ترجمة وتحرير نون بوست
بدأ الأمر بممارسة الجهود الرامية لمحو كل إحساس بالهوية؛ فبعد دقائق من اقتحام مقاتلو بوكو حرام لميشيكا، بلدة صغيرة في شمال شرق نيجيريا، تم جمع كافة الفتيات المراهقات في البلدة وأُقحمن على متن الشاحنات، وقِيل للأسيرات المرتعدات بأنه سيتم تغيير أسمائهن، واللواتي اعترضن منهن تم ذبحهن ببساطة.
أثناء تكرارها لإسمها بصمت في خلدها، فهمت يوهانا، الفتاة البالغة من العمر 17 عامًا، المبتغى الذي يسعى أولئك الرجال الذين يعتمرون العمامات الوصول إليه منها ومن الفتيات الست الأخريات، وذلك في خضم ارتعاشهن في جوف الليل مع وصولهن إلى مخبأ بوكو حرام في ديسمبر الماضي، “إنهم يريدوننا أن نتوقف عن التفكير”، قالت يوهانا.
يأمل المتشددون ألّا يمر وقت طويل قبل أن يتم إطلاق الأسيرات، اللواتي أُبعدن عن ديارهم وأضحين يعتمدن على المسلحين للحفاظ على حياتهن، ليصبحن قنابل بشرية غير متوقعة إبان عودتهن إلى بلداتهن، وفعلًا بدأت عمليات استمالتهن على الفور، حيث حاول رجال بوكو حرام تدمير الأسيرات نفسيًا، وكان يتوجب على الفتيات الأسيرات أن يقتنعن بأن معاملة الرجال اللطيفة تخفي خلفها مقاصد مبيتة في قلوب أولئك الرجال، “عندما كانت إحدى الفتيات تباشر بالبكاء، كان يقولون لنا: لا تبكوا، لماذا تبكون؟ جميع ما تريدونه، وأي شيء ترغبون به، يمكنكم أن تطلبوه من بوكو حرام”، قالت يوهانا لصحيفة باز فيد خلال مقابلات استمرت لعدة أشهر توّجت في مخيم اللاجئين في يولا هذا الشهر، وأضافت: “كانوا يريدون منا أن نُحبهم”.
إمرأة تسير بجانب سيارة محترقة في ميشيكا
تم تكرار هذا النمط من قبل الطائفة الإسلامية المتشددة مع مئات الأسرى الذين احتجزوهم، ومعظمهم من المراهقين الفقراء المعدمين، حيث تم إجبارهم ليصبحوا مقاتلين، أشراك خداعية، أو انتحاريين في الأسواق المزدحمة ومراكز انتظار الحافلات.
ولكن يبدو بأن هذا التكتيك يتخذ منحى آخر اليوم، فهذه المرة تهدف الجماعة لإظهار أنه حتى أولئك الذين أفلتوا من أيديهم لن يكونوا بمأمن من استهداف الجماعة، وتبين ذلك من أحدث أهداف بوكو حرام التي استهدفت مخيمات اللاجئين.
هذا الأسبوع، فجرّت شابتان انتحاريتان نفسيهما في مخيم ديكوا المترامي الأطراف الذي يعيش ضمنه حوالي 50.000 شخصًا، مما أسفر عن مقتل 58 شخصًا من هؤلاء، وجاء هذا الهجوم عقب هجوم آخر وقع قبل 10 أيام فقط أسفر عن إزهاق أرواح ما لا يقل عن 80 لاجئًا، كما أنه وفي سبتمبر الماضي، تم تفجير عبوة ناسفة ضمن مخيم لاجئين آخر لا يبعد كثيرًا عن مخيم ديكوا.
إضافة إلى ذلك، فإن فرار اللاجئين عبر الحدود خارج نيجيريا، لا يضمن لهم سلامتهم؛ ففي أكتوبر، تم استهداف قرية تحوّلت إلى مخيم للاجئين في دولة تشاد المجاورة بخمس تفجيرات انتحارية في يوم واحد، في هجوم وصفه المسؤولون بأنه انتقام من تشاد لتوفيرها الملاذ الآمن.
