هذا المقال من السلسلة هو الثاني من ثلاثة نحاول فيهم أن نغطي فيهم أعمال الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع الكلاسيكي بقدر من اليسر والبساطة، في المقال السابق قمنا بمحاولة تغطية الأطروحات الأساسية لكارل ماركس؛ ووفقًا للترتيب التاريخي سنقوم في المقال الحالي بمحاولة فعل ذات الشيء مع أعمال العالم الفرنسي ايميل دوركايم.
ولد ايميل دوركايم في لوران بفرنسا عام 1858، ويأتي كما الحال مع كارل ماركس من سلالة طويلة من رجال الدين اليهود، وأيضًا كما الحال مع ماركس؛ لم يتوانى دوركايم طول حياته عن إعلان تخليه عن الإيمان اليهودي، وكان الهدف الرئيسي لكثير من دراساته الاجتماعية هو التوصل إلى الأصول الاجتماعية للدين بغض النظر عن الأصول الإيمانية أو الربانية، فلقد رأى دوركايم الدين كضرورة اجتماعية قبل أي شيء آخر.
كانت الفترة التي ترعرع فيها دوركايم شديدة الخصوصية والأهمية في تاريخ فرنسا، الفترة التي تحولت فيها فرنسا من دولة زراعية تقليدية إلى دولة صناعية حداثية ثقيلة؛ من دولة يعيش أغلب سكانها في القرى إلى دولة تتركز فيها الثروة وأصحابها في المدن العملاقة كباريس.
كان ما تبع هذه التحولات من آثار اجتماعية هو تحديدًا ما آثار انتباه دوركايم واستدعى دراساته، بدأ الفيلسوف الفرنسي في دراسة آثار تغير البنى الاجتماعية والاقتصادية والدينية على حياة الأفراد؛ ليصل إلى مجموعة شديدة الأهمية من الملاحظات والاستنتاجات.
يمثل كتاب “الانتحار” أشهر أعمال دوركايم وربما أهمها، في هذه الدراسة التي تبدأ إحصائية وتنتهي تنظيرية قام دوركايم بتتبع التزايد الجنوني لظاهرة الانتحار على طول غرب أوروبا، وانطلاقًا من هذه الملاحظة اتجه لمحاولة تفسيرها عبر الربط بينها وبين التوسع الاقتصادي ومعدلات التحديث في البلدان التي قام بدراستها.
يلي “الانتحار” في الأهمية دراسة دوركايم الأقل شهرة عن الدين ودوره في المجتمع تحت عنوان “الأشكال الأولية للحياة الدينية”، في هذا العمل قام دوركايم بدراسة عدد من الديانات المنتشرة في عدد من القبائل “البدائية” في الأميركتين، وحاول عبر دراسة هذه الديانات القائمة حول “الطواطم” الوصول إلى الأصول الاجتماعية للدين والتي تجعل بزوغه ضرورة اجتماعية لتكوين الصلات بين الأفراد وبعضهم البعض.
في الفقرات التالية نحاول تقديم تلخيص قصير لعدد من القضايا التي عمل دوركايم على دراستها؛ وعدد من الاسهامات التي قدمها لمحاولة فهم الواقع الاجتماعي في فترة تمثل طفولة علم الاجتماع، تمثل هذه المجموعة اختصارًا مخلًا يغفل الكثير من اسهامات دوركايم؛ إلا أنه اختصار لازم لظروف النشر ولضرورة الفهم.
التضامن الاجتماعي، تروس في آلة أم خلايا في جسد؟
كما ذكرنا في المقال الأول من السلسلة؛ فإن الواقع الاجتماعي أكثر تعقيدًا بكثير من أن نحاول قياسه ودراسته في حد ذاته، وإنما نستعين على دراسته بتشكيل مجموعة من المجازات والاستعارات التي تسمح لنا بتبسيطه وفهمه، وقد تنوعت هذه المجازات في محاولات تشبيه المجتمع بين تشبيهه بالمسرح وتشبيهه بالسوق وكثير من غيرها.
كانت أحد أهم اسهامات دوركايم للدراسة الاجتماعية هي تقديمه لثنائية من المجاز سمحت بإلقاء نظرة جديدة على المجتمع والأفراد، هذه الثنائية هي ثنائية الجسد\الماكينة، إذ اقترح دوركايم أن التحول الذي يمر به المجتمع ومن به من أفراد على مسار التحديث هو تحول من مجتمع يشبه الماكينة ذات التروس إلى مجتمع أكثر تعقيدًا يشبه الجسد أو النسيج العضوي المكون من خلايا مختلفة.
للوهلة الأولى قد يبدو التشبيه متناقضًا مع واقع أن التحديث ظاهرة تمتاز بالميكانيكية وتقدم الصناعة والآلات؛ في مقابل عصور أقدم لا تعرف الماكينة ولا التروس، إلا أن هذا المجال لا يلقي بالًا للجانب التكنولوجي والصناعي للحداثة، وإنما يهتم بوصف علاقة البشر ببعضهم البعض وعلاقاتهم بالمكونات الاجتماعية المحيطة بهم.
