يومًا بعد يوم يتأكد تحول التدخل الروسي في سوريا سياسيًا وعسكريًا إلى شكل من أشكال وصاية الاحتلال، فلم يعد نظام بشار الأسد يستطيع النطق ببنت شفاه خارج السيناريو الروسي المكتوب له ولو ظاهريًا لحفظ ماء الوجه، خاصة مع التدخل الروسي العسكري المباشر في بلاده مؤخرًا، الذي لولاه لكان مصير نظامه شيئًا آخر في حربه التي يخوضها منذ اندلاع الثورة السورية مع المعارضة المسلحة.
روسيا التي تحولت من داعم خارجي لنظام الأسد إلى حالة التبني وأخيرًا الوصاية الكاملة، حيث تقود التفاوض بجانب الولايات المتحدة من أجل عملية سياسية تجمع بشار الأسد بخصومه المعارضين، كما تفرض مع واشنطن وقفًا لإطلاق النار على الأراضي السورية وتدخل وتستثني من تشاء في هذه الهدنة، دون أن يكون لنظام الأسد أي كلمة في هذه المواقف، حتى في اختيار ممثليه في التفاوض السياسي كانت الإملاءات الروسية حاضرة وبقوة.
ناهيك عن الوضع العسكري على الأراض التي باتت تديره روسيا بمستشاريها العسكريين، وما على النظام وحلفائه من المليشيات المقاتلة بجواره إلا أن يُنفذوا الاستراتيجيات العسكرية في المعارك بدعم جوي من المقاتلات الروسية.
كل هذا الدعم والتدخل جعل من نظام بشار الأسد مجرد تابع على أرضه للروس، فقد أصبح يفتقد أي إرادة داخل سوريا دون الإذن الروسي والمواقف الظاهرة الدالة على هذا الوضع كثيرة، وربما ما خفي كان أعظم.
فحين يخرج الأسد متحدثًا بنوع من الاغترار حول نيته استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية بعد التقدم الذي حققته قوات نظامه عقب التدخل العسكري الروسي، والذي قابله تراجع للمعارضة السورية المسلحة في كثير من الأراضي، عبر عن هذه النية بنوع من التحدي لخصومه، وهو الأمر الذي لم يرق كثيرًا للروس لأنه ربما هذا الفعل الإعلامي الصغير لم يخرج وفق الاتفاق مع الروس.
إذ رفض المبعوث الروسي إلى الأمم المتحدة تصريحات الرئيس السوري بشار الأسد حول نيته استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية معتبرًا أنها تُسيء إلى الجهود الدبلوماسية المبذولة للتوصل الى تسوية سلمية، على الرغم من عدم جدية الروس في هذه التسوية إلا أنهم لا يريدون أن يخرج الأسد بمجرد “شو إعلامي” خارج خطتهم في سوريا.
حيث قال المبعوث الروسي فيتالي تشوركين لصحيفة “كومرزانت” الروسية: أن “روسيا انخرطت بجدية كبرى في هذه الأزمة، سياسيًا ودبلوماسيًا والآن عسكريًا وبالتالي نريد بالطبع أن يأخذ بشار الأسد هذا بالاعتبار”.
إذن الرسالة هي أنه على بشار الأسد أن يعي أن كل هذه الجهود الروسية المبذولة ليست من أجل الحفاظ على كرسي رئاسته فحسب ليخرج متحديًا خصومه باستعادة الأراضي السورية الكاملة بعد أن كاد يفقدها بالكامل منذ عدة أشهر، ولكنها جهود لتطبيق خطة تحفظ المصالح الروسية في سوريا بعيدًا عن العبث بها في المنطقة، أي أنه يجب أن يمشي وفقًا لهذا ويخرج تصريحاته الاستفزازية وفقًا لهذه الخطة لا وفقًا لإرادته.
الأمر وصل إلى ما هو أبعد ذلك، حيث اعتبر تشوركين أن تصريحات الأسد “وجهة نظر شخصية”، بهذا وصلت روسيا إلى التوغل لهذا الحد في سوريا بحيث تعتبر تصريحات رئيس سوريا في شأن بلاده “مجرد وجة نظر شخصية”.
مضيفًا أن موقف الرئيس السوري “لا يتوافق مع الجهود الدبلوماسية التي تبذلها روسيا”. وتابع “إذا واصلوا على أساس أن لا حاجة إلى أي وقف لاطلاق النار، وأنهم بحاجة للقتال من أجل نصر نهائي، فسيستمر هذا النزاع فترة طويلة جدًا ومن المروع تخيل ذلك”.
