رغم التعثر الذي رافق الجولة الأولى من مفاوضات جنيف السورية بداية هذا العام، من الواضح تمامًا مدى اختلاف هذه الطاولة عن أي طاولة للشأن السوري منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية في مارس 2011 مرورًا بسنوات الحرب الطويلة.
ثمة جدية لم تتوافر من قبل تبدو واضحة في التحركات التي امتدت من فيينا إلى ميونيخ، وتشكيل المجموعة الدولية لدعم سوريا، والإصرار على تمهيد الأرضية للتعاون الذي طال انتظاره بين القطبين الروسي والأمريكي، هذا الموقف الدولي هو أحد المؤشرات بالغة الدلالة عن تحول الأزمة السورية إلى نقطة تفاوض وتفاهم لإعادة ترتيب التوازنات بين الدول الكبرى والإقليمية انطلاقًا من واقع الصراع على الأرض.
هذه الأخبار قد لا تكون جيدة للسلطات السورية التي كانت قد أعلنت أكثر من مرة تمسكها بإدارة الأزمة على طريقتها، ورفضها الحديث عن أي سلطة انتقالية أو الحوار مع أي معارضة سوى التي “تفصلها” بأيديها وبمقاييسها، حتى دون أن يتفق ذلك بالضرورة مع مواقف حلفائها.
إيران والتدخل الأول
كان التحول الأكبر بالنسبة للسلطات السورية هو الانتقال من الاكتفاء بطلب الدعم السياسي إلى طلب الدعم العسكري الصريح والمباشر، فيما قبل بدايات عام 2014 بقليل انتقل تدخل حزب الله من تحت الطاولة إلى العلن متسببًا في أزمة سياسية لبنانية شلت الحكومة بشكل كبير وأدت لاحقًا إلى أكبر فراغ سياسي عرفته الجمهورية، بالتزامن مع تقارير وتصريحات لم تتوقف عن حجم التعاون العسكري الإيراني المباشر مع السلطات السورية إضافة إلى الدعم السياسي.
لم يمنع ذلك إيران من الاستمرار في دفع التعاون بشأن الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 والوصول إلى الاتفاق المبدئي في عام 2015 لتتحول من “دولة مارقة” إلى “شريك” في بناء الإستراتيجيات الدولية والتعاون في ملفات الشرق الأوسط، وعلى رأسها الأزمة السورية.
بهذا انتقلت إيران فجأة من موقع الشريك الثانوي مقارنة بروسيا إلى اللاعب الرئيسي في قطب “المقاومة والممانعة” فيما تركت روسيا جانبًا، كانت العلاقات الروسية الأمريكية الدبلوماسية المباشرة قد انقطعت أصلًا منذ أحداث أوكرانيا، بالإضافة إلى أن الملف السوري لم يدخل مجلس الأمن طيلة أكثر من عامين في ذلك الوقت نتيجة التناحر الروسي الأمريكي، لذلك كانت إيران القطب الجديد القوي المتدخل عسكريًا المؤثر سياسيًا صاحب ورقة الاتفاق النووي التي أدخلته مصاف اللاعبين الكبار.
أصبح الحديث كله عن إيران ومع إيران وبرعاية إيران، وثار الجدل حول ضرورة دعوة إيران في مفاوضات جنيف 2 في عام 2014 بوصفها “لاعبًا أساسيًا في المنطقة”، تم توجيه الدعوة من المبعوث الأممي الأخضر الإبراهيمي ثم سحبت تحت الضغط الأمريكي الأوروبي سحبًا خجولًا، مع التذرع بحجج تقنية أكثر منها مبدئية، لكن الجو العام كان يوحي بأن تجاهل إيران خطأ فادح، وأنه سيتغير ولو بعد حين.
