لا شك أن طبيعة المعارضة – أو المعارضات – السورية وأداءها كانا العامل الأكبر في تعثر سبل الحل السوري. وبدون الغوص في تفاصيل تاريخ المعارضة، من المعروف أنها تنقسم إلى قطبين كبيرين رئيسيين: قطب انحاز تماماً في خطابه وتوجهاته نحو مجموعة لندن 11 (أو ما عرف آنذاك باسم “دول مجموعة أصدقاء سوريا”) فيما القطب الآخر رأى أن حلفاء النظام أنفسهم (روسيا وإيران) هم الأقدر على الضغط وإجبار النظام السوري على التغيير. استمرت الحرب الإعلامية وألعاب التصريحات الهجومية بين الطرفين سنوات طويلة، ولم ينته هذا الشقاق نسبياً إلا مع تطور حدثين متزامنين ومرتبطين غالباً. الأول هو طاولة فيينا في 14 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، وتشكل (المجموعة الدولية لدعم سوريا ISSG) المؤلفة من 18 دولة على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وقطر والسعودية وتركيا من جهة وروسيا والصين وإيران من جهة أخرى. بعد ثلاثة أسابيع استضافت الرياض اجتماعاً ضم أكبر طيف من المعارضة السورية على الإطلاق بدءاً بالمجلس الوطني السوري مروراً بهيئة التنسيق الوطنية وتيار بناء الدولة وليس انتهاء بحركة أحرار الشام وفصيل جيش الإسلام، ونتجت عنه “الهيئة العليا للمفاوضات”.
التقييم السياسي للمعارضة:
يصف تقرير (مجموعة الأزمات الدولية) المعارضة السياسية السورية بأنها “تشبه كل شيء إلا السياسة”. يعود ذلك إلى أنها لا تمتلك أي رؤية سياسية واضحة بالنسبة للملف السوري، وكل ما كانت تفعله طيلة السنوات السابقة هو المطالبة برحيل الأسد ومناشدة حلفائها بالتحرك والتنديد بتقاعس المجتمع الدولي. بمعنى آخر لم يكن لدى المعارضة ما تقدمه لأي طرف، لا من حيث الرؤية الاستراتيجية ولا من حيث التعهدات برعاية المصالح المشتركة مع الأطراف الدولية.
كان الموقفان الرئيسيان المطلوبان من المعارضة هما الموقفان من كلا تنظيم الدولة الإسلامية بوصفه إرهاباً صرفاً جلياً وجبهة النصرة باعتبارها تتبع تنظيم القاعدة. في هذا الصدد ما يزال السواد الأعظم من المعارضة السورية يرفض اعتبار جبهة النصرة تنظيماً إرهابياً، ويتجاهل القرارات الدولية الصادرة بحقه في نفس الوقت الذي يطالب فيه بتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة (التي يرى فيها مصلحة محتملة). حتى أن الائتلاف الوطني السوري صاغ بياناً رسمياً يطالب فيه الولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الأمن الدولي برفع اسم جبهة النصرة عن لوائح الإرهاب.
أما فيما يتعلق بالموقف من تنظيم داعش، فرغم موقف المعارضة المعادي له والمتبرئ منه سطحياً، بقي التركيز الأكبر في خطابها السياسي معلقاً بأنه “لا إرهاب إلا إرهاب الأسد”، ومهما كانت الغايات من هذا الموقف تجاه تنظيم داعش أو النصرة أو سواهما، فهو الموقف الذي جعل من المعارضة السورية في ذاتها علامة استفهام كبرى مع عجزها الواضح عن التوافق والإجماع على أكثر القضايا وضوحاً وبديهية. لذلك حاول بيان اجتماع الرياض إصلاح الموضوع بحيث تفتح صفحة جديدة في تاريخ المعارضة السورية، إلا أن الانقسامات الداخلية ما زالت واردة جداً في أي وقت.