واختتم الرجل تصريحاته بأنه في حال سارت سوريا خلف ما أسماه قيادة روسيا في حل هذه الأزمة، فستكون هناك فرصة للخروج منها بكرامة”. لكن “إن ابتعدت بطريقة ما عن هذا السبيل، وهذا رأيه الخاص، فقد ينجم عن ذلك وضعًا صعبًا للغاية”.
وهو ما معناه أن على بشار الأسد أن يفهم ذلك جيدًا حتى لو كان يعتبر نفسه ما زال يحمل لقب الرئيس السوري إلا أن الروس هم من بيدهم فقط إخراجه من مأزقه بكرامة على حد تعبير تشوركين نفسه.
وقد جاءت تصريحات الخارجية الروسية على هذا المنوال المحذر للأسد أيضًا حين صرح نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، أن الرئيس السوري بشار الأسد وأطرافًا أخرى في الصراع يجب أن يستمعوا لنصائح موسكو بشأن سبل وقف القتال في سوريا.
وقد كان الأسد صرح خلال لقاء مع مجلس نقابة المحامين في سوريا قائلًا: “بكل الأحول نحن لا بد أن ننتصر، لا توجد أمامنا أي خيارات لأننا أصحاب حق ولكن الحق لا ينتصر. وإنما من ينتصر هو صاحب الحق، والحق لا يعود لوحده وإنما يستعاد”. وتابع: “وإذا كان علينا استعادته فيجب علينا أن نعرف أن الثمن غال جدا ومن يعتقد أن عليه أن يستعيد حقه من دون ثمن فعليه أن يعرف أن هذا الحق ضائع”.
وأشار الأسد خلال اللقاء إلى انعدام الظروف الملائمة لوقف إطلاق النار، حيث قال: “لا يمكن أن يكون وقف إطلاق النار كما يسمونه بلا هدف أو بلا زمن .. حتى الآن هم يقولون إنهم يريدون وقف إطلاق نار خلال أسبوع .. حسنا من هو القادر على تجميع كل هذه الشروط أو المتطلبات خلال أسبوع… لا أحد”.
إلا أن الرد الروسي كان من الكرملين والرئاسة والخارجية موحدًا على هذه التصريحات بأنه لا بديل عن الحل السياسي في سوريا، وأن مثل هذه التصريحات لا يمكن أن تخرج إلا بالتنسيق مع الوصاية الروسية لا عن طريق الارتجال، حيث يذكرون الأسد بقولهم: “”مهما كانت قدرات الجيش السوري فقد كانت العمليات الفعالة للقوات الجوية الروسية هي التي مكنتهم من دفع معارضيهم إلى خارج دمشق.”
ليس هذا هو الموقف الأول أو الأخير الذي توبخ فيه موسكو بشار الأسد ونظامه في دمشق، فمؤخرًا يُحاول بشار الأسد مرة جديدة أن يتصرف خارج حدود الاحتلال الروسي الذي جعله مجرد دمية في يد الساسة والعسكريين الروس ليخرج دعوة في بيان رسمي إلى انتخابات برلمانية مبكرة عقب وقف إطلاق النار.
لكن روسيا كان لها رأي آخر جاء على لسان خارجيتها التي أكدت أن الانتخابات في سوريا يجب أن تجري على أساس الحل السياسي بين الحكومة السورية والمعارضة وبعد وضع دستور جديد للبلاد، وهو ما يعني أن دعوة بشار الأسد لانتخابات برلمانية لم تكن بإشراف روسي ولا مجال للقبول باجتهادات الأسد.
حيث قالت، ماريا زاخاروفا، الناطقة باسم الخارجية الروسية في تصريح صحفي، تعليقا على قرار دمشق بتحديد يوم 13 أبريل المقبل موعدًا لانتخابات برلمانية جديدة، “أريد أن أشدد على تمسك روسيا الكامل بالاتفاقات الخاصة بمضمون ومراحل عملية التسوية السياسية للأزمة السورية، بمراعاة قرارات مجموعة دعم سوريا والقرار الدولي رقم 2254”.
لتوجه روسيا إلى الأسد برسالة تحذير ثانية أنه ليس له من الأمر شئ في سوريا إلا بعد الإذن من روسيا، وبالتأكيد فإن استجابة الأسد لهذه التحذيرات تكون أسرع مما هو متوقع فبشأن رغبته السابقة في استمرار القتال فقد تغيرت سريعًا إلى إعراب قبوله بوقف إطلاق النار بالشروط الدولية المطروحة، بعدما كان يستعد منذ أيام قليلة لاستعادة الأراضي كاملة، مما يوضح مسألة التوغل الروسي في سوريا الذي يمكن إطلاق عليه لفظ “الاحتلال” دون أي غضاضة.