طرحت الاحتجاجات الأخيرة التي عاشتها تونس انطلاقًا من مدينة القصرين وصولاً لباقي المحافظات جدلية مؤرقة وهي “جدلية الاستقرار والتنمية”، فبينما ينادي صناع القرار بضرورة تحقيق أقدار من الاستقرار حتى يفلحوا في جلب المشاريع وتوطينها في تربة الهامش الاجتماعي الذي أفرزته دولة ما بعد الاستقلال، فرضت الاحتجاجات الأخيرة تراتبية مغايرة تقدم الاستقرار كنتيجة للتنمية وليس مدخلاً لتحقيقها.
ولئن خفت وتيرة التحركات الاحتجاجية في جانبها الحدي، تبقى دوافع النشأة قائمة دون تغيير يذكر، فالحال هو الحال والاعتصامات لا تزال قائمة الذات سواء في الجهات أو قبالة بعض الوزارات وخاصة وزارة التشغيل، وهو ما يؤكد أن الحراك الاحتجاجي الأخير لن يكون حدثًا عابرًا تائهًا في سياقه التاريخي، بل يمكن اعتباره حجر الأساس في سيرورة احتجاجية ستنخفض وتيرتها وسترتفع بين الحين والآخر، ولن تنطفئ جذوته إلا متى تحققت أقدار ملموسة من المعالجات العميقة.
خمس سنوات ونيف مرت على نجاح الحراك الثوري التونسي في خلع رأس النظام الدكتاتوري، ورغم نجاح النخبة في تثبيت مكتسبات سياسية على الأرض من خلال التوافق على دستور جديد مكن البلاد من أن تكون نموذجًا واستثناءً في العالم العربي، جاءت الاحتجاجات الأخيرة لتعلن عجز ذات النخب عن تحقيق تغيير حقيقي في الوضع الاجتماعي والمنوال الاقتصادي للبلاد.
تعطل كبير في تنفيذ المشاريع
وبالرجوع إلى تبريرات الحكومات المتعاقبة على البلاد، نجد إجماعًا على وجود حالة عجز حقيقي على مستوى تنفيذ المشاريع والإصلاحات الكبرى، فرغم كل الثناء الذي حضيت به الإدارة التونسية عقب الثورة من كونها كانت إحدى دعائم استمرار الدولة، بات واضحًا اليوم أنها تعاني من متلازمة البيروقراطية بشكل يعيق أي إمكانية لتحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي.
هذا العجز أكدته الأرقام،لاحيث أشار تقرير رسمي صادر عن الهيئة العامة لمتابعة البرامج العمومية في أواخر سنة 2014 إلى أن نسبة المشاريع المنجزة لم تتجاوز عتبة الـ 22% بكلفة بلغت 3860 مليون دينار من أصل 16834 مليون دينار مرصودة لجملة المشاريع التي تضمنتها ميزانية سنة 2014، إضافة للمشاريع المضمنة في ميزانيات سنوات 2011 و2012 و2013 دون النجاح في تنزيلها على الأرض.
ووفق ذات التقرير، بلغ عدد المشاريع التي كانت، في تلك الفترة، في مرحلة طلب العروض رغم انقضاء السنة المالية، 2676 بقيمة 2085 مليون دينار، أي بنسبة 12% من إجمالي قيمة المشاريع، وفي ذات السياق، بلغ عد المشاريع الذي لم يتجاوز طور الدراسة في تلك الفترة 2610 بقيمة 2884 مليون دينار، أي بنسبة 17% من القيمة الجملية لميزانية المشاريع العمومية المبرمجة، في حين بلغت قيمة المشاريع التي لم تنطلق أصلاً 4%.
وأرجع التقرير تعطل إنجاز المشاريع لجملة من الأسباب أهمها الصعوبات المالية المتعلقة بتأخر الاعتمادات باعتبارها رهينة القرار المركزي، إضافة لأسباب عقارية مرتبطة أساسة بالمنظومة التشريعية التي تنظم مسألة صبغة الأراضي وإجراءات تحويلها، وأيضا أسباب إدارية كنتيجة لافتقار الإدارات الجهوية للإمكانيات البشرية واللوجستية والمادية اللازمة للتعهد بملفات المشاريع ومتابعة إنجازها.