عمال الإغاثة يسعفون أحد ضحايا التفجير الانتحاري في مخيم ديكوا شمال نيجيريا
بالنسبة لما ينوف عن 2.5 مليون شخصًا نزحوا من ديارهم منذ عام 2013، توقظ استهدافات بوكو حرام لمخيمات اللاجئين شبحًا من الماضي كانوا يأملون بأنهم تخطّوه، بعد أن نجوا من حملات قتل بوكو حرام، التي شهدت إحراق طلاب المدارس وهم أحياء، تدمير القرى، وخطف الآلاف.
من بين هؤلاء اللاجئين، التقينا يوهانا وأسابي، أفضل صديقة ليوهانا في مخيم اللاجئين المكتظ في ولاية أداماوا بشمال شرق البلاد؛ فوسط آلاف الغرباء الذين يعيشون الآن جنبًا إلى جنب في مخيم اللاجئين، تصادقت الفتاتان بعد أن اكتشفتا بأن كليهما تيتمتا بسبب مسلحي بوكو حرام الذين حاولوا تجنيدهما على حد سواء أثناء أَسرهما، علمًا بأن يوهانا وأسابي طلبتا عدم الكشف عن إسم عائلتهما خوفًا على سلامتهما.
أسابي، بنت الـ19 ربيعًا، والتي تصيبها الدهشة باستمرار من الأصوات العالية، تكره النوم، وعندما تخلد إليه، تستيقظ وهي تصرخ، لذلك، تعمد يوهانا، التي تتمتع بابتسامة توزعها بسرعة على الجميع، إلى الجلوس بجوارها ناعسة أحيانًا، بحيث تعمد الصديقتان لتجديل شعر بعضهما البعض على ضوء هواتفهما المحمولة.
صعّدت بوكو حرام من إجرامها الدموي المستمر منذ سبع سنوات في ثلاث ولايات في شمال شرق نيجيريا من خلال اختطاف 276 فتاة في تشيبوك قبل عامين تقريبًا، ومنذ ذلك الحين، تعهدت الجماعة بالولاء لداعش، وأعلنت أنها سيطرت على محافظة واهايات، وفي مارس من العام الماضي، أعادت الجماعة تسمية نفسها باسم ولاية غرب أفريقيا التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية.
يشير المحللون والمسؤولون المطلعون بأن تعهد بوكو حرام بالولاء لداعش يسعى لتصوير حيازة الأخيرة لنفوذ عالمي، لأن هذا التعهد لا يُنجم أي أثر ملموس على الأرض بالنسبة لكلتا المجموعتين، ولكن داعش وبوكو حرام سويًا كانتا مسؤولتان عن نصف جميع الوفيات في العالم الناجمة عن أعمال الإرهاب في عام 2014، علمًا بأن المتشددين النيجيريين يعدون أكثر دموية وعنفًا من مرشديهم الروحيين في داعش.
بعد ثلاثة أشهر من السجن، اكتشفت يوهانا بأن المتمردين الأكثر دموية في العالم يعملون وفق نزواتهم وأهوائهم الشخصية إلى حد كبير على هواه، مما يُكذّب الصورة الدولية التي تحوزها الجماعة حول كونها قوة مقاتلة شرسة ومنظمة؛ فبعد نهب قرية إثر الأخرى من القرى التي تعول على زراعة الكفاف، كافح مقاتلو الجماعة لإطعام أنفسهم، وفي ظل انعدام قدرات بناء الدولة التي تحوزها بوكو حرام، انخفض الإنتاج الغذائي للمناطق التي تسيطر عليها إلى حد كبير، وهو ما يعني بأن القائد الذي كان يحاول استمالة يوهانا كان يجاهد لإطعام نفسه، ناهيك عن تأمين الطعام لأسيرته، بشكل يومي.
