لا شك بأن العراق لم يكن قادرًا على حفظ الأمن في البلاد منذ الاحتلال وحتى اليوم، وهناك مناطق شاسعة من البلاد خارجة عن السيطرة خاصة بعد سيطرة تنظيم الدولة على ثلث العراق والجزء السني من العراق تحديدًا، إن هذا المعطى الجديد كشف الصورة الكارثية لحجم الهشاشة داخل الدولة أمام منظومة اللادولة أو إذا تعرضت الدولة للخطر.
في العراق تنقسم المليشيات السنية والشيعية على ذاتها بين مؤيد للدولة ويعمل معها أو لا يعارضها وبين من ينافسها ويستهدفها، ولهذه المليشيات سلطة ونفوذ وتأثير كفواعل غير دولتية إلى جانب فعل وسلطة الدولة؛ لذا لا بد من القضاء على الفواعل غير الدولتية التي لا تهدف إلى بناء الدولة العراقية كتنظيم “الدولة الإسلامية” الطارئ الجديد، إضافة لما نتج عنه من تحول أهداف بعض المليشيات الشيعية كعصائب أهل الحق وبدر وسيد الشهداء وغيرهم ممن ينضوي تحت مليشيا الحشد الشعبي والتي بدأت توظف وتستهدف الدولة من خلال استهدافها لحكومة العبادي تحديدًا، وهي متحالفة مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الطامح لقيادة الدولة من خارج السلطة الرسمية وعن طريق نفوذه الذي كونه خلال سنوات حكمه الثماني أو إسقاط العبادي العازم على الإصلاح حسب رؤية وخطة الولايات المتحدة العائدة إلى العراق وبقوة.
إن السؤال المهم اليوم هو كيف يمكن حفظ الأمن بعد القضاء على تنظيم الدولة في المناطق السنية؟ ومن هي الجهة القادرة على ذلك؟ وكيف يمكن حصر السلاح بيد الدولة وحل أو ترويض المليشيات الشيعية التي ما زالت تدين بالولاء للمشروع الإيراني في العراق وليس للعراق كدولة؟
إن الصيغة الأمريكية المرجوة للقضاء على منظومة اللادولة (المليشيات السنية والشيعية التي لا تعمل مع الدولة) والتي تستهدف الدولة تحديدًا، هي محاربة المليشيات السنية بالعرب السنة والمليشيات الشيعية بمليشيات القوى الشيعية الموالية للدولة: وبالشكل التالي:
“تنظيم الدولة” بمقاتلي العشائر السنية
إن التجربة الأمريكية مع مشروع الصحوات السنية أثبت جدارته في حفظ الأمن، إذ لم تستطع لا القوات الأمريكية ولا الجيش والشرطة العراقية فعل مافعلته الصحوات آنذاك (مقاتلو العشائر السنية) فهم أدرى بشعابهم ومناطقهم وحواضنهم العشائرية والاجتماعية، لكن الاستهداف السياسي لهم بعد انسحاب القوات الأمريكية وتحويل ملفهم إلى الحكومة العراقية أفشل المشروع بسبب خوف القوى الشيعية لهذه القوات المتمرسة والتي تجيد حرب العصابات ومرتبطة بالعشائر العراقية الأصيلة وبعض القوى المشاركة في العملية السياسية.
إلا أن الصيغة التي فعلتها الإدارة الأمريكية هي إعداد قوة سنية بعيدًا عن مشروع الحرس الوطني المعطل برلمانيًا وذلك منذ أن أقر الكونجرس الأمريكي قانونًا يسمح بالتعاطي مع العرب السنة كدولة وبعيدًا عن الحكومة المركزية في بغداد وهذا ما شهدناه في الأيام الماضية من وجود قوة سنية مدربة أمريكيًا في الأنبار وبعيدًا عن سجالات القوى السياسية الشيعية الرافضة والمتشككة من إنشاء هكذا قوة تحمل صفة شبه رسمية ستحفظ الأمن في غرب العراق وهي أخطر للقوى الشيعية التي ترفض الحرس الوطني الذي يعتقد أنه سيكون قوة رسمية ثالثة إذا ما أقر إلى جانب الجيش والشرطة العراقية وتابع للدولة.
