قد لا يخفى على المراقبين للعمل السياسي في تونس حجم الورم الخبيث الذي سرى في جسم حزب “النداء” فشطره شطرين وجعل أعضاءه شذرا مذرا.
قيادات بارزة في الحزب معروفة بخياراتها الليبيراليّة انظوت تحت لواء ما صار يعرف بشقّ “حافظ قائد السبسي” فيما اتبعت قيادات أخرى لها “سوابق” اشتراكيّة وحتى شيوعيّة شقّ “محسن مرزوق” لأسباب يطول شرحها في هذه الورقة.
في الاسبوع قبل الماضي تقريبا، حضر في برنامج “شكرا على الحضور” الذي يبثّ على القناة المحليّة التونسية للزميل “أبو بكر عكاشة” السيّد خميّس قسيلة النائب غير المستقيل من كتلة نداء تونس بالبرلمان، أي أحد “الصّحابة والتابعين” لشق حافظ قائد السبسي نجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وقد جاء بتصريحات هزّت الرأي العام لكنّها لم تهزّنا نحن بالذات لأننا استشرفنا ما يحدث في حزب النداء من تشرذمات بُعَيد تأسيسه بقليل.
ولم يكن غريبا على السيد “خميّس قسيلة” تصريحه خلال حصة البرنامج بأن “محسن مرزوق” و”لزهر العكرمي” (التابع لشق الزعاماتيّة المرزوقية) جمعا النواب من كتلة نداء تونس حولهما لاستجلابهم قائلَين: “سوف نسعى بقدر الإمكان لجلب سيارات لكم من دول غربية خارجة عن الأداءات الجمركيّة (FCR) عبر تسهيلات خاصّة، وستحصلون على أراضٍ بتسهيلات استثنائية، كما سنعمل على الحصول على تخفيضات في أسعار تذاكر الطائرات وفيلا خاصّة بكم حتى لا تتجشّموا عناء الدفوعات العينيّة بخصوص السكن في النزل”.
رغم أن الشاعر “أحمد شوقي” أخطرنا بمعدن الثعالب منذ زمن طويل بقوله: “مخطأ من ظنّ يوما أن للثعلب دينا”، إلّا أنّ عامّة التونسيين مازالوا في حالة استغراب من مراوغات أمين عام حزب نداء تونس السابق محسن مرزوق “ورفيقه” لزهر العكرمي (المخبر الصغير كما أسماه الفقيد “شكري بلعيد” والبيّنة على من ادّعى) وأساليبه المعتمدة في ملأ شقّه على حساب “مبادئه” التي يبدو أنها صارت تتجزّأ تماشيا مع مقتضيات المصلحة.
ولمن لا يعرف محسن مرزوق فسنقول له كلاما لا يصدّقه إلا الذين بقلوبهم مرض، فهو الرجل الذي بدأ في الاستشهار في الدوائر الأوروبيّة والعربيّة والأمريكيّة خاصّة، بعد أن تبوّأ مقعد المنسّق التنفيذي لمركز الكواكبي بالأردن تحت إشراف الأمير الحسن ابن طلال (الشخصية المعروفة والنافذة لدى أوساط غربيّة مشهورة بعدائها للأمّة)، ليتحوّل بعدها إلى منصب المدير الإقليمي لبرنامج مؤسسة “فريدم هاوس” بشمال إفريقيا (واسألوا محرّك البحث ڤوڤل عن “فريدم هاوس” ليخبركم بأنها مؤسسة استخبراتية أمريكيّة مبعوثة بتوجيه شخصي من الرئيس الأمريكي السابق فرنكلين روزفالت تأسست تحديدا لإنشاء كيان قومي لليهود(إسرائيل) بدعم من اللوبي اليهودي والتيار الديني اليميني وبتمويل الملياردار الصهيوني “جورج سورس” المموّل الأساسي لعمليات الإستيطان داخل القدس الشريف)، فكيف لمحسن مرزوق أن يدّعي استقلاله السياسي والأيديولوجي والثقافي والمبدئي وهو يعمل مديرا للبرنامج الإقليمي الذي تنظّمه “فريدم هاوس” الصهيونيّة المفضوحة ذات الإمدادات الإستخبراتية المعروفة؟؟
من ثمّ تتواصل رحلة مرزوق لتستقرّ في منصب الأمانة العامّة للمنظمة العربية الدولية للديمقراطية بالدّوحة، وهي المنظّمة الخاضعة لقيادة شرفيّة من قبل “الشيخة موزة” وأكادميين عرب كبار وغربيين معروفين بالشبهات الحائمة حولهم وعلى رأسهم “سعد الدين ابراهيم”، لتتحدّث الصّحف العربيّة بعد تعيينه بسنتين عن طرده من قطر لاشتباهه في اختلاس أموال بالإشتراك مع سعد الدين ابراهيم والتي قُدّرت ب 15 مليون دينار.