قبيل الانتخابات الرئاسية في نيسان عام 2015، شن الجيش النيجيري حملة على الجماعة، منتزعًا خلالها السيطرة على جزء كبير من الأراضي التي استولت عليها بوكو حرام، ومحررًا المئات من بين براثنها، ولكن كثيرين، كيوهانا تمامًا، تمكنوا من الفرار من تلقاء أنفسهم، نتيجة لطعيان عدد النساء في مخيمات الأدغال، المخابئ جبلية، أو المواقع النائية، التي تتخذها بوكو حرام مقرات لها.
الخوف، الترهيب، والاستعباد الجنسي هي السلع الأساسية التي تستخدمها بوكو حرام لاستمالة مجندينها، ولكن المقابلات التي أجراها موقع باز فيد مع المرأة التي كانت أسيرة من قِبل الجماعة، كشفت الأساليب التي يستخدمونها أيضًا للتقرب من ضحاياهم من الإناث، في الفترة التي شهدت ارتفاعًا كبيرًا في عدد الانتحاريات.
بعد حوالي شهر من اختطافها، تذكرت يوهانا قائد بوكو حرام وهو يتقرب منها، حيث كرر الرجل الذي يعتمر العمامة وعوده حول إمكانية طلبها لأي شيء تريده، لذلك اختارت يوهانا ما كانت تتوق إليه منذ لحظة اختطافه، هاتف خليوي للاتصال بوالدتها.
رفض آسرها الطلب، وبدلًا من تحقيقه، ربض على مقربة منها بحيث لمست البندقية الروسية التي كان يضعها على أكتافه بخصرها، وقال لها: “إنسي والدتك، بوكو حرام هي والدتك الآن”، قالت يوهانا لباز فيد، ومن ثم ابتسم القائد لها وسألها إن كانت ترغب ببعض المانجو بدلًا من ذلك,
كلامه كان عبارة عن عرض حلو المذاق لكسر رتابة العصيدة المائية التي تناولتها كل يوم على مدار الأسابيع الستة الماضية، وفعلًا، وبعد بضع ساعات، عاد إليها وقذف الفاكهة عند قدميها وقال: “أي شيء تريدينه، فقط قولي لبوكو حرام، وسنجلبها لكِ”.
وهكذا بدأ روتين بناء الثقة، وهو مفتاح تحويل ضحايا بوكو حرام فيما بعد إلى آلات إنسانية طيّعة.
في البداية، جلب لها آسرها، الذي تتذكر بأنه طويل القامة وذو بشرة فاتحة، ثمرة فواكه كل مساء تقريبًا؛ فأحيانًا كان يجلب لها المانجو، وأحيانًا أخرى البطيخ، وقد تكون هديته ثمرة أجبالمو، وهي نوع لاذع الحلاوة من الفواكة البذرية ينمو في جنوب نيجيريا، وفي إحدى المرات، جلب لها الثمرة المستوردة التي لا يأكلها سوء الأغنياء في نيجيريا: التفاح.
بعد كل هدية، كان الرجال يطلبون منها في بعض الأحيان طلباتهم الخاصة، حيث سألولها إن كانت ترغب في تعلم اللغة العربية حتى تتمكن من قراءة القرآن؟ أو ترغب بالزواج من مقاتل؟ أو إن كانت ترغب بالتحوّل إلى الإسلام؟
“لقد قالوا لي بأنني إذا وافقت على نطق الشهادتين”، قالت يوهانا وهم تتمتم بخوف بادٍ على وجهها عبارات التحوّل إلى الإسلام، وتابعت: “يمكنني حينها الانضمام لهم، وسوف أكون آمنة معهم”.
بعد أسابيع، باشرت الهدايا الأخرى بالوصول إليها، حيث تم إهداؤها لباس الحجاب الأسود، وبعد ذلك تم إعطاؤها قرآنًا أخضرًا منقوشًا، ومنذ هروبها، تحاول يوهانا نسيان آيات القرآن التي قرأتها بصوت عالٍ كل يوم، “لكنني لا أزال أُبقي القرآن معي” أضافت يوهانا بهدوء، وأطرقت برأسها حتى غطت الضفائر وجهها.
