لأكثر من ثلاثة عقود والكثير من الأرصدة الإيرانية المجمدة داخليا وخارجيا تمثل حلما لحكومات الملالي المتعاقبة؛ لإنقاذ وضعها الاقتصادي المتردي، بعد إقحامها ميليشيات عدة إقليميا في مناطق كثيرة، بدأت مع حزب الله الشيعي بإيران، ثم محاولات ناجحة للهيمنة على العراق المتشظي بعد الاحتلال الأمريكي، فسوريا الأسد بعد انتفاضة 2011، والآن اليمن.
التقديرات الأولية ترى أن إجمالي الأموال التي ستنهال على النظام الإيراني عقب الاتفاق النووي الأخير تبلغ نحو مئة وخمسين مليار دولار، ستستفيد منها الدولة الفارسية كثيرا في حال استرجاعها كلها، لكن التساؤل الأهم هو كيف سيتم استخدام تلك الأموال، خصوصا مع تزايد التوترات الإقليمية التي بلغت أوجها في الشرق الأوسط، والدور الإيراني فيها، وكيف سينعكس ذلك على أذرعها المقاتلة في الخارج، “حزب الله في لبنان والحشد الشعبي بالعراق، والحرسالثوري بسوريا، والحوثيون باليمن، وهل ستزيد إيران من مواقفها العدائية في العراق وسوريا ولبنان واليمن مع تدفق الأموال عليها، أم أنها ستركن لاتخاذ مواقف معتدلة ربما تكون غريبة عليها؟.
مطامع إقليمية للملالي
منطقيا، وبحسب الخبرات السابقة للتعاطي الإيراني مع محيطها الإقليمي، نرى أن الدولة الفارسية لا تتورع دائما عن تسخير كافة مواردها وعناصرها المسلحة، لتحقيق مآربها الإقليمية، وتعزيز سياستها الطائفية، وتصدير ما تسميه ثورتها الإسلامية، خصوصا بلبنان وسوريا والعراق والبحرين واليمن، حتى أنها خلال العامين الماضيين فقط، وعلى الرغم من أزماتها الداخلية، قامت بضخ ملياري دولار شهريا لدعم علوية الأسد بسوريا.
تطرف خامنئي وضعف الإصلاحيين
ما سبق ينبئ بما يمكن أن تقوم به أموال إيران المعادة، لكن الأمر هنا يرتبط بالصراع القائم بين التيار المتطرف من مؤيدي “المرشد الأعلى” آية الله خامنئي، وموالوه من الحرس الثوري، الراغب في استمرار العداء لأمريكا، ونشر ميليشياته المسلحة في كل الأقطار المشتعلة طائفيا بالمنطقة، خصوصا سوريا والعراق ولبنان واليمن الآن، فخامنئي يرى أن الاتفاق النووي هو بمثابة تنازل كبير لمصلحة روحاني واليسار الإيراني، وسيحاول الإثبات لمتطرفي الداخل أن الاتفاق النووي لا يعني أن إيران تخّلت عن آيديولوجيا الخميني، وعداوتها للولايات المتحدة، وسيصعد من نشاطاته العدائية بمناطق أقليات الشيعة لزيادة توتير المنطقة المضطربة في الأصل.
في المقابل، سيعمد تيار المعتدلين الإصلاحيين من أنصار الرئيس الحالي حسن روحاني، إلى المزيد من التكامل مع الجانب الأمريكي؛ لتخفيف حدة التوتر إقليميا وتفادي عقوبات أمريكية أخرى قد تفرض عليه في حال الممانعة.
أزمة مجلس الخبراء
الرؤية المتعمقة للداخل الإيراني توشي بأن هناك عدم توافق بشأن الاتفاق النووي من كلا الجانبين، وكيفية الاستفادة القصوى منه، إلا أنه حينما يتعلق الأمر بالتطبيق والمتابعة سيختلف الجانبين تماما، وستحكمهما مجريات انتخابات مجلس الشورى المقبلة بشقيه النواب والخبراء، الذي يتألف من مجموعة نافذة من رجال الدين تراقب عمل المرشد الأعلى، ومسئولة عن اختيار خليفته، وهو ما يسبب ضغطا على التيار المتطرف، في حال وصول عدد من المعتدلين الموالين لروحاني والإصلاحيين للمجلس، لكن في المقابل فقد تم مؤخرا إقصاء عشرات من المرشحين المعتدلين عن الانتخابات التي ستجري في السادس والعشرين من فبراير الجاري، بينهم حسن الخميني، حفيد آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإيرانية، وهو من الملالي الذين تربطهم علاقات وثيقة بالتيار الإصلاحي.