روسيا وانزياح البوصلة
في المقابل، تسبب ذلك في تزعزع وحذر على مستوى العلاقة السورية الروسية نتيجة الطريقة التي تدير بها القوات الموالية لإيران دفة الصراع، كانت روسيا تناصر عمومًا الطريقة السياسية في حل النزاع ودعم حليفها الإستراتيجي في دمشق عبر الضغط السياسي ومجلس الأمن فقط، لكن الجهود باءت بالفشل بعد التدخل الإيراني، ومع تشكيل الحلف الدولي لمكافحة الإرهاب الذي أقصى روسيا خارجًا، حاولت روسيا إمساك دفة الصراع من جانبها وبطريقتها، لذلك أعلنت روسيا في أواخر العام 2014 عن مشروع مبادرة حل للأزمة ستقدمه إلى مجلس الأمن، لكن الصدام الذي حدث لم يكن مع اللاعبين الدوليين هذه المرة بل نتيجة رفض السلطات السورية لأي حل من هذا النوع، والموافقة على التعاون مع روسيا إذا – وفقط إذا – كانت الجلسات التي تدعو لها موسكو هي مجرد “جلسات تشاورية” للدردشة وتبادل وجهات النظر الشخصية.
راحت البعثة الدبلوماسية السورية تطلق تصريحاتها من دمشق حينًا ومن موسكو حينًا ومن الطائرة بين العاصمتين حينًا، قاطعة الطريق على الروس ومصرحة أنه “لا يوجد في الدستور السوري ما يدعى مرحلة انتقالية”، على إثر ذلك تراجعت موسكو عن مشروع المبادرة المزعوم الذي لم يعلن أبدًا، واستبدلت به مؤتمرين فارغين من كل شيء تحت اسم “موسكو 1″ و”موسكو 2” في النصف الأول من 2015، وقتلت المبادرة الروسية في مهدها بسبب التناحر بين شركاء المسار والمصير.
عودة روسيا
لأسباب داخلية غير واضحة المعالم، وسط تناقل أحاديث عن سيطرة إيرانية “طاغية” في سوريا وصلت إلى “استملاك” مناطق في سوريا لجهات إيرانية رسمية وغير رسمية، ظهر الأسد في 27 من مارس 2015 ليصرح بأنه يرحب “بأي توسع لروسيا في منطقة حوض المتوسط، ولا سيما الشواطئ السورية”، ولم يمض على هذا التصريح أكثر من أشهر قليلة حتى ردت روسيا بقبول هذا العرض، والدخول عسكريًا في سوريا تحت غطاء حماية الأسد ومكافحة الإرهاب.
لم تكن الحملة الجوية الروسية إلا رأس جبل الجليد في هذا التدخل، وهي حملة مؤقتة أصلًا كان من المخطط أن تستمر لمدة 6 أشهر لا أكثر (أي أن تنتهي فعليًا في نهاية فبراير 2016 مع اتفاق وقف إطلاق النار المفترض)، أما ما هو أبعد من ذلك، فيتمثل في قيام روسيا بإرسال عدد قليل من المستشارين العسكريين ذوي المناصب العسكرية الرفيعة لتسلم قيادة القطع والألوية العسكرية الأهم في البلاد، ضمن سياق إعادة هيكلة الجيش السوري وأولوياته وإستراتيجياته من وجهة النظر الروسية، تلك النظرة بعيدة المدى لكيفية الدخول الروسي في سوريا تجعل من النظام السوري لاعبًا أضعف من ذي قبل، وهو الأمر الذي تبدى أول مرة بشكل واضح في محاولات الهدنة التي كانت تسير على قدم وساق بين مسؤولين روس من ناحية وبين قائد جيش الإسلام زهران علوش قبل وفاته بأشهر قليلة، حيث ذكرت مصادر مطلعة أن الروس تعهدوا بإنجاز هذه الهدنة على عاتقهم “دون الرجوع للسلطات السورية”.
لم تنجح هذه المحاولات عمومًا بسبب تعثر التوافق داخل مناطق الغوطة من ناحية، وبسبب تدخل الرياض من جهة أخرى وإدخال علوش كعنصر رئيسي من عناصر الهيئة العليا للمفاوضات، وبالتالي خطر تحول هذا الاتفاق المحلي إلى تعهد ذي طبيعة دولية، بهذا انتهى هذا الاتفاق بين مسودتين غير منجزتين مع حادثة اغتيال زهران علوش وتحول رئيسي في مسيرة “جيش الإسلام”، ورغم حادثة اغتيال علوش التي تتهم بها القوى العسكرية الروسية بالدرجة الأولى، فإن هذا لا يتعارض أبدًا مع رغبة روسيا في فرض الحل على طريقتها بدلًا من طريقة النظام السوري التي يبدو أنها تراها “غير مجدية”.