في البلاد التي يعيش بها 180 مليون شخصًا، يصعب للغاية التأكد من الجهة التي تحكم سيطرتها على جميع أنحاء الغابات الجافة في منطقة الساحل، وهي الحزام شبه القاحل الذي يحيط بجنوب الصحراء الكبرى؛ ففي بداية عام 2015، سيطرت بوكو حرام على قطعة من الأرض هناك يبلغ حجمها بحدود حجم بلجيكا، ولكن بحلول نهاية العام، استطاعت حملة الجيش النيجيري، المدعومة بقوات البلدان الأربعة المجاورة، استعادة معظم الأراضي التي زرعت فيها بوكو حرام علمها الأسود.
ولكن تمامًا كما عانت الولايات المتحدة في ذروة التمرد العراقي، تكافح الحكومة النيجيرية وجيرانها للتكيف مع التمرد الذي تحول من احتلال للأراضي إلى حرب العصابات وفي النهاية إلى سلسلة من التفجيرات الانتحارية، فضلًا عن أن فضائح الفساد في الصفوف النيجيرية العليا ساعدت على تآكل الروح المعنوية بين الجنود، في حين يتم التحقيق حاليًا في ادعاءات النهب المزعوم لمليارات الدولارات التي كانت مخصصة لشراء الأسلحة.
“لقد انخفض عدد الهجمات في المنطقة، نتيجة لانخفاض عدد الهجمات المسلحة من قِبل بوكو حرام، ولكن الزيادة في التفجيرات الانتحارية، التي قابلتها زيادة مماثلة في عدد الضحايا في كل هجوم، تشير إلى أن بوكو حرام تتمتع بالقدرة على إلحاق الخسائر اليوم تمامًا كما كانت عليه في ذروة احتلالها للأراضي” قال مالتي لايورشايت، المحلل الأمني في شركة الأمن فيرسك مابلكروفت التي يقع مقرها في لندن.
تمثلت ردة فعل مسلحي بوكوا حرام على تسرّب الأراضي من بين أيديهم بزيادة وحشيتهم في شظايا الأراضي التي يسيطرون عليها، ومن خلال المقابلات التي أجرتها باز فيد مع الهاربين والمسؤولين، استطاعت تأمين نافذة دقيقة لمعاينة الحياة في ظل المجموعة المتطرفة، والطريقة الفوضوية التي تدير بها المجموعة أمورها؛ وجنبًا إلى جنب مع حملات التجنيد العشوائي وحملات العقاب البدني العامة، تظهر المجموعة المجزأة وهي تكافح لفرض مجموعة متماسكة وموحدة من القواعد.
بالنسبة للمحاصرين في المعتقلات الدموية لبوكو حرام، تستبطن أمور الحياة الاعتيادية نقيضي البقاء على قيد الحياة أو الجنون، أو نقيضي الحياة والموت.
بالنسبة ليوهانا، أضحى الوعد اليومي بالفاكهة ترفًا، كما طوّر السكان الآخرون وسائل مختلفة للعثور على الحياة الطبيعية؛ فندرة الغذاء بشكل عام، مكّنت أحد الرجال، الذي يسمى عمر، من البقاء على قيد الحياة من خلال وعوده بإمداد المتمردين بالدجاج من مزرعته، كما أن امرأة اسمها ريجويس موناكو استخدمت إغراء الماء لإقناع المقاتلين الجوعى للسماح لها بالإفلات من قبضتهم.
مقاتلو بوكو حرام
حصلت باز فيد على تقرير سري مؤرخ في فبراير 2015 من أمن الدولة في نيجيريا، وهي وكالة الاستخبارات الداخلية الرئيسية في البلاد، حيث يرسم هذا التقرير صورة واقعية للمجموعة التي تفتقر حتى لقدرات بناء الدولة المحدودة التي تتمتع بها المجموعة العراقية- السورية التي تعهدت بالولاء لها.
