أعلن يوم 13 شباط/ فبراير الماضي عن وفاة قاضي المحكمة العليا الأمريكية البارز أنطونين سكاليا، عن 79 عاما (1936ـ 2016).
كان سكاليا قاضيا محافظا، بل واحدا من أكثر القضاة الأمريكيين محافظة. ولكن ذلك لم يمنع مئات من الأمريكيين من مختلف الخلفيات ودوائر الاجتماعية من الاصطفاف لإلقاء نظرة أخيرة على جثمانه يوم الجمعة الماضية. أحد المنتظرين في صفوف الزوار قال إن القاضي سكاليا كان الأبعد يمينا بقدر ابتعادي إلى اليسار، ولكن تلك ليست المسألة اليوم؛ لأن القاضي كانت أيقونة أمريكية. وبالرغم من الافتراق السياسي، لم يتخلف الرئيس الديمقراطي باراك أوباما وزوجته عن الالتحاق بصفوف المودعين. كما قام نائب الرئيس، بايدن وزوجته، بالمشاركة في الصلاة على القاضي في اليوم التالي، الأحد 21 فبراير/ شباط.
خلال الأسبوع منذ الإعلان عن وفاة سكاليا إلى يوم دفنه، لم تكن هناك من صحيفة واحدة على جانبي الأطلسي، من سائر الأطياف السياسية، لم تحمل عددا من التقارير ومقالات النعي للقاضي الأمريكي. كتب البعض بإعجاب وتقدير، وكتب آخرون بلغة ناقدة؛ ولكنهم أجمعوا بلا استثناء على أهمية سكاليا وأثره الهائل في الجدل الأكاديمي والعام على السواء، حول القانون والاجتماع السياسي، وفي رؤية المحكمة الأمريكية العليا للعلاقة بين الحكم القانوني والنص المؤسس للقوانين كافة: الدستور.
في إحدى جوانبها، ستولد وفاة سكاليا ما يشبه الأزمة السياسية في الولايات المتحدة بين الديمقراطيين، أو الليبراليين، والجمهوريين، أو المحافظين. فالمحكمة العليا تتكون من تسعة قضاة، يجري تعيينهم عادة بتسمية من رئيس الجمهورية والتصديق من مجلس الشيوخ. وتعتبر عملية التصديق سياسية بامتياز. يحتل القاضي بمجرد التصديق عليه مقعده طوال حياته، ما لم يبادر هو، أو هي، للاستقالة لسبب ما.
وحتى وفاة سكاليا كان ميزان المحكمة يميل إلى الجانب المحافظ، بخمسة قضاة في مواجهة أربعة؛ وهو ما يعني أن أمام أوباما الآن فرصة لتغيير هذا التوازن لصالح الكتلة الليبرالية في المحكمة. وهذا ما دعا دوائر جمهورية إلى القول إن ملء مقعد سكاليا لا بد أن ينتظر انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة في نهاية هذا العام، بحيث يصبح تعيين القاضي الجديد انعكاسا لإرادة الشعب الأمريكي في انتخابات الرئاسة.
ويجادل الديمقراطيون، من جهة أخرى، بأن تسمية قاض يكمل هيئة المحكمة العليا ليس حقا للرئيس وحسب، بل وواجبه الدستوري أيضا. كما أن المحكمة يجب ألا تترك في حالة شلل استقطابي بين كتلتين متساويتين من القضاة المحافظين والليبراليين، مما قد يفضي إلى تعطيل عملية صدور الأحكام في القضايا ذات الطابع الدستوري الانقسامي.
يطلق على المحكمة الأمريكية العليا، التي تشكلت بموجب نص دستوري منذ 1789، أحيانا، المحكمة الدستورية العليا. ولكن المحكمة ليست محكمة دستورية وحسب، بمعنى أنها تنظر في انسجام القوانين مع الدستور وتفسره، بل وتقوم بدور محكمة الاستئناف العليا، أي آخر محطات التقاضي. بهذا الدور، تجمع المحكمة الأمريكية بين دور أعلى درجات الاستئناف، الذي تتعهده المحكمة البريطانية العليا (ولأن بريطانيا تحكم بدون دستور، فليس في نظامها محكمة دستورية)، ودور الحكم على دستورية القوانين، الذي تتعهده المحكمة الدستورية الألمانية.
ولدت الولايات المتحدة الأمريكية، في نهايات القرن الثامن عشر، من البداية، باعتبارها دولة حديثة. وككل أنظمة الدول الحديثة نمت سيطرة الدولة الأمريكية بصورة حثيثة على الأرض والشعب. وكان التشريع القانوني، ولم يزل، الأداة الأهم لتعزيز السيطرة. وكما كل الدول الحديثة، لم تكن عملية التقنين كثيفة في البداية، ولكنها تسارعت خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وزحفت بصورة تدريجية، في موازاة تعقد الاجتماع السياسي وتنوعه، لتنقل مساحات متسعة من المجال الخاص إلى العام. وبتسارع عملية التقنين، اكتسبت المحكمة العليا أهمية متزايدة في الحياة الأمريكية، بحيث أصبحت واحدة من أهم مؤسسات الدولة.
