راقب النظام السعودي موجة الربيع العربي التي تكشفت في مختلف أنحاء الشرق الأوسط في عام 2011 بقلق عميق. ومع تقدم العام، فقد رد النظام عبر اعتقال الإسلاميين المعتدلين بسبب التهديد المحتمل الذي يمثلونه. نجاح جماعة الإخوان المسلمين خلال الانتخابات المصرية الأولى أزعج السعودية وزاد من مخاوفهم أن الإسلاميين في البلاد بإمكانهم أن يصبحوا أكثر نشاطا وصخبا. “سليمان الرشودي”، وهو أحد الإسلاميين المعتدلين المخضرمين، تمت إدانته بتهمة حيازة مقالات كتبتها في التاريخ والشؤون الجارية السعودية والتي كانت محظورة لأنها تقدم نظرة نقدية للسياسة السعودية. نشط “الرشودي” منذ التسعينيات في تحدي التفسيرات التي يتبناها النظام للإسلام وفي عام 2009، ساهم في تأسيس منظمة للحقوق المدنية والسياسية أطلق عليها جمعية الحقوق المدنية والسياسية السعودية (المعروفة اختصارا في اللغة العربية باسم حسم).
ومنذ ذلك الحين، استخدمت المملكة العربية السعودية المال والدبلوماسية من أجل إحباط صعود الإسلاميين الملتزمين بالإصلاح السياسي والذين تدعم تفسيراتهم للنصوص الإسلامية أفكار الديمقراطية والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان. هؤلاء هم نتاج حركة فكرية هامة في المملكة العربية السعودية بدأت في العام 2009 بعد أن شهدت البلاد موجة دامية من العنف الجهادي بين عامي 2003 و2008. بدأ انتشار هؤلاء الإسلاميين منذ الصحوة الإسلامية في التسعينيات، ولكن خطهم من التفكير تطور نحو رفض العنف والدعوة إلى تمكين المجتمع المدني والديمقراطية في مواجهة لتطرف والهيمنة السلفية الوهابية في المملكة العربية السعودية. تألفت المجموعة في البداية من الإسلاميين قبل أن ينضم إليهم لاحقا أشخاص من غير ذوي التوجه الإسلامي. وعلى الرغم من أنه من الصعب تقدير حجم هذه الحركة وتأثيرها، فإن كثيرا من الشباب السعوديين ينظرون إلى هؤلاء الإسلاميين باعتبارهم بديلا حقيقيا للأيدولوجيا والملوك السعوديين، خاصة في ظل رفض هؤلاء لأي إصلاح سياسي حقيقي.
في عام 2009، وضع “الرشودي” وعدد من زملائه النظرية الحركي في صورة نموذج عملي عبر تأسيسهم لجمعية “حسم”، وهي واحدة من المنظمات المدنية الأولى في المملكة العربية السعودية، والتي دعت إلى إصلاح سياسي واسع على أساس إسلامي. أحد مؤسسي “حسم”، “عبدالله الحامد”، وهو أستاذ في الدراسات العربية مقيم في الرياض قام بتعريف الجهاد ليس بوصفه عمل عنيف بالضرورة وإنما بوصفه النضال السلمي ضد الظلم من خلال النشاط والمظاهرات، وكلها أنشطة محظورة في المملكة العربية السعودية. وعبر إعادة تفسير النص القرآني الذي يدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد دعا إلى ملكية دستورية وحكومة منتخبة وقضاء مستقل ومحاكمات عادلة للسجناء السياسيين.
زميله، البروفيسور “محمد فهد القحطاني”، وهو ناشط غير إسلامي، قد قام أيضا على العلن بشجب المحاكمات السرية واستخدام التعذيب في السجون، وانتهاكات وتجاوزات وزارة الداخلية السعودية. (قامت عدة منظمات حقوقية دولية بتوثيق استخدام التعذيب في السجون والحبس الإنفرادي للسجناء من بين عدد آخر من الانتهاكات التي قام القحطاني بتوثيقها ونشرها على الموقع الإلكتروني لمنظمة حسم). وزعمت “حسم” أيضا أن النظام لا يمثل حكومة إسلامية حقا بل إنه يقوم بتوظيف الإسلام من أجل تبرير القمع. وتحدثت عن التطبيق الصارم لطاعة الحكام استنادا إلى الآيات القرآنية التي ترشد المؤمنين إلى طاعة الله والرسول وأولي الأمر، وانتقدت “حسم” التفسير الوهابي للطاعة على أساس كونها تعني الخضوع والاستسلام. في الواقع فإن الحاكم هو من يدين بالولاء لقاعدته الجماهيرية التي تمتلك الحق في اختياره والتدقيق في سياساته. وقد راق هذا الخطاب للعديد من النشطاء، وبخاصة أولئك الذين تابعوا وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية التابعة لـ”حسم” وتابعوا الأخبار حول محاكمات أعضائها واستمعوا إلى محاضراتهم على موقع يوتيوب. أصبحت حسم جزءا هاما من المشهد السياسي السعودي بعد أن وفرت وسيلة سلمية جديدة للدعوة إلى الإصلاح. رغم أنه من الصعب بدقة تحديد حجم أنصارها.