كما يشير التقرير إلى شح المواد الغذائية التي يمتلكها أعضاء بوكو حرام، فأوراق روجون جيفي، وهي أوراق نباتية توجد في الأدغال، كانت الشيء الوحيد الذي ينكّه وجبتي الأرز التي يتناولها أعضاء المجموعة يوميًا، وفي بعض الأحيان، وإذا كان السكر متوافرًا، يحتسي المقاتلون بعضًا من الشاي في الصباح.
لعل أكثر الأمور دلالة وأهمية التي يشير إليها التقرير هي عدم وجود وحدة فكرية بين رجال المجموعة، حيث يصف التقرير كيف تعمل بوكو حرام في بيئة الغابات الصارخة التي تسيطر عليها اليوم، والنزاعات بين جنود مشاة المجموعة التي اندلعت مرارًا وتكرارًا، كما يلاحظ التقرير أيضًا التذمر المطّرد بين المتدربين والزعماء الروحيين داخل مخيمات الجماعة؛ ففي حالتين موثقتين، رفض أعضاء المجموعة أداء الصلاة بشكل جماعي، واختاروا القيام بها منفردين.
“يصعب عليك للغاية بناء دولة عندما تكون غالبية جيشك من الشباب الجائعين”، قال ليونيل رولينز، مستشار الأمن الحكومي لباز فيد.
تشير إحدى الأسيرات السابقات لدى المجموعة، ريجويس، بأن جهود بوكو حرام الرامية لكسب القرويين تعثّرت بسرعة في جولاك، وهي قرية أخرى في ولاية أداماوا اقتحمها المسلحون بشكل دوري؛ ففي أحد صباحات أواخر العام الماضي، قامت عصبة متشرذمة من الجماعة ترتدي أزياء شرطة مسروقة، بإقامة حواجز على الطرق الترابية للقرية التي تتخلل الأحراش، وبعد دخول المدينة، احتل أعضاء الجماعة بيوت القرية الأغلى ثمنًا، حيث استولى أمير المجموعة على منزل زعيم القرية السابق، في حين احتل الأعضاء الكبار الآخرون منزل اثنين من القساوسة ومنزل مذيع محلي، الذين فروا منذ فترة طويلة.
“عندما كانوا يلقون التحية علينا، كنا نرد عليهم تحيتهم، إنه شيء عادي” قالت ريجوس، 38 عامًا، وهي تهدهد طفلها الرضيع في ساحة عارية تصفها اليوم باسم المنزل، وتابعت قائلة: “لقد كانوا يقولون لنا: يا أماه، لا تهربي” في إشارة إلى المصطلح الشائع المستخدم للتودد للنساء المسنات، وأضافت: “الأشخاص الذين نبحث عنهم ليسوا من النساء”.
قام المسلحون بنصب حواجز على الطرق لجمع الضرائب، وفي بعض الأحيان كانوا يلوّحون للمارة للتوقف، وفي أحيان أخرى يطلقون النار بشكل عشوائي.
امرأة وطفل في مخيم للاجئين
لقد كانوا يوزعون البسكويت على الأطفال الصغار، وأكياس مسحوق الغسيل للنساء، وعندما اشتكى بعض المزارعين من عدم وجود ما يكفي من السكان لمواصلة الزراعة، أحضروا أكياس من الذرة والدخن ودفعوا للمطاحن ليقوموا بطحنها آليًا بدلًا من القيام بذلك بالجهد العضلي.
بعد ثلاثة أسابيع من ظهور أول نقطة تفتيش، تم الإمساك ببعض مقاتلي الجماعة الحديثين في حملة مداهمات، وحينها تمزّق التوازن الهش إربًا، ودارت إشاعات في بعد ظهر ذلك اليوم حول تخطيط الجيش النيجيري للهجوم على القرية، وحينها انتقم المسلحون من السكان المحليين لأنهم كانوا يعتقدون بأنهم استدعوا الجيش.
“إذا رأوا أحد الذكور، مهما كان سنه، فإنهم يختطفونه أو يقتلونه، سواء أكان مسلمًا أو مسيحيًا أو وثنيًا، إنهم لا يأبهون بالدين”، تذكرت ريجويس، علمًا بأن تعداد المدينة سجّل في وقت لاحق قتل حوالي 105 أشخاص في ذلك اليوم.