التقييم العسكري للمعارضة:
لا شك أن الوضع العسكري للمعارضة يفوق في سوئه وضعها السياسي. أولاً للسبب الأوضح وهو انقسامها إلى مئات “وربما آلاف” الفصائل المختلفة والمتناحرة أحياناً. وثانياً لانعدام رؤيتها السياسية وانقسامها بوضوح حول قبول الحل السياسي، وثالثاً بسبب التطرف الواضح والموثق في ممارسات قسم كبير منها في مناطق نفوذه بحق المدنيين. بعد ظهور إشكالية فصائل الجهاد الإسلامي (داعش والنصرة بالتحديد) أصبح التوجه العام دولياً هو الفصل والتمييز بين المعارضة “المعتدلة” ونظيرتها “المتطرفة”، فانخرطت فصائل كثيرة في محاربة داعش أملاً في كسب الرضا والتصنيف كمعارضة معتدلة، لكن الموقف من جبهة النصرة كان أشد ضبابية وأكثر قلقاً كما أن الموقف من الحل السياسي كان الأكبر والأكثر تأثيراً. على هذا فإن عدداً محدوداً من الفصائل وصل إلى التصفيات النهائية للمعارضة المعتدلة المقبولة للمشاركة في الحل السياسي، وتعتبر الفصائل الأقوى والأهم منها هي حركة أحرار الشام وجيش الإسلام (الممثلان في الهيئة العليا للمفاوضات) وقوات سوريا الديمقراطية التي تشكلت من اتحاد قوات حماية الشعب وجيش الثوار (والتي سيمثلها هيثم مناع من خارج الهيئة حتى الآن، فيما تم تعليق مشاركة صالح مسلم).
موقف الولايات المتحدة:
أغفلت المعارضة تماماً طيلة السنوات السابقة السياسة التي بنى عليها الديمقراطيون الحملتين الانتخابيتين للرئيس أوباما. ركزت سياسة الديمقراطيين على سياسة الأيدي الناعمة وإنهاء عهد الحروب البعيدة الذي شهدته ولاية الجمهوري بوش الابن، لا بالامتناع عن خوض حروب جديدة وحسب بل بسحب الجيوش الأمريكية الحالية من مواقعها. فبدأ أوباما ولايته الأولى بالانسحاب من العراق عام 2011، ووعد في نهاية ولايته الثانية بإكمال الانسحاب من أفغانستان عام 2017. من هنا فإن الولايات المتحدة لم تعد ولن تعد بالتدخل في سوريا رغم أحلام فريق من المعارضين.
لكن مع ذلك، استثمرت الولايات المتحدة الوقت في استنزاف الخصوم على الأرض السورية دون جدية واضحة في حل الأزمة، وتعهدت بتدريب عدد ضئيل من “المعارضة المعتدلة” لمجرد وهم التدخل الفعال. كان الأمل هو أن تتألم إيران وروسيا من الفصائل الجهادية والإرهاب الداعشي أولاً بحكم القرب الجغرافي من سوريا، وكذلك إثارة البلبلة بين روسيا وإيران مع دخول الاتفاق النووي حيز التنفيذ. لكن وصول خطر الإرهاب الداعشي إلى أوروبا بالتزامن مع أزمة اللاجئين قلب المعادلة وهدد برد فعل غير محمود للاتحاد الأوروبي في وجه الولايات المتحدة مما أدى إلى اللقاء الأمريكي الروسي في منتصف الطريق. سحبت روسيا اعتراضها على وجود جيش الإسلام في الوفد المعارض، فيما قبلت أمريكا بالوفد الاستشاري الذي اقترحته روسيا في طاولة جنيف، كما مرر الطرفان بالاتفاق قرار مجلس الأمن التاريخي 2254 لتكون محادثات جنيف 2016 أول محادثات في الشأن السوري يدعمها قرار أممي. ويبدو لنا أن هذا التوافق – ربما – يتضمن أيضاً التنسيق العسكري بين الطرفين لمنع استهداف الروس للقوى العسكرية المدعومة من طرف الولايات المتحدة، بدليل أن الطيران الروسي ما يزال يستثني قوات سوريا الديمقراطية من الاستهداف الجوي، لكن أحداً من الطرفين لم يعلن شيئاً كهذا بشكل رسمي.
