استكمالا لسلسلتنا تاريخ الفكر الاقتصادي كنا قد أنهينا الفكر الاقتصادي في العصور الوسطى بعد آخر مقالة عن الفكر الاقتصادي لدى ابن خلدون، أما الان نتدارس الفكر الاقتصادي السائد ما قبل المدرسة التقليدية حيث ظهر الاهتمام بالسياسات الاقتصادية مع نشأة الدولة الحديثة وخاصة في القرن السادس عشر، وظهرت عدة اتجاهات فكرية تناولت العديد من الأفكار الاقتصادية أهمها مدرستي التجاريين والطبيعيين.
مدرسة التجاريين:
أشار “آدم سميث” إلى مدرسة التجاريين mercantilism في كتابه “ثروة الأمم” على أنها مجمل الأفكار الاقتصادية السائدة خلال القرون الثلاثة من السادس عشر حتى الثامن عشر والتي يجمع بينها مجموعة من السياسات تهدف إلى تقوية الدولة.
تشمل هذه المدرسة المفكرين الاقتصاديين من القرن السادس عشر إلى الثامن عشر، زاد الاهتمام بالاعتبارات السياسية حيث ظهرت الدولة كوحدة سياسية جديدة كأول ظهورو لها في فرنسا وعلى رأسها “لويس الحادي عشر” ثم “هنري الثامن” في إنجلترا وإمبراطورية “شارل كان” في إسبانيا وقد ساعدت هذه الوحدات السياسية الجديدة على نشوء اتجاهات فكرية جديدة همها الأول كان النمو والتوسع في سبيل تقوية الدولة، عكس النظرة في العصور السابقة التي سيطرت عليها مثل عليا في الدين والأخلاق.
ومثل الفكر السياسي في تلك المرحلة كتاب “الأمير” ل”ميكافيللي” فالتجاريين عبروا عن الفكرة نفسها في مجال المشكلات الاقتصادية فأصبحت قوة الدولة والبحث عن وسائل إثرائها هو الهدف الأول.
وقد ساعدت عوامل عديدة على تركيز الاهتمام بالوحدة السياسية الناشئة (الدولة) مثل الاكتشافات الجغرافية في أمريكا والتي أدت إلى زيادة الطموح السياسي للدول المستعمرة، وقد فرضت هذه الاكتشافات ضرورة التعرض لمشكلات جديدة تدور حول القوة. وارتبط بهذه الاكتشافات الجغرافية نوع جديد من المشكلات اقتضت بحثا من المفكرين في العلاقة بين الدولة ومستعمراتها في الخارج.
كما أدى طول المسافة بين مصادر المود الأولية والأسواق الى الاهتمام الزائد بمشكلات العلاقات التجارية الدولية وقد نتج عن الاكتشافات الجغرافية، تجديد الفن الإنتاجي وبداية الثورة الصناعية. وقد أدت هذه العوامل مجتمعة إلى ازدهار التجارة وزيادة تراكم رأس المال وضرورة الاهتمام بباعث السعي للربح وإضفاء المشروعية عليه.
امتازت تلك المرحلة باحتلال مكانة التجارة المكان الاول في التفكير الاقتصادي علما أنها اقتصاديات زراعية بالدرجة الاولى لأنها دول فقيرة وهي ما يمكن أن نطلق عليها الان دول متخلفة, وقد بدت التجارة بالنسبة لهم كنشاط جديد قادر على تحقيق ثراء الدولة وغناها، فاقتضى نمو التجارة وازدهارها الاهتمام بالصناعة ولكنه لم يكن اهتماما بالصناعة لذاتها وإنما باعتبارها من عوامل ازدهار التجارة. فكانت الصناعة تابعة للتجارة وهذا ما دعا المفكرين اللاحقين إلى تسمية هذه المرحلة بالرأسمالية التجارية وقد أدى ازدهار التجارة الى ظهور أساليب جديدة للتجارة فزاد استخدام الأوراق التجارية وبدأت بعض الأشكال الجديدة للشركات التجارية تظهر وبصفة عامة بدأت البرجوازية في الظهور.
الغرض من الدراسة عند التجاريين هو البحث في كيفية الوصول إلى إغناء الدولة وقاسوا ثروة الدولة على ثروة الأفراد فإذا كانت هذه الأخيرة تقاس بما لدى الفرد من نقود ومن معادن نفيسة كالذهب فإن إثراء الدولة يكون بالبحث عن وسائل زيادة المعدن النفيس للدولة.
وقد اختلفت السياسة الاقتصادية المتبعة بحسب ظروف كل دولة في ذلك الوقت، فالسياسة الإسبانية اهتمت بوجه خاص بحماية ما لديها من معدن نفيس نظرا لأن اسبانيا والبرتغال كانتا تسيطران على مستعمرات في ما وراء البحار في أمريكا غنية بمناجم الذهب والفضة، فاقتصرت السياسة الاقتصادية حول كيفية تراكم المعدن النفيس في كل من إسبانيا والبرتغال وعدم خروجه إلى الخارج. لهذا لجأت الدولتان إلى عدة إجراءات، الغرض منها زيادة حصيلتيهما في المعدن النفيس ومنع تسربه للخارج:
1– تشجيع استغلال مناجم الذهب والفضة.
2– وضع قيود على التجارة الخارجية
3– منع تصدير الذهب إلى الخارج إلا في بعض الأحوال الاستثنائية ومنها:
أ. تسديد الديون الملكية
ب. بعثات الحكومة في الخارج ومصروفاتها.
وبهذا تكون السياسة الاقتصادية عند التجاريين متركزة على سياسة المعدن النفيس لإثراء الدولة وقوتها.
أما في إنجلتوا فقد تطلب زيادة المعدن النفيس لديها اتخاذ إجراءات مختلفة فإنجلترا لم يكن لها مستعمرات قادرة على مدها بالمعدن النفيس ولذلك فقد كانت الوسيلة للحصول عليه هو تحقيق فائض في الميزان التجاري بتصدير قدر من السلع أكبر من وارداتها، بحيث يحقق الميزان التجاري فائضا، وتدفع الدول الأخرى الفائض من التبادل التجاري ثمنه ذهبا وبهذا يدخل الذهب إلى إنكلترا، لذلك اعتمدت انكلترا على تشجيع الصادرات وتحقيق فائض في الميزان التجاري.
وقد تشابهت سياسة فرنسا مع سياسة إنجلترا حيث شجعت فرنسا الصناعة المحلية وأنشأت عدة صناعات جديدة أخذا شكل احتكارات وامتيازات بهدف زيادة الصادرات وتحقيق فائض في الميزان التجاري للحصول على المعدن النفيس، كما تدخلت الدولة في تنظيم التجارة وفرضت بعض القيود لتشجيع الصناعة فاتخذت إجراءات لمنع ارتفاع أسعار المواد الغذائية ومنع ارتفاع الأجور من أجل تشجيع الصناعة، كما أتيح استيراد المواد الغذائية تخفيضا لنفقات المعيشة وبالتالي تقليل نفقات الإنتاج بما يؤدي الى تشجيع الصناعة وقامت الدول أيضا بفرض قيود شديدة على استيراد المنتجات الصناعية من ناحية مع منح إعانات تصدير للمنتجات الصناعية من ناحية أخرى.
نكمل في المقالة القادمة في مدرسة التجاريين أفكار مثل احتكار الصادرات والرقابة على الصرف وفكرة الميزان التجاري.