ويحسُنُ بنا التذكير أنّ محسن مرزوق كان خبيرا ومسؤولا لدى المعهد العربي لتونس، المعهد الذي انتدبه ابن علي لمراقبة الإنتخابات التونسيّة المهزلة، حيث تصادف تاريخ نشأته (المعهد) مع انتخابات 1989 وراقب انتخابات 94 و 99 و 2004 و2009 وكانت تقاريره تقرّ بديمقراطيّة الإنتخابات التونسية ونزاهتها “رغم بعض الخروقات الصغيرة”.
مع كلّ هذا المذكور آنفا، لا يمكن لإثنان أن يختلفا قيد أنملة بأن الرّجل عاد إلى تونس بعد رحلته “الحقوقيّة” الضّنكة لأجل غاية واحدة وهي تحجيم القوى المناهضة للتطبيع والمحافَظة على مصالح الغرب العلماني المتصهين، فضلا عن نقل “كرزاياته الحداثيّة القشوريّة” الى بلادنا من أجل مزيد اغتيال أجيالنا واغتصاب عقولها ووأد ذكائها، بالإضافة الى أفْلِ نجم الإسلاميين الساطع منذ ثورة 14 جانفي، ولا علاقة لعودته بتجديد المشهد الديمقراطي لتونس كما ادعى “السيّد الرئيس” الباجي قائد السبسي، وإلا فما الذي يعنيه محسن مرزوق من تهنئته لقائد الإنقلاب في مصر عبد الفتاح السيسي بنجاحه في انتخابات وصفها “بالديمقراطيّة والحيادية والشفافة” ؟
من المنتظر أن يكشف مرزوق عن اسم حزبه الجديد في شهر مارس القادم، كما سينظّم مؤتمره التأسيسي الأول في شهر جوان وفق تصريحه، ويبدو أن تصدّع البنيان في هذا الحزب المنشق أصلا عن نداء تونس بدأ منذ اللّحظة، حيث جاءت اتهامات “السيد الطاهر بن حسين” أحد المؤسسين “المعاونين” لمرزوق سريعة تحيلنا على ثنائية “العَوْد على البدء”، إذ قال فيها إن مرزوق متضخّم الأنا ويعاني من تناقضات داخليّة وتذبذبات ويدعوه إلى تنغيم “المحسن” مع “المرزوق”، كما يتصوّر أنه لن يواصل معه مسيرة “الإنشقاق” ولن يكون عضوا في حزبه الجديد.
يبدو أنّ منطق الوصوليّة والزعاماتيّة قد غلب على طابع مرزوق الذي كفر بعد إيمانه “بدكتاتوريّة البروليتاريا” في وقت من الأوقات تماشيا مع مقتضيات الربح والخسارة، واليوم تتهاوي من حوله الرواسي فينطلق بلا هوادة نحو الهاوية ويتداعى بعد أن تداعت عليه المعاني والمفاهيم، لينتهي به السبيل محصورا في قمقمٍ صغير تؤنِسُهُ فيه عباراته الكلاسيكيّة التي استمر العيش معها منذ أمد:
” بورڤيبة، الحداثة، المرأة، مجلّة الأحوال الشخصية، والسلام عليكم.. ورحمة الله.. وبركاته.”