وعدت الجماعة بعدم إيذاء النساء، ولكنها منعتهن من الخروج بعد الساعة الرابعة عصرًا، كما كان التحول إلى دين الإسلام إلزاميًا، حتى المسلمين كان عليهم التحول للتفسير الوهابي للإسلام، ومع ذلك، استمر مسلحو بوكو حرام في محاولاتهم المشوّهة لاستقطاب السكان.
“في بعض الأحيان كانوا يجلبون للنساء بعض الصابون ويقولون لهنّ بأنهم إشتروه لأن أزواجهنّ ليسوا معهنّ، علمًا بأن الجماعة ذاتها هي من قتلت أولئك الأزواج”، قالت ريجويس وهي تهز رأسها بذهول، وتابعت: “ولكن في نهاية المطاف، قوضوا كلشيء، لأنهم لاحقوا النساء والرجال والأطفال، لاحقوا الجميع”.
قامت الجماعة بعد ذلك بنفي ما تبقى من النساء والأطفال، البالغ عددهم 50 شخصًا ونيف، للعيش في غرفة واحدة خانقة، حيث تم تسليمهم المصاحف والدلاء، ومن ثم تُركوا وحدهم لساعات طويلة، وكثيرًا ما كان يتم إخراج النساء للخارج للاغتصاب، ليعدن في وقت لاحق ويستلقين بعيون ميتة على عدد قليل من الفرشات القذرة.
“حينها كنت أظن بأنني سأفقد عقلي،” تذكرت ريجويس، ولكنهم تركوها، وقالوا لها بأنهم فعلوا ذلك لأنها لديها ولد صغير، علمًا بأن نجلها اسمه ديستني، ولكن رجال بوكو أصروا على إعادة تسميته بمصطفى.
أدركت ريجويس بأن عليها الهروب، وفعلًا، تحوّل الحظ ليكون حليفها.
مياه الأنابيب نادرة في معظم أنحاء نيجيريا، ومعظم الناس يعتمدون على شحنات الحاويات البلاستيكية التي يتجول بها بائعو المياه، وبعد ظهر أحد الأيام عندما سيقت النساء إلى الخارج لسماع الخطبة، بذل الخاطب المدجج بالسلاح جهدًا كبيرًا لإقناع النساء بأنهن الآن في الجنة، حيث قالت ريجويس مستذكرة: “لقد قالوا لنا بأن هذه هي المعركة الأخيرة المكتوبة في القرآن الكريم، وحتى في الكتاب المقدس بالنسبة للمسيحيين، وبعد انتهاء أزمة بوكو حرام، فإننا سوف نعيش جميعًا بسلام مرة أخرى”.
نظرت ريجويس حولها، ورأت مورّد المياه بين الحشد؛ فاقتربت منه بهدوء، “سألته، هل تريد أن نعيش كما كنا سابقًا؟ أن تكون قادرًا على تناول الطعام وكسب المال؟”، قالت ريجويس، وأضافت بأنها ذكرته بنظام تقنين المياه، بعد أن تم تسميم بعض الآبار في أعمال انتقامية، وهو المورد الوحيد الذي يعتمد عليه السكان للحصول على المياه.
وفي محادثة أخرى هُمست على عجل بعد بضعة أيام، أخبر بائع المياه ريجويس بأفضل طريقة للهروب، وفعلًا، خرجت ليلًا في الوقت الذي يُسمح فيه للنساء بالخروج إلى المرحاض، وحينها كان الجدار في الجزء الخلفي بدون حراسة.
لم تضيع ريجويس أي وقت في تلك الليلة، حيث ربطت ابنها بإحكام على ظهرها وتسللت خارجًا، ومع تسلقها للجدار، وصلت رائحة عفنة لأنفها، لقد كانت رائحة القبور الضحلة لقتلى الجماعة المقاتلة تحت قدميها، وحينها جاهدت لألا تقيّأ، وهربت راكضة من المكان.
