام الجميل والمنمّق، قاطعني طارق، على الإخوان حل مشاكلهم الداخلية أولًا، قبل أن يخرجوا لحل مشاكل الشعب.