بحلول مارس/آذار من عام 2013، كانت المملكة العربية السعودية قد قامت بحبس 9 من ضمن 11 من المؤسسين الذين قاموا بتوقيع بيان المؤسسة، بما في ذلك العديد من المحامين في مجال حقوق الإنسان المرتبطين بالمنظمة. وجهت المحاكم إلى هؤلاء تهم على شاكلة ذرع بذور الفتنة واتهام النظام بكونه دولة بوليسية وتحريض الرأي العام ضد الأجهزة الأمنية والعلماء، والأهم من ذلك كسر الولاء للحكام. وحكم قضاء النظام على نشطاء “حسم” بالسجن لمدد طويلة والمنع من السفر إلى الخارج. وهناك نشطاء غير تابعين لحسم قد اتهموا بتهم مماثلة بسبب ممارستهم لحقهم في حرية التعبير والتغريد على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من أن عمر “حسم” كمنظمة كان قصير الأجل، فإنها قد نجحت في تجذير مبادئها. في السنوات الأخيرة، استمر عدد من الشباب الحداثيين، الذين تلقى العديد منهم الدراسات الإسلامية التقليدية، في تحدي تفسير المملكة العربية السعودية للإسلام. أحد هؤلاء هو “عبدالله المالكي” (38 عاما)، هو باحث متخصص في الدراسات الإسلامية وكاتب نشط على تويتر، والذي صعد إلى الصدارة بعدما أثار غضب السلفيين عبر نشر مقالات تؤكد أن الشريعة لا يمكن فرضها بالقوة، وهو عنصر أساسي في تبرير كل من الحكم السعودي والتنظير الجهادي. في رأي “المالكي”، يجب أن تكون ممارسة الشريعة مسألة اختيار، لأن الشعائر مثل الصلاة لا تكون ذا معنى إلا إذا أداها الناس بإرادتهم الحرة، مؤكدا أن صلاة المجبر ليست صلاة فعلية. يطعن موقف “المالكي” بشكل مباشر في طريقة النظام السعودي الذي يفرض إحضار الناس إلى المساجد في أوقات الصلاة عبر غلق المحال التجارية. وأشار “المالكي” أن هذا السلوك القسري يدفع في نهاية المطاف الناس بعيدا عن الدين بدلا من جعلهم أكثر ورعا. ومن وجهة نظره، فإن الأنظمة التي تفرض الشريعة تفعل ذلك فقط بهدف الحفاظ على شرعيتها.
كما دعم “المالكي” الفصل بين الدين والدولة في جوانب معينة. يستخدم النظام السعودي القرآن الكريم بوصفه دستورا له، ولكن “المالكي” يرى أن القرآن كنص مقدس، لا يمكن تطبيقه بشكل مباشر على التفصيلات اليومية للعمل الحكومي. لهذا فإنه يدعو إلى ضرورة وجود دستور واضح لتنظيم عمل الحكومة. وهو يتصور أن الدستور هو أمر ضروري من أجل حماية حقوق الناس وممتلكاتهم وحرياتهم. وهو أيضا يفند مزاعم السعودية بكونها تمارس الشورى، التي تنطوي من وجهة نظره على التشاور مع المجتمع المسلم بخصوص القرارات المؤثرة عليه. بالنسبة له، فإن الشورى كمبدأ إسلامي ملزم التي لا يمكن ممارستها بشكل صحيح سوى من قبل مجلس وطني منتخب ديمقراطيا من قبل المجتمع. كما أن الشورى تسمح بإزالة الحاكم غير الكفء من قبل المجتمع عبر الاستفتاء وليس من خلال العنف. مثل كثير من المثقفين الشباب الآخرين، لا يحظى “المالكي” بالإعجاب من قبل المنظمات الإسلامية التقليدية مثل الإخوان المسلمين.
قام السلفيون المتشددون بتوبيخ “المالكي” بسبب آرائه، واصفين إياه بأنه يقوم بتمييع الإسلام من أجل إرضاء الغرب، وأطلقوا على ما يقدمه وصف “ليبرالية ملتحية”. وحتى الآن فإنه لا يزال حرا طالما أنه لم يدخل بعد إلى دائرة النشاط الحقيقي.
