تٌعرَف الخطابة بمعناها المعتاد بوصفها قول موجه الى الجمهور سواء كان في حضوره المباشر أو الافتراضي وهي تقترن بالعمل السياسي بصورة يصعب الفصل بينهما ورغم أن الخطابة هي الأداة المركزية لكل أشكال الممارسات التي تسعى الى التأثير في العامة سواء كان المتكلم واعظا دينيا أو أديبا فإن السياسة تظل الميدان الأهم لممارسة اللعبة الخطابية اعني بوصفها نصا بلاغيا وتقنية للإقناع في ذات الوقت.
ومن هنا كان الحرص لدى الفاعلين الحزبيين والنشطاء السياسيين والمسؤولين الرسميين على إتقان آليات الخطابة والتأثير من اجل الإفصاح والإبانة وإبلاغ الفكرة والدفاع عنها. وإذا كان أرسطو في كتابه الخطابة قد ميز بين ثلاثة أشكال خطابية هي على التوالي “تشاجرية” وهي التي تلقى في المحاكم وأثناء النقاشات وأخرى “استشارية” وهي التي يكون مجالها المجالس النيابية والمحافل السياسية وأخيرا خطابة “تثبيتية” وتلقى في المحافل العامة وغايتها التحسين أو التقبيح فإنه يجعل الخطابة السياسية مزيجا بين الصنفين الأول والثالث حيث تجمع بين المنطق والجدل (وهو سمة الشكل الأول من الخطابة) والبلاغة والأدب (وهي سمة الشكل الثالث من الخطابة) ومتى احتكمنا الى هذا التوصيف الأرسطي لطبيعة الخطابة السياسية يمكن القول أن العمل السياسي في المنطقة العربية يشهد بالفعل أزمة خطابية. فمن خلال مراقبة أداء النواب في البرلمانات العربية أو كلمات المسؤولين السياسيين يمكن القول أن الفاعلين السياسيين لازالوا غير قادرين على تقديم صيغة خطابية مقنعة للشارع حيث يتم الاكتفاء بخطب تتراوح بين اللغة الخشبية الجامدة أو الوعظية المنبرية على طريقة مشايخ الدين وصولا الى خطب عاطفية تتراوح بين الوعد والوعيد.
فمن خلال متابعة خطابات الرئيس المصري على سبيل المثال يمكن أن نلاحظ دون عناء غياب تام لأي اهتمام بتناسق البنية المنطقية للقول والاكتفاء بالمراوحة بين إثارة العواطف أو التعبير بكلمات غير مفهومة عن قضايا ملحة وصولا الى اعتماد لغة الوعيد والتهديد المعلن ضد الخصوم السياسيين. لقد تحولت الخطابة السياسية لدى البعض الى ما يشبه الخطبة المنبرية حيث يغلب عليها التهديد والوعيد والترغيب والترهيب وحيث يغيب تماما ما اسماه أرسطو بالبعد التشاوري للخطابة السياسية لتحل محلها لغة مشحونة بطابع سلطوي عنيف قائم على استثارة العواطف بما تتضمنه من إغواء وتهديد.
وربما من المفيد التذكير هنا أن الخطابة السياسية قد تتحول الى مناسبة لاستثارة أشكال من الحنين للماضي على النحو الذي يمكن ملاحظته في خطب الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي الذي يحرص على تقليد أسلوب الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحيث تمتلئ خطبه بالآيات القرءانية والأمثال الشعبية والنكات في قالب فكاهي وبلغة دارجة قد تتدنى أحيانا بقيمة الخطاب الموجه للناس.
وعلى الإجمال فإن ما يمكن تسجيله بخصوص النصوص الخطابية العربية في المجال السياسي هو انفصالها عن الواقع من ناحية (تعتبر خطابات بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي أفضل تعبير عن هذا الانفصال) وافتقادها للعقلانية والقدرة على الإقناع والحجاج وقيامها على الشعارات أو التعبيرات العامة الفضفاضة وهو ما نلاحظه لدى نسبة كبيرة من قيادات العمل السياسي الحزبي العربي وخصوصا لدى الناشطين السياسيين صلب الأحزاب المغرقة في الايديولوجيا (يمينا ويسارا) أما الجماعات المسلحة فإن خطاباتها السياسية ليست إلا خطبا ترهيبية تستحضر تراثا عربيا كاملا من أشكال الخطاب المغرقة في الحدية المفرطة حيث لا يترك المتحدث الخيار للمتلقي بين أن يكون تابعا للزعيم أو القائد أو الأمير وبين أن يكون في الجانب الأخر أي ذاك المستهدف ولكن ليس بصورة بلاغية وحسب وإنما بالتهديد المباشر للوجود المادي للإنسان ذاته.
فأكثر الخطب السياسية في المشهد السياسي العربي تستعيض عن الحجاج والإقناع العقلي بلغة تجمع بين التهديد اللفظي أو منطق الاستمالة العاطفي دون قدرة على تقديم مضمون واضح قادر على مخاطبة عقول غالبية أفراد الجمهور العربي وربما نذكر في هذا الصدد خطاب حسني مبارك الاستعطافي أثناء الثورة المصرية وحديثه عن رغبته في الموت على تراب مصر أو الخطبة الأخيرة لزين العابدين بن علي حين توجه للناس بالقول “أنا فهمتكم” دون أن يدرك أن هذا الفهم المتأخر كان علامة على نهايته لأن من يحكم شعبا طيلة 23 عاما وليكتشف في اللحظة الأخيرة انه لم يكن يدرك مطالب شعبه فقد حكم على نفسه بالموت سياسيا.
و ربما كان خطاب معمر القذافي الذي توجه فيه للمتظاهرين من أبناء شعبه بالقول “من انتم؟” احد ابرز صور كوميديا الخطابة السياسية العربية حيث لا يدرك الحاكم أن ما يقوله ينبغي أن يكون منسجما مع طبيعة الأحداث الجارية على مستوى الزمان والمكان وان التعامل مع جماهير غاضبة تطالب بإصلاحات ديمقراطية لا يكون مستقيما عبر التعامل معها بوصفها “نكرة” و”متآمرة” ولا تستحق غير الاحتقار وتجاهل مطالبها المشروعة، وهو ذات القول الذي كرره الرئيس المصري في خطابه بقوله”أنتو مين؟” وهو ما يعبر عن حالة التلبس التام بين الطاغية والسلطة الى الحد الذي يجعله لا يدرك المصدر الحقيقي لها حين يستبعد الشعب ويعتبره الآخر/الغائب الذي لا يحق له المشاركة في صناعة القرار ولا ينبغي مشاورته في قضايا تخصه وفي سياسات هو من سيتحمل عبئها ويدفع ثمن تبعاتها.
إن الدرس المحوري الذي ينبغي استخلاصه من اللغة الخطابية في الفعل السياسي العربي هو أنها لازالت تراوح مكانها بين لغة وعظية تلقى لتوجيه جماهير الناس بوصفها قاصرة وغير مدركة لمصالحها أو خطبة تهديدية قوامها الوعيد أو هي لغة “الإقناع عبر القمع” بمصطلح فوكو الأمر الذي يدعو كل المشتغلين بالمجال السياسي وخاصة في الدول التي تتحسس خطواتها الاولى في الانتقال الديمقراطي أن تحسن تقنيات الكلام وتتمكن من لغة الخطاب لأنه “لولا الكلام لما بانت (أي تميزت) الحجة من الحيلة والدليل من الشبهة” كما قال الجاحظ.