الحوكمة المحلية كحل للاحتقان الاجتماعي
وقد ساهم تعطل إنجاز المشاريع التي برمجتها مختلف الحكومات في رفع مؤشرات انعدام ثقة عامة الناس في آدائها، خاصة وأنه كان من المنتظر أن تكون فاتحة لإنشاء مناطق صناعية مؤهلة في الدواخل، وأن تخفف من حالة العزلة الاقتصادية التي تتميز بها أغلب المناطق في البلاد، ما أدى لارتفاع حالة الاحتقان والتي تترجمت عبر الحراك الاجتماعي الأخير.
كل ما سبق يؤكد ضرورة مضي البلاد في تنزيل أحد أهم أبواب الدستور التونسي الجديد، وهو الباب السابع، الذي أتى ليعلن نظريًا انتهاء مرحلة مركزة التقرير والتسيير، إذ تم تخصيص هذا الباب للسلطة المحلية التي تقوم على أساس اللامركزية التي تتجسد في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، تتمتع بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وتديرها مجالس منتخبة.
وقد فرض الدستور على السلطة المركزية توفير موارد إضافية للجماعات المحلية تكريسًا لمبدأ التضامن وباعتماد آلية التسوية والتعديل، كما كفل للأخيرة حرية التصرف في مواردها حسب قواعد الحوكمة الرشيدة وتحت رقابة القضاء المالي في إطار الميزانية المصادق عليها.
ووفق هذا الباب، سيتمكن التونسيون من انتخاب المسؤولين على إدارة شؤونهم جهويًا ومحليًا، وسيعهد لهذه المجالس المحلية التصرف في الموارد المخصصة للجهات وفق حاجياتها، وهو ما سيلغي نسبيًا المسافات التي كان يحتاجها تدبير الأمور باعتبار ارتباطها أساسًا بمركز الدولة.
سيبقى الاستثناء التونسي أعرجًا ما لم ينجح في الإجابة على أسئلة الثورة في منحاها الاجتماعي، ويبدو أنه لن يكون من الممكن تحقيق نقلة حقيقية في المشهد التنموي في البلاد بدون استكمال مسار توزيع السلطة في بعده العمودي، يجمع جميع المحللين الاقتصاديين على أن منوال التنمية أثبت عجزه عن التصدي للرهانات المطروحة للبلاد دون أن يحددوا ملامح البديل وكيفية الوصول إليه، رغم أن الإجابة تضمنها الدستور ولا تنتظر سوى تطبيقها.
وفي انتظار الانتهاء من إعداد الإطار التشريعي الذي ستتمكن البلاد بمقتضاه من المضي في الانتقال من نظام الحوكمة المركزية إلى نظام الحوكمة المحلية، وعلى أمل ألا تشهد البلاد مكدرات لصفو استقرارها السياسي، ستكتفي الحكومة الحالية بتسيير الأعمال، وسيستعد التاريخ لتسجيل نقطة تحول مفصلية في تاريخ البلاد الحديث، فتونس دولة مركزية منذ عهد الدولة الحسينية وحتى يوم الناس هذا، والقطع مع طابعها المركزي سيكون ثورة ثانية من داخل الدولة على إرثها السياسي.
وحتى يحقق هذا التغيير في نظام الحوكمة الأهداف المرجوة منه خاصة فيما يتعلق بالمسألة التنموية، من المهم التفطن إلى ضرورة إرفاقه بتغيير في النظام الإداري للبلاد، فتحرير سلطة القرار الجهوية لن تكون ذات جدوى إن لم تسند بأجهزة إدارية متخففة من سلطة المركز بما يفسح لها هامش الفعل والإنجاز، وهو ما يجب أن تعمل عليه الإدارة التونسية خلال الأشهر القادمة، حتى لا يضطر التونسيون لإضاعة مزيد من الوقت.