الدعوة إلى الديمقراطية
يدعو عدد آخر من المثقفين الحداثيين الإسلاميين في السعودية بشكل مباشر إلى الديمقراطية. “محمد الأحمري” (57 عاما) الذي يدير حاليا معهد أبحاث في قطر، هو واحد من الأكثر المطالبين بالحكومة الديمقراطية. ويعتبر “الأحمري” الديمقراطية بمثابة درع ضد “أسلمة القمع”، بما يعني استخدام الدين من أجل تبرير القمع السياسي. وغني عن القول أن موقفه يصطدم وجها لوجه مع التقاليد السلفية الوهابية، التي تصر على أن الديمقراطية ليست إسلامية ولكنها فكرة أجنبية مفروضة من قبل الغرب. في كتابه، “الديمقراطية: الجذور وإشكاليات التطبيق”، يسلط “الأحمري” الضوء على المبادئ الإسلامية وراء فكرة الحكومة الديمقراطية ويرى أنها النمط الحكومي الأكثر ملائمة للمجتمع البشري على اختلاف الثقافات والأديان. حتى أنه أثنى على انتخاب الرئيس الأمريكي “باراك أوباما” كمثال لكيفية تغلب الديمقراطية على الحواجز العرقية. هذا أغضب الباحث السلفي “ناصر عمر”، الذي اتهمه بتمجيد الغرب.
وقد تحدث “الأحمري” أيضا عن الالتزام بالحرية الدينية والتعددية والتي يمنعها رجال الدين الوهابيين السعوديين. وهو يستدعي بدايات توسع الحركة الوهابية في أوائل القرن العشرين إلى عسير، المنطقة الجنوبية الغربية من المملكة العربية السعودية التي ولد فيها. ومع انتشار هذه الأفكار، فقد تم إجبار العديد من المزارعين على اعتماد قانون اللباس الموحد الذي كان غير صالح لنمط حياتهم الريفي. ويقول أنه لا يوجد أي مبرر إسلامي للإصرار على هذا النوع من التجانس. القضاء على الاختلافات الثقافية وإجبار الناس على النظر والعبادة بنمط موحد هو أمر غير إسلامي، كما يقول.
الطريق الثالث
من نواح كثيرة، فإن هؤلاء المثقفين الإسلاميين يقومون بتقديم الطريق الثالث للتفكير في الحكم الإسلامي، والذي يقع ما بين السلفية الوهابية، التي يمثلها رجال الدين من الموالين للأسرة المالكة السعودية، والطرح الجهادي الذي يدعو إلى استخدام العنف من أجل قلب الأنظمة. وتمثل هذه الطريقة الثالثة محاولة لتطبيق الإسلام والجمع بينه وبين مبادئ الديمقراطية.
على الرغم من أنه من الصعب قياس جاذبية هذا الطريق الثالث في المملكة العربية السعودية بينما يقبع العديد من أعضائه الأكثر جرأة في السجون الآن، فإن أنصاره قد قاموا بالحفاظ على وجودهم على الإنترنت وعبر الشبكات الاجتماعية التي حفظت حسابات هؤلاء الرموز على قيد الحياة، بينما يتم إطلاق حملات إلكترونية للتذكير بمحنة أعضاء “حسم” المسجونين. وقد اكتسبت “حسم” أيضا الدعم من بعض دول الخليج مثل الكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة حيث واجه العديد من الناشطين في مجال حقوق الإنسان أيضا نفس مصير أعضاء “حسم”. بل إن أحد النشطاء الخليجيين قد اقترح ترشيح “عبدالله الحامد” لجائزة نوبل لمثابرته في الدفاع عن حقوق الإنسان.
يواصل النظام بعناية مراقبة هؤلاء المثقفين الإسلاميين، بل وسجن بعض من محاميهم، مثل “وليد أبو الخير” و”فوزان الحربي”. ومن المؤكد أنه يخشى منهم أكثر من الجهاديين، لأنهم أظهروا أنه يمكن التصالح ما بين الإسلام والديمقراطية. وعلاوة على ذلك، فإنه ليس من الصعب اتخاذ إجراءات صارمة ضد الجهاديين العنيفين في حين أن النظام السعودي سوف يجد صعوبة في تبرير حبس النشطاء السلميين. يقلق النظام حول النشاط اللاعنفي في البلد الذي لديه خبرة محدودة في العصيان المدني والاعتصامات والمظاهرات. ومن المؤكد أنه لا يريد للمجتمع أن يعرف المزيد عن كيفية النضال السلمي وكيف يمكن شرعته من وجهة النظر الإسلامية. هذا هو السبب في أن صانعي القرار في الغرب، والمهتمين برؤية تغيير في النظام السعودي، يجب أن يأخذ المشروع الحداثي السعودي على محمل الجد، حتى لو كان لا يتوافق بشكل كامل مع المفاهيم الديمقراطية الغربية. يجب أن يواصل الحلفاء الغربيون الضغط على النظام السعودي من أجل الإفراج عن هؤلاء النشطاء السلميين. بعد كل شيء، فإنه بمجرد أن يبدأ هذا المشروع الحداثي فسوف يكون من الصعب منع استمراره على المدى الطويل لأنه قمعه سوف يسهم في زيادة جاذبيته، وربما يدفع به نحو تكتيكات أكثر عنفا قد تتسبب في زعزعة الاستقرار في المستقبل.
المصدر: فورين أفيرز / ترجمة: الخليج الجديد