تركيا:
كانت الولايات المتحدة قد وضعت خطة هزيلة لتدريب عدد ضئيل من “المعارضة المعتدلة”، لكن هذه الخطة الهزيلة غير الجدية لم تأت بأي نتائج، لذلك قررت الولايات المتحدة المراهنة على أحد اللاعبين وتحويل الدعم العسكري واللوجستي إليه، ألا وهو “قوات سوريا الديمقراطية” التي تشكلت بتحالف راهن بين (قوات حماية الشعب) الكردية و(جيش الثوار) المنضوي تحت لواء الجيش السوري الحر. وأثار ذلك حفيظة تركيا التي تعتبر حزب PYD عدوها الأساسي، والتي لم تكن تخفي أي سعي لإقامة منطقة عازلة على حدودها الجنوبية على حساب جزء من المناطق الكردية على الأقل. لذلك قابلت هذا التوسع المفاجئ لقوات سوريا الديمقراطية بهجوم مضاد على الشريط الشمالي.
لا تتوانى تركيا عن استخدام أزمة تهريب اللاجئين كورقة للضغط على الاتحاد الأوروبي، كما أنها تدرك الدور الهام لحدودها في تجفيف منابع السلاح في سوريا، وستبذل كل جهدها لتكون عنصراً فعالاً ومؤثراً على الطاولة وتحقق المكاسب التي دفعت ثمنها طيلة سنوات الأزمة السورية وتفرض شروطها. لقد تعرضت تركيا لعدة ضربات سياسية في الفترة الأخيرة، فبالإضافة إلى رفض مقترح المنطقة الآمنة الذي طلبته، تحول الدور الرئيسي في رعاية المعارضة من اسطنبول إلى الرياض، كما أن قوات سوريا الديمقراطية وفق وجهة النظر التركية “تهدد الأمن القومي التركي”، ولا أشد من طعنة أن يكون “صالح مسلم” ممثل PYD أحد الأطراف الحاضرة على الطاولة، وهو أمر نجحت تركيا في منعه حتى الآن، لكن إلى متى؟.
المملكة العربية السعودية:
تكمل السعودية الموقف الإعلامي الذي تراجعت عنه الولايات المتحدة بحذافيره، بدءاً برفض وجود الأسد في أي مرحلة انتقالية وانتهاء بإعلان الاستعداد لاستمرار دعم المعارضة العسكرية في حال فشل جنيف 3. تحمل السعودية الثقل الأمريكي الذي اضطرتها الظروف لتركه، وتعرب عن نيتها تزويد المعارضة بصواريخ أرض – جو (وهي نفسها الصواريخ التي زودت بها الولايات المتحدة المسلحين في أفغانستان ضد الجيش الأحمر حتى انسحاب القوات السوفييتية عام 1989). ويعتبر دورها في غاية الأهمية أولاً كوسيط إقليمي وازن يمكن أن يضغط على روسيا دون الإخلال بشهر العسل الروسي الأمريكي، وكذلك كوسيط هام بين الولايات المتحدة وتركيا خصوصاً بعد التوتر المتذبذب الذي ساد علاقتهما طيلة العامين الماضيين بدءاً برفض حلف الناتو لمقترح المنطقة العازلة وانتهاء بدعم الولايات المتحدة للتحالف الذي يضم PYD. تعتبر السعودية الراعي الرئيسي لهيئة التفاوض المعارضة، وبذلك فهي تلعب دوراً حذراً بين الأطراف مجتمعة، حيناً تتطابق مع موقف الولايات المتحدة الرافض لمستقبل الأسد في سوريا، وحيناً تتفق مع تركيا في رفض تمثيل PYD على الطاولة.