روسيا تحصد
مع الاتفاق المبدئي لوقف إطلاق النار الذي نتج عن اجتماع ميونيخ في فبراير 2016، يرسم الخط الأول لإنهاء الصراع في البلاد عبر التصريح علانية بأن على جميع الأطراف الموافقة التخلي عن سياسة الهجوم أو الطمع في اكتساب أي منطقة، أي بمعنى آخر على الجميع أن يتوقف عن عرقلة المفاوضات أملًا في اكتساب المزيد من الأوراق على الأرض.
إن المسودة التي صاغتها أمريكا وروسيا تبدو مثيرة للتفاؤل رغم كونها اتفاقًا مبدئيًا لفرز الأطراف إلى أصدقاء وأعداء، موافقين على الهدنة ومعارضين لها، إن هذا الفرز سيكون رئيسيًا وحاسمًا الآن حتى وإن فشلت الهدنة الأولى ودعت الحاجة لإعلان هدنة ثانية، فهي أولًا تحدد الأطراف الموافقة على طاولة التفاوض، وتحدد ثانيًا الأطراف التي يجب تصنيفها في خانة العدو وبالتالي تكثيف العمل العسكري ضدها.
كانت العقدة الأكبر في هذه القضية هي السلطات السورية نفسها، والتي تعهدت روسيا بأن تضمن موافقتها على شروط الهدنة الحالية، إن هذا الأمر لم يكن ممكنًا بالنسبة لروسيا قبل هذا التغلغل العسكري الذي اكتسبته طيلة الأشهر الماضية، وبالتالي أصبحت في موقع فرض الشروط والتفاصيل لا سياسيًا وحسب بل عسكريًا أيضًا.
إيران وحزب الله والمأزق اللبناني
في هذه الأثناء، تنفتح على حزب الله نيران الداخل والخارج في آن، مع التحرك الدبلوماسي والاقتصادي الذي قامت به المملكة العربية السعودية احتجاجًا على الفراغ الرئاسي والشلل الحكومي في لبنان، إذ قررت سحب كافة مساعداتها الاقتصادية والمالية للجيش والحكومة في لبنان، وما لبثت أن لحقت بها دول الخليج واحدة فواحدة بالطلب من رعاياها مغادرة لبنان وعدم السفر إليه، مما أجبر الحكومة اللبنانية على اتخاذ موقف صريح لإعادة العلاقات السعودية اللبنانية إلى نصابها، وبالإضافة إلى تأثير ذلك على الملف الداخلي وتزعزع ترشيح الجنرال ميشال عون في وجه سليمان فرنجية، فإن الفرق السياسية المختلفة سواء من فريق 14 آذار أو 8 آذار راحت تلقي باللائمة على حزب الله اليوم في تدهور الوضع اللبناني وعلاقة السعودية بلبنان وتطالب بتصحيح الممارسات الخاطئة التي يقوم بها.
في التوقيت نفسه أبدت السعودية كل التعاون والرغبة في احترام وقف إطلاق النار المزمع في سوريا، ويبدو أن هذا التوقيت لا يخلو من ضغط على إيران وحزب الله بهدف التماشي مع الاتفاق الدولي الذي يتم إعداده والالتزام بالتهدئة المفترضة، خصوصًا أن حزب الله يقف في موقف لا يمكن أن يحسب رسميًا على التزام السلطات السورية ولا كذلك على موقف السلطات الإيرانية، ويمكنه دائمًا اعتبار تحركاته خططًا إستراتيجية خاصة به، مما يعني أن هذا الموقف غير الرسمي يتطلب التعامل معه بطريقة غير رسمية كذلك.