رأى دوركايم في مجتمع ما قبل الحداثة آلة ميكانيكية، آلة تتكون من مجموعة من التروس، قد يختلف حجم هذه التروس؛ إلا أنها في نهاية الأمر تبقى تروسًا لا تختلف عن بعضها البعض، وإذا كان كل فرد في المجتمع ترسًا، فإن علاقة هذا المجتمع بما حوله لا تتعدى علاقته بالتروس المجاورة له بشكل مباشر، أي أنه في حالة إخراجه من مكانه يصبح غير ذا قيمة، كما أن المنطق والقانون الذي يحكم حركة هذه التروس وعلاقاتها هو منطق واحد مصمت؛ وهو الدين وفقًا لدوركايم
في المقابل رأى دوركايم المجتمع يتحول تدريجيًا مع الحداثة إلى شكل آخر، وهو شكل العضو أو النسيج الحيوي، يتكون الأخير من مجموعة ضخمة جدًا من الخلايا، قد تتشابه أو تختلف هذه الخلايا بين بعضها، إلا أن كل خلية تمثل حياة مستقلة في حد ذاتها، لكل خلية صفة ووظيفة تختلف عن الأخرى، قد يترتب على إخراج أي خلية من النسيج أن تزوي هذه الخلية وتموت، إلا أنها ستموت محافظة على كينونتها ووحدانيتها.
ما يهم في هذا التشبيه هو طبيعة العلاقة بين الخلايا وبعضها البعض في الواقع الحديث، إذ ترتبط كل خلية بما حولها عبر شبكة مختلفة من العلاقات المعقدة، تختلف العلاقة بين كل خلية والأخرى، ويرتبط بقاء الخلية (أو الفرد) طول الوقت في بقاءه داخل النسيج الكلي.
الانتحار، أو سلطة المجتمع الخفية على حياة الفرد
إذا كان المجتمع يتحول تدريجيًا إلى نسيج عضوي كما استنتج دوركايم سابقًا، فما أثر هذا التحول المباشر على حياة الأفراد؟
كانت إجابة دوركايم على هذا السؤال متعددة الأوجه، فبداية ينتج عن هذا أن كل فرد يتحول تدريجيًا إلى وحدة مستقلة بحد ذاتها، أي أن استقلاله وفردانيته في تزايد، يمكن الزعم أن هذا في حد ذاته شيء جيد؛ إذ أن أغلب الفلسفات التي قامت عليها الحداثة كانت تدعو بالأساس إلى الحرية والاستقلال الشخصي؛ إلا أن الواقع أكثر تعقيدًا بعض الشيء.
يعود دوركايم إلى أن الشبكات والعلاقات الاجتماعية في حقيقتها أكبر من مجرد مجموعة من القيود على حرية الفرد، وإنما هي أيضًا شبكة أمان للفرد في حالة مواجهته للفشل أو الخطر، وهي أيضًا وسيلة يضمن بها المجتمع تقويم مسار الأفراد الشخصي نحو الخير العام للمجتمع.
ما ترتب على التقليص والإلغاء المستمر لهذه الشبكات والقيود على طول مسار التحديث هو خلق فرد شديد الاستقلالية؛ ربما بشكل زائد على مصلحته، فالتقليص المستمر للقيود والعلاقات الاجتماعية يخلق فردًا أمامه كل الفرص الممكن تحقيقها من النجاح والاستهلاك وغيرها، إلا أنه في ذات الوقت يخلق فردًا يفتقد لأي ضمانات ضد الفشل في تحقيق هذه المساعي، مما يعني أن حالة فشله ستكون شديدة الإيلام والخسارة؛ خصيصًا مع حقيقة أن الفرص دائمًا أقل من الساعين إليها.
مع تزايد تقدم المجتمعات تزداد فردية أفرادها، وتحلل الصلات الاجتماعية بها، ومع هذا يصل عدد قليل من الناس إلى موارد غير محدودة من المال والنجاح؛ وتبقى الأغلبية الساحقة في سعيها غير المجدي نحو هذا النجاح، وبالتدريج يدرك الأفراد أن سعيهم غير ذي فائدة؛ وأنهم في خضم سعيهم قد فقدوا صلاتهم بكل من حولهم من بشر، بالتدريج يدرك الفرد أن حياته تفتقد لأي قيمة تتخطى وجوده في حد ذاته، حينها فقط يقرر الفرد أن ينهي حياته بنفسه.
وصل دوركايم للنتيجة السابقة بعد ملاحظته زيادة معدلات الانتحار بزيادة معدلات التقدم الاقتصادي والتصنيع في البلاد، لاحظ دوركايم أن معدلات الانتحار في الأقاليم الأكثر تقدمًا في فرنسا أكبر بكثير من الأقاليم الزراعية التقليدية، وأن ذات المعدلات في بريطانيا الأكثر تقدمًا صناعيًا واقتصاديًا أكبر أيضًا من فرنسا كلها، والدنمارك أكبر من كليهما.
يمكن الزعم أن دوركايم في عمله على الانتحار كان يحاول الإجابة عن سؤال قدمه الشاعر المصري “أمل دنقل” بعد وفاة دوركايم بكثير، يتساءل دنقل عن حق القيصر في سلب حياة الثائر قائلًا “وهل منحتني الوجود كي تسلبني الوجود؟”، وقد جاوب دوركايم على السؤال مؤكدًا أن المجتمع في هذه الحالة هو الذي يمنح الفرد وجوده على كل الأحوال، وأنه هو الذي يقوم بسلب هذا الحق كي يستمر في سيره على مسار ما، وربما يصبح دور عالم الاجتماع الرئيسي في هذه اللحظة هو التشكيك والتساؤل فيما يخص هذا المسار.