مهاجرو قوارب الموت، أخذوا معهم بعض طعام وأكياس بلاستيكية تقيهم الماء وسترة نجاة لا تحميهم من الغرق، وتركوا خلفهم وطنا مكلوما وأهلاً ومحبين، وأحلاما عفى عليها الزمن في بلاد الظلم أوطاني.
يغادرون بلادهم مكرهين، وضعوا أمام خيارين أحلاهما مرٌ، لا عيش كريم في وطنهم الأم، وهذا أقل ما يطلبونه ومن أبسط حقوقهم، ولا وصول في طريق آمنة لبلاد ظنوا أن فيها حاكم لا يظلم عنده أحد، ورغد حياة يعوضهم حرمان ما ذاقوا.
واقع وأسباب
تتعدد الأسباب التي تدفع المواطن الفلسطيني لطلب الهجرة إلى أوروبا، فلسطين بشكل عام دوامة صراع مستمر مع الاحتلال، في غزة حروب متتالية، لا يأخذ أهلها أنفاسهم من الحرب الأولى، فتفاجئهم نيران الحرب الثانية في ليلة ظلماء تفتقد فيها إنسانية يدعيها عالم متحضر.
حصار مستمر لهم زاد عن عشر سنوات، تكالب عليهم القريب قبل البعيد، الصديق قبل العدو، منعوا عنهم أبسط مقومات الحياة، الدواء، الغذاء، الكهرباء، السلع والمنتجات الصناعية، أدخلوها بكميات قليلة، أدنى من المطلوب.
وأغلقت أمامهم المعابر العربية والإسرائيلية، ومنعوا من التنقل والسفر، الإغلاقات تستمر لأشهر طويلة، منعت المرضى من السفر لتلقي علاجهم في البلدان العربية، حتى سجلت حالات وفاة وهم ينتظرون على معبر رفح المصري.
كذلك المعابر الإسرائيلية، فالاحتلال يشدد على إجراءات الدخول من وإلى الضفة الغربية ومناطق 48 المحتلتين، ولا يسمح بالمرور إلا لحالات قليلة وتحت شروط معقدة وتعهدات، سواء للمرضى للعلاج في مشافي الاحتلال والمدن الفلسطينية، أو لبعض التجار لإدخال بعض السلع التجارية وسط تشديدات معقدة.
وفي الضفة الغربية المحتلة، يتبع الاحتلال سياسة التضييق الممنهج على الأهالي هناك، فقد قسمها إلى مناطق وقرى معزولة، وأقام فيها العديد من المستوطنات الإسرائيلية بعد مصادرته قسم كبير من أراضيها.
وعمد الاحتلال إلى نشر الكثير من الحواجز العسكرية في الطرق الرئيسية والفرعية الواصلة بين مدن الضفة، وقيد حركة المواطنين والعمال والطلاب، وسط حملة تفتيشات يومية مذلة.
وازداد الأمر سوءً مع اندلاع انتفاضة القدس الحالية والمستمرة منذ أشهر، فشدد الاحتلال الخناق على المواطنين، وتندلع المواجهات اليومية بين الشبان وقوات الاحتلال في نقاط التماس ومداخل المدن والأحياء، وسط سقوط العديد من الجرحى، وارتقاء الشهداء بشكل يومي.
وسط هذه الأمور التي يواجه فيها الفلسطيني قدره المحتوم، ازدادت معدلات البطالة بين الشبان، وفتك سيفها برقاب خريجي الجامعات ذوي التخصصات المتنوعة، وكذلك في افتقار واضح لمشاريع تنموية واقتصادية لاستيعاب هذا القدر من الشباب العاطلين عن العمل، وتقصير لا يعذر به المسؤولون في تبني هذه الشريحة من المجتمع، والنهوض بها في خطط واضحة ومدروسة لتقدم الوطن وازدهاره.
ضغوطات نفسية
يواجه الشباب الفلسطيني بسبب كل الأمور السابقة ضغوطات نفسية لا تنفك عنه، وتبقيه في دوامة صراع للبحث عن حلول ومخارج تمكنه التخلص من كل ذلك، وتضمن له راحة البال التي يفتقدها في وطنه، أمنيته الوحيدة أن يعيش فيه بأمان.
كذلك تواجهه العديد من المشاكل الاقتصادية وتوفير مصاريف الحياة الأساسية، فغلاء الأسعار وارتفاع مستوى المعيشة لا يمكن تفاديها إلا بمدخول مادي يوازي ذلك، وليس ببطالة منتشرة يصعب معها توفير أساسيات الحياة.
عند ذلك لا يستطيع الشاب الفلسطيني إكمال تعليمه الجامعي، ويلجأ إلى ترك الدراسة لمساعدة الأهل في مصاريف البيت، ولا يقدر على بناء مشروع اقتصادي صغير خاص به لبناء حياته المستقبلية وتشكيل أسرة صغيرة.
إن تكرار التجارب الفاشلة في الحياة، وعدم استقرار الوضع النفسي والاجتماعي للشاب، تجبره على الهروب من الواقع، والبحث عن البدائل، راجيا حياة أفضل.
قوارب الموت
يلجأ الشباب إلى الطرق غير المشروعة مثل قوارب الهجرة عن طريق البحر، طلبا لحياة إنسانية أفضل تتوفر فيها مقومات العيش الكريم، والحصول على أبسط الحقوق.
يوجد العديد من المهربين الذين يأخذون مبالغ طائلة من المهاجرين مقابل تهريبهم وإيصالهم إلى الشواطئ الأوروبية، فالشاب الفلسطيني أجبرته قسوة الحياة لتسليم نفسه لسماسرة وتجار الأوراح، الذين يقدمون المال على نفس إنسانية لا يأبهون بأي صورة تموت.
تحاول دول الاتحاد الأوروبي جاهدة للحد من هذه الظاهرة المنتشرة بسبب الحروب والصراعات في المنطقة، حيث لم تتوقف سير هذه القوارب ولن تتوقف ما دامت الإنسانية مفتقدة في بلاد الأصل فيها أن تكون نواة وملجأ للإنسانية والبشرية جمعاء، وما دام الاحتلال مقيد حرية شعب يعيش في وطن مسلوب، البحر من أمامه والعدو من خلفه.
يتعرض ركاب قوارب الموت إلى اعتداءات من أصحابها المهربين، ويسلبوا جميع مقتنياتهم وأموالهم، ملقين بأرواحهم في عرض البحر تضربهم الأمواج إلى شواطئ بلاد الأمن المنتظرة، لكنهم فاقدين الحياة!.
ومن ينجو منهم ويصل بصعوبة إلى بلاد أوروبا، تبدأ معه سلسلة جديدة من المعاناة والحرمان، حيث يضعهم الأوروبيين في مخيمات خاصة للاجئين فترات طويلة، وبعضهم يتم إرجاعه إلى حيث أتى، والقسم الآخر يحتاج سنوات طوال وهو يبني لنفسه حياة جديدة في وطن جديد لا يربطه به سوى جسد على ترابه، تارك خلفه روح وذكريات لا تفارق وطنه الأم.
آلاف الفلسطينيين اتخذوا قرار الهجرة قهرا، جريا وراء حلم وحياة، متحدين ذلك المجهول خلف البحار، ولكل منهم حكاية.