هذه القوة ستكون حجر الزاوية لإقليم غرب العراق وما يجري من حوارات سنية – سنية بين الأطراف والقوى السنية المختلفة بمن فيهم البعثيين السابقين الذين تم إقصاءهم سابقًا، وبمن فيهم قوى المقاومة العراقية الوطنية التي بقيت بندقيتها بلا وجهة بعد أن انتهى هدفها بإخراج المحتل عام 2011م، إن ذلك سيؤدي إلى توحيد الأدوارعسكريًا وسياسيًا كجزء من مشروع سياسي – عسكري إصلاحي شامل بمحاربة منظومة اللادولة التي ترفض الدولة والعملية السياسية وإشراك العرب السنة الذين تم إقصاءها سابقًا.
المليشيات الشيعية بالمليشيات الشيعية
طيلة فترة ما قبل دخول “تنظيم الدولة” إلى العراق تعمل المليشيات الشيعية جنبًا إلى جنب مع الدولة ولا تستهدفها بل تدعمها، علمًا أنها متنافسة فيما بينها تكتيكيًا ومنسجمة إستراتيجيًا مع مشروعات الحكومات العراقية المتعاقبة غير الوطنية ، لكن وبعد اجتياح داعش للعراق وتداعياتها التي أخرجت المالكي الطامح لولاية ثالثة والذي بنى نفوذًا وموالين في مؤسسات الدولة والجيش والمليشيات على مَدى ثمان سنوات من حكمه.
هذه الحالة وَلدت منظومة شيعية من اللادولة لا تعمل مع الدولة والحكومة العراقية، بل تنافسها وبدأت تستهدفها في محاولة من تلك القوى إدارة الدولة من موقع خارج سلطة الدولة بنفس النهج السابق لحكومتي المالكي السابقتين، فما الحل؟
لا بد من تحجيم سلطة مليشيات اللادولة وقد بدأت بوادر ذلك عن طريق مليشيا سرايا السلام التابعة للزعيم الشيعي مقتدى الصدر التي ذاقت الأمرين في عهد نوري المالكي، وهي مليشيا منضبطة عروبية معروفة مناطق انتشارها، وأقل همجية وعفف وقد رفع مقتدى الصدر التجميد عن عملها بعد قدوم تنظيم الدولة ولم تشارك في جميع المعارك التي خاضتها فصائل الحشد الشعبي، فهي تقاتل بتحفظ عن المآلات والأهداف وقد خرجت بعد تجميدها أقل عدوانية وطائفية.
مقتدى الصدر ميال إلى الدولة وعلى خلاف وصراع مع منظومة اللادولة التي أصبح يمثلها المالكي والعامري على وجه الخصوص، فقد شَهدت الأيام القليلة الماضية اغتيالات وصدامات متبادلة بين فصائل سرايا السلام وعصائب أهل الحق وعلاقتهما أشبه بعلاقة مقاتلي العشائر السنية مع “داعش” والقاعدة ، فالعبادي يحاول استمالة الصدر لإجراء اتفاق سياسي عسكري مع مقتدى الصدر لدعمه في توجهاته الإصلاحية وبرعاية الولايات المتحدة الداعمة لهذا التوجه لأنه مع منظومة الدولة ويحارب منظومة اللادولة.
وقد قام العبادي بتسريح ثلث مقاتلي الحشد الشعبي كما تم إغلاق عدد من مقراتهم، وقام بتعيين رئيس جديد للمخابرات وتغيير نائب رئيس هيئة أركان الحشد الشعبي، كما وافق العبادي على مسودة قانون التجنيد الإلزامي الذي سيكون بديلاً عن قانون الحرس الوطني المثير للجدل، فجميع تلك القرارات والمعطيات تصب في مصلحة منظومة الدولة الهشة لكن لن تكون سهلة أبدًا ولن تكون دون دماء، لكنها الصيغة الأمريكية المجربة، حرب ساسية – عسكرية: الشيعة بالشيعة والسنة بالسنة والبادئ أظلم.