خيمت الأزمة السياسية حول سياسة البلاد الخارجية وتأثيراتها السلبية على علاقة لبنان بدول الخليج اليوم الخميس على جلسة أعمال مجلس الوزراء اللبناني، ولا يزال الانقسام سيد الموقف على المستوى الرسمي على الرغم من تصريح رئيس الحكومة تمام سلام مطلع هذا الأسبوع بـ “ضرورة تصويب العلاقات مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج وإزالة الشوائب التي اعترت هذه العلاقة”، ولكن يبدو أن هذه التصريحات بقيت حبرًا على ورق ولم تتفق عليها كل الأطراف اللبنانية المعنية، ففي رد لوزير التنمية الإدارية محمد فنيش أحد ممثلي حزب الله في الحكومة يقول: “إننا لم نخطئ لنعتذر من السعودية ولا نعرف سبب الضغط السعودي على لبنان للاعتذار وهل الاعتذار يخرج السعودية من مأزقها في اليمن؟”، وزير الاقتصاد أيضًا ذكر الشيء نفسه “لبنان لم يخطئ ليعتذر”.
وبين انقسام وعدم اتفاق في حل الأزمة اللبنانية المثقل أصلاً بالأزمات والنفايات التي لم تعالج إلى الآن، ألغت السفارة الكويتية حفل الاستقبال مساء اليوم في مجمع البيال في بيروت بمناسبة العيد الوطني، حيث انضمن كل من الكويت وقطر والبحرين إلى السعودية والإمارات في الطلب من جميع مواطنيهم عدم السفر إلى لبنان وطلبت كذلك من المواطنين الموجودين هناك المغادرة حرصًا على سلامتهم والاتصال بالسفارة لتقديم التسهيلات والمساعدة اللازمة لهم.
العلاقة بين المملكة ولبنان ليست وليدة البارحة بل المملكة هي أصل وأساس الاستقرار اللبناني الذي عاشت بظله خلال السنوات الماضية، حيث جمعت المملكة الفرقاء اللبنانيين في مؤتمر الطائف عام 1989 بعد الحرب الأهلية اللبناية التي دامت أكثر من 15 عامًا وراح ضحيتها أكثر من 150 ألف قتيلاً و300 ألف جريح وهجّر أكثر من مليون نسمة أي ما يعادل 30% من سكان لبنان، ومن ثم قدّمت الدعم السياسي للبلد في جميع المحافل الدولية من خلال مؤتمر ستوكهولم ومؤتمر باريس.
وكانت المملكة تأمل على أقل تقدير رد الإحسان بالمثل وتقدير جهودها في إرساء استقرار لبنان على مر تلك السنوات إلا أنّ وبرأي المراقبين السعوديين تلقت المملكة السيئة مقابل الحسنة، “نظرًا لمواقف بيروت التي لا تنسجم مع العلاقات الأخوية بين البلدين”، وذلك بعد امتناع بيروت عن التصويت على قرار وزراء الخارجية العرب الذي طالب إيران بـ “وقف دعم الميليشيات والأحزاب المسلحة داخل الدول العربية، واعتبار ذلك تهديدًا للأمن القومي العربي”.
كما أكد مجلس الوزراء السعودي أن “ما يسمى حزب الله اللبناني” يصادر إرادة الدولة وأن المملكة تقف إلى جانب الشعب اللبناني بكل طوائفه، كما أن لبنان لم يدن التعرض للبعثات الدبلوماسية السعودية في إيران الشهر الماضي.
أثر الأزمة بين لبنان والخليج يتوضح من خلال بعض الأرقام الاقتصادية؛ فتحويلات اللبنانين العاملين في دول الخليج العربي إلى لبنان تقدر سنويًا بأكثر من أربعة مليارات دولار 40% منها يأتي من السعودية وحدها، وفي حال لم تحل الأزمة سيكون الشكل المطور منها العقوبات الاقتصادية وهذا قد يحرم لبنان من تلك التحويلات.
حيث كانت قبل الحرب الأهلية تساوي 3.3 مقابل الدولار بينما تدهورت مع تدهور الاقتصاد اللبناني وخسارته مكانته ودوره الاقتصادي الذي كان يلعبه في المنطقة حتى وصلت إلى 3000 ليرة فساهمت المملكة من خلال دعم مصرف لبنان المركزي بالودائع وإيقاف نزيف الليرة اللبنانية فاستعادت الليرة بعض من عافيتها فارتفعت بعد توقف الحرب الأهلية إلى 1500 ليرة لكل دولار.
كما يوجد قرابة نصف مليون لبناني يعملون في الخليج معظمهم في السعودية وتعتبر أعمالهم ومناصبهم الوظيفية محل قلق بعد الأزمة من ترحيلهم أو تأخير إجراءاتهم، ويصدر لبنان إلى الخليج نحو 75% من الصادرات الزراعية و53% من الصادرات الصناعية وهذه مهددة بالتوقف في حال فرض عقوبات اقتصادية على لبنان من قِبل دول الخليج، ثم إن 85% من الاستثمارات الأجنبية في لبنان هي خليجية ويعد تسييلها أو التخارج منها ضربة موجعة للاقتصاد اللبناني، كما أن قيمة المؤسسات اللبنانية العاملة في الخليج تفوق الـ 125 مليار دولار.
والجدير بالذكر هنا أن الاقتصاد اللبناني قائم على الخدمات والتي تمثل حوالي 70% من الدخل القومي وهي تعتبر من أعلى النسب في العالم ويعد قطاع المصارف والمؤسسات المالية سنام القطاع الخدمي، حيث كانت المصارف اللبنانية هي وجهة الفوائض المالية للدول العربية خصوصًا الدول النفطية وعلى رأسها السعودية، وما ساعد لبنان أن يكون بلدًا خدميًا أكثر من كونه إنتاجيا هو أنه يعد بوابة لاستيراد البضائع القادمة من الغرب لتوزع إلى دول المشرق العربي.
إذن المؤشرات الاقتصادية ليست هيّنة على متخذي القرار في لبنان؛ ففي حال تصاعد الموقف الخليجي نحو لبنان فالاقتصاد وقتها سيتعرض لضربة قوية تفتح العديد من الخيارات أمام لبنان إما في احتوائه من قِبل إيران وتحوله لأداة بيدها أو الدخول في حلقة صندوق النقد الدولي والاقتراض من الخارج وهذا بالطبع أمر عسير سيرهق الاقتصاد اللبناني أكثر مما هو مرهق أو يبقى لبنان بدون مساندة, تتقاذفه مصالح الدول ورغباتها كيفما شاءت.
وبحسب خبراء سياسين في المشهد اللبناني فإنه “لا يمكن تلقي المساعدات على مدى سنوات ثم الامتناع عن الوقوف إلى جانبها عند الضرورة كما أن لبنان هو البلد الوحيد الذي خرج عن الإجماع العربي وهو الآن يدفع الثمن”.
وفي مقابل قطع السعودية لدعمها للجيش اللبناني أعلنت الحكومة الإيرانية عن استعدادها لتقديم مساعدة مالية للقطاع العسكري اللبناني بعد أن امتنعت السعودية عن تنفيذ التزاماتها بهذا الصدد، حيث جاء على لسان ممثل وزيرالخارجية الإيرانية حسين جابر أنصاري إن “طهران جاهزة للنظر في مسألة تقديم المساعدة الضرورية للبنان إذا حصلت إيران منه على طلب رسمي”.
وحدها الأيام المقبلة تحمل كيف يمكن أن تتطور الأزمة بين الخليج ولبنان، وهل يستبدل لبنان الدعم السعودي بالدعم الإيراني؟