اليمن مربط الفرس
العلاقة المتشابكة بين الجانبين تتمدد لعدد من القضايا الأخرى غير الاتفاق النووي، بينها عدم رغبة روحاني والإصلاحيين في التواجد باليمن، بينما لا يزال التيار المتطرف يؤمن بضرورة تصدير الثورة الخمينية، وإبعاد الولايات المتحدة، وحلفائها خارج المنطقة بدعم روسي، في إطار مباراة الشطرنج بين الجانبين.
وفي باقي الدول المحيطة نرى هيمنة التيار المتشدد على السياسة الإيرانية للإصلاحيين، فخامنئي والحرس الثوري يركزون بشدة على العراق، تليها لبنان ثم ثسوريا وبعدها اليمن، حتى أضحت العلاقة بين إيران والعراق لا يمكن فصلها اجتماعًيا واقتصاديا وسياسيا، بتركيز الدولة الفارسية على معاقل الشيعة هناك دون السنة، عبر كتائب حزب الله و أبو الفضل العباس، وعصائب أهل الحق، التي كونت مناطق نفوذ وموالين لها أكثر ولاء لجارتها الفارسية من ولائها للحكومة العراقية، مثلما فعلت بالنموذج اللبناني مع حزب الله.
مكاسب بسوريا
وفيما يخص المشهد السوري تنامى موقف إيران مجددا بعد القصف السوري، واستعادة ميليشياتها مواقع استراتيجية عدة كانت قد فقدتها مؤخرا لصالح المعارضة المسلحة ، أما في اليمن فالوضع يبدو أخف وطأة حاليا، حيث تترك إيران دورها للحوثيين، خصوصا وأن التسوية السياسية للأزمة هناك هي الأقرب للواقع ، بسبب كون اليمن ليست بالمفيدة بشدة لإيران مع فقرها ، وتشابك المصالح داخلها مع دول خليجية أخرى مثل السعودية والإمارات.
خليفة خامنئي
لكن، كيف يؤثر مجلس الخبراء، سؤال جال كثيرا بمخيلة المحللين، خصوصا وأن التوقعات تبحث في سيناريوهات حول خليفة خامنئي، أولها يرى بانتقال سلس للسلطة يضع بقاء موقع المرشد وصلاحياته كما هي عليه الآن، بالإضافة لمستقبل ولاية الفقيه، موضع الشك، خاصة أن المرجعيات في قم تتعدد توجهاتها ومواقفها، وتراجع دورها في الحياة السياسية عنها في العقد الأول من الثورة.
بالعودة للماضي القريب نرى أن خامنئي نفسه كان له دور كبير في تحجيم السلطة السياسية لرجال الدين، وعظم في المقابل من دور الحرس الثوري، خاصة مع رحيل آية الله منتظري في ديسمبر 2009، والقطيعة بين مرشد الثورة وآية الله رفسنجاني، وتقليص نفوذه في الحياة السياسية.
صراع حاسم
يتكون مجلس الخبراء عادة من الفقهاء، ويطغى على تركيبته الخط الأصولي، ويعطي إبعاد ورفض ترشيح حسن الخميني ليعطي دلالة واضحة على تصاعد الصراع داخله بين الجانبين الصقور والحمائم إن جاز التوصيف.
خلاصة القول، ترى أن رفع العقوبات لا يعني معجزة للاقتصاد الإيراني فالغالبية العظمى من الأموال المسترجعة ستذهب للميليشيات خارج الحدود، ولن توجه كما يتوقع البعض داخليا وخارجيا، لحل مشكلات الاقتصاد الإيراني، لكن الانتخابات ستكون على شعبية روحاني وقوة سياسته داخليا وتعاطيه مع تيار الحرس الثوري القوي، لذلك يرى الكثيرين أن انتخابات مجلس الخبراء في دورتها الحالية تفوق في أهميتها انتخابات المجلس منذ وقت آية الله علي خامنئي، ورغم كل شيئ، سيبقى المجلس هو صاحب شأن كبير في رسم صورة مستقبل إيران ونظامها السياس داخليا وخارجيا.