من هذه الأهمية، نبعت أهمية القاضي سكاليا ودوره في المحكمة العليا وأثره في المجال العام. وبالرغم من أن سكاليا لم يحتل أبدا موقع رئيس المحكمة، فإن كثيرين يرون المحكمة العليا في العقود الثلاثة الماضية باعتبارها “محكمة سكاليا”.
ولد أنطونين سكاليا لوالدين كاثوليكيين من أصول إيطالية، وتلقى تعليمه الأولي في مدرسة يسوعية في نيويورك؛ ومنها ذهب إلى جامعة جورجتاون بواشنطن، التي أسست على يد اليسوعيين أيضا. وبعد حصوله على شهادة القانون في مدرسة هارفارد للقانون، عمل محاميا لبعض الوقت، كما عمل في مكتب المستشار القانوني للرئيس نيكسون، وقام بتدريس القانون في جامعتي فرجينيا وشيكاغو. في منتصف الثمانينات، عين قاضيا في محكمة الاستئناف لدائرة واشنطن العاصمة، وفي 1986 رشحه الرئيس ريغان لعضوية المحكمة العليا.
كان سكاليا كاثوليكيا مؤمنا، وكأي كاثوليكي متدين لم يؤمن بتحديد النسل؛ وقد أنجب من زواجه تسعة أنباء من الذكور والإناث. أحد أولاده أصبح قسا كاثوليكيا، وهو من قرأ الصلاة على جثمانه عندما نقل إلى المحكمة العليا يوم الخميس الماضي.
لم تولد أهمية سكاليا من آرائه القانونية المحافظة فقط، مثل الموقف من حق الأفراد في حمل السلاح، الإجهاض، المساواة في حقوق المثليين، وحكم الإعدام، وهي القضايا القريبة من قلوب المحافظين. الحقيقة، أن ثمة قضاة آخرين في المحكمة العليا عرفوا بمواقف في هذه المسائل لا تقل عن مواقف سكاليا محافظة. بل أن سكاليا وافق، في قضية تعود إلى 1989، أعضاء آخرين في المحكمة العليا في اعتبار أن حرق العلم الأمريكي يقع ضمن نطاق الحق في حرية التعبير، وهو الرأي الذي يخالف موقف المحافظين عموما في هذه المسألة.
أهمية سكاليا تقع في مقاربته النظرية، ومنهجه القانوني، في التعامل مع الدستور الأمريكي باعتباره ليس الإطار المرجعي الأعلى للقوانين وحسب، بل والإطار المرجعي الوحيد. كان سكاليا يدرك بالطبع أن الثقافة الأمريكية القانونية، بما في ذلك ثقافة واضعي الدستور، هي ثقافة قانونية غربية، ولكنه بالرغم من ذلك لم ير أن ثمة سلطة مرجعية أخرى في الولايات المتحدة يمكن أن تشارك الدستور الأمريكي سلطته المرجعية.
ومن وجهة نظر سكاليا، لا يجب على القاضي أن يبحث أبعد من النص الدستوري، كما أراده واضعوه. ورفض، في ما سيعرف بعد ذلك بالنصية والأصولية (textualism and originalism)، المقاربات القانونية الليبرالية، التي ترتكز أحيانا إلى روح النص والسياق المتغير، أو التي تنظر في التطور التاريخي للقوانين، وتعتبر الدستور كائنا حيا، تنمو نصوصه ويعاد تفسيرها بمتغيرات الزمان والسياقات. نحن نحكم بالقانون، قال سكاليا مرة، وليس بالنوايا؛ والمقصود هنا المعنى المباشر للنص.
هذه المقاربة للنص الدستوري هي بالتعبير الإسلامي مقاربة سلفية؛ بل هي سلفية راديكالية بامتياز. قياسا بالسياق الإسلامي، يعتبر سكاليا أشد سلفية من ابن تيمية، مثلا، الذي آمن بالعلاقة بين النص والسياق، وفرق بين إطلاقية النص القرآني ونسبية الحكم الفقهي؛ والذي يستدعى كثيرا اليوم في الجدل حول السلفية. وسكاليا هو بالتأكيد أكثر تشددا بأشواط من السلفيين الإصلاحيين الإسلاميين، الذين شكلوا ثقافة المسلمين في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين.
بكلمة أخرى، تعكس رؤية سكاليا أزمة الإنسان، المشرع وغير المشرع، في التعامل مع النص المؤسس، والجدل الذي عاشته، ولم تزل، كل الثقافات القانونية في كيفية تفسير النص وقراءته. وإن كان سكاليا أعطى كل هذه القداسة لنص دستوري وضعي (تعرض لسبعة وعشرين تعديلا حتى الآن)، فربما يستوجب ميراثه بعض التواضع والتفهم عند نقاد السلفية الإسلامية اليوم، الذين يغلب على معظمهم الكثير من الجهل والتسرع في إلقاء الأحكام.