قافلة من الجنود من النيجر وتشاد
إذا كانت الحياة رهيبة بالنسبة للنساء المستعبدات في الداخل، فإن الرجال الذين سُمح لهم بالتجول وفق شروط حرية نسبية لم يكونوا أفضل حالًا بكثير، حيث وجد سكان القرى التي استولت عليها بوكو حرام أنفسهم تحت حكم عهد وحشي؛ ففي قرية أداماوا النائية، حيث وُلد عمر قبل 42 عامًا، ذُبح جميع الرجال في يناير، ما عدا الطاعنين بالسن، “إذا كنت رجلًا مسنًا، فإنهم يجبرونك على التحوّل إلى الإسلام، ويراقبون تأديتك للفروض” قال عمر، الذي طلب أن يُعرّف باسمه الأول فقط.
ولكن عمر ابتدع وسيلة للحفاظ على حياته، حيث وعد مقاتلي بوكو بإمدادهم بالدجاج والبيض أسبوعيًا، “لقد كان هذا الخيار الوحيد، إما أن أقوم بذلك، أو أن أنضم إليهم” قال عمر، والد لثلاثة أطفال، أرسلهم منذ وقت طويل مع زوجته للعيش مع أقاربهم في العاصمة يولا.
“كانت القرية تبدو وكأنها مخصصة للنساء وكبار السن من الرجال، والشوارع كانت حكرًا على الرجال فقط”.
أوضح عمر بأن المسلحين كانوا يزورونه في كثير من الأحيان في مزرعته، يلقون التحية، وبعدها يأخذون البيض والدجاج، وأردف قائلاً: “الجميع كان يعيش على الحافة، والقواعد، التي كان يتم إعلانها خلال الاجتماعات في قصر الأمير، كان تتغير بشكل مستمر”.
في البداية، كانت مغادرة القرية جريمة يُعاقب عليها بالإعدام، وبعد بضعة أسابيع، أُجبر السكان على مباشرة استزراع الحقول المحيطة بالقرية، ووُجهوا لملء الصوامع الناضبة بالحبوب تحت المراقبة المسلحة، وحينها فر العشرات في أول يوم من تطبيق القرار.
أصدرت المجموعة قواعدًا توجب تزويج الفتيات اللواتي تزيد أعمارهن عن الـ18 عامًا لأحد أعضاء الجماعة، ولكن عندما تغيرت تلك القواعد لتشمل الفتيات اللواتي تزيد أعمارهن عن الـ13 عامًا، قرر عمر أن يغامر بالفرار، “لقد كانت الأوضاع تطرد سوءًا يوم يعد يوم”، قال عمر.
يبرز اتجاه جديد في كل حالة تقريبًا من حالات التفجيرات الانتحارية المنفذة من قِبل شخصين أو ثلاثة أشخاص خلال الـ12 شهرًا الماضية، يتمثل بفشل أحد الإرهابيين المحتملين في تفجير نفسه؛ ففي الأسبوع الماضي، تم الإبلاغ عن رفض إحدى الفتيات الانتحاريات الثلاث، اللواتي أُرسلن لتنفيذ تفجيرات في مخيم اللاجئين في ديكوا، لتفجير نفسها بعد أن علمت أن أسرتها كانت من بين اللاجئين في المخيم.
يقول المحللون بأن الأيديولوجيات المُعتنَقة يسهل التجرد منها أو كسرها بشكل كبير في الحالات التي تكون فيها الموارد شحيحة، “هذه المجموعة الإرهابية لا تملك الموارد، سواء المالية أو البشرية، لتلبية احتياجات الناس الذين يحاولون إخضاعهم” قال جيمس فورست، خبير في الإرهاب في جامعة ماساشوستس لويل لباز فيد، وأردف: “التناسق أمر مهم في جهود الاستمالة ليتم مطابقة الأقوال مع الأفعال؛ فعندما لا تتطابق تصرفات الجماعة أو الأفراد مع الوعود التي قُطعت، يضحي من الصعب بناء مستويات من الثقة والإكراه تعود بالنفع على الشخص أو الجماعة المُستميلة”.
النساء والأطفال ينتظرون وصول الطعام في مخيم ديكوا
عاينت يوهانا تلك النظرية بشكل مباشر، حيث أصبحت محاولة توفير الفواكه مهمة يصعب على خاطفيها الالتزام بها، وفي نهاية المطاف تراجعت عدد مرات تزويدها بالفواكه إلى مرة واحدة أو مرتين في الأسبوع، وسرعان ما أدركت بأنه حتى لو كان خاطفوها يحملون الهواتف، لا يوجد أي أمل لها بالتكلم مع والدتها لأن أبراج الهاتف المحلية دُمرت تمامًا.
لم يفكر أحد بتخزين الحبوب خلال موسم الحصاد، كما تم قتل معظم المزارعين ولاذ من تبقى منهم بالفرار، لذلك انخفضت وجبات الطعام لتصبح مرة واحدة في اليوم، وأقل من ذلك حتى، وحينها أصبحت المقاتلون هزيلين، ولم يعودوا يحرسون المحتجزين بشكل يقظ.
بدأت يوهانا، التي كانت قد حوّرت خوفها وغضبها لمتعة تلقي الفاكهة بين الحين والآخر، تشعر بأن قبضة رجال أصبحت واهنة يومًا تلو الآخر، وبعد ظهر أحد الأيام، إبان عودة المسلحين منهكين من معركة أكلت نصف من خرجوا ضمنها تقريبًا، هربت يوهانا من المخيم.
“عندما عادوا من المعركة، قالوا لنا بأن نعطيهم بعض الطعام، وبعد أن أنهوا الأكل، خلدوا جميعهم للنوم، وقبل أن يبتعدوا، كرروا التحذير المعتاد: إذا هربتم سنلحق بكم مجددًا، وإذا أمسكنا بكم، سنكسر أضلاعكم وساقيكم، ونترككم حيث أنتم”، قالت يوهانا.
ولكنها لم تعد تهتم؛ فالمصير الذي ينتظرها، أيًا كان، لا يمكن أن يكون أسوأ من وضعها الحالي، ومع حلول الغسق، تسللت يوهانا وستة فتيات أخريات خارج المخيم، وبعد بضع دقائق سيرًا على الأقدام ضمن الأدغال، توقفت ثلاثة من الفتيات، وقلن بأنهن لا يرغبن بالمخاطرة، وعدن إلى المخيم، وحينها تجمدت الفتيات المتبقيات لفترة طويلة مترددات في اتخاذ القرار.
“لقد كنت خائفة” قالت يوهانا، وتابعت: “لقد مرّت الكوابيس أمام عيني”.
بالمحصلة اتخذت الفتيات قرار متابعة الرحلة الشاقة ضمن الأحراش المفتوحة الطويلة، حيث تتناثر الصخور والثعابين تحت الأقدام، وأخيرًا، وبعد مسيرة بضعة أيام لا تتذكر عددها، وصلت يوهانا وصديقاتها إلى موبي، التي كانت عاصمة بوكو حرام ولكنها أصبحت اليوم تئن تحت وطأة تدفق الفارين من المجموعة منذ تحريرها.
هناك، شقت يوهانا طريقها إلى السوق، حيث كانت تعرف أحد أصداقاء والدها، وحينما التقاها، شرد في شكلها الرث، وعيونها الجاحظة والمندهشة؛ فبعد أشهر قضتها بطعام بالكاد يسد الرمق، ونتيجة لمضي أيام دون أن تستحم، فضلًا عن الندوب التي اكتسبتها خلال رحلتها على ذراعيها وساقيها، والتي لازلت واضحة حتى الآن، لم يكن من الممكن على صديق والدها أن يتعرف عليها مباشرة.
“هل هذا أنتِ حقًا؟”، قال الرجل، “نعم هذا أنا”، أجابت.
لم يكن صديق والدها مقتنعًا بذلك، وسار معها مرتعشًا إلى منزل لزوجته، “هل هذه يوهانا”، سأل الرجل زوجته، وحينها أجهشت الزوجة بالبكاء وقالت: “نعم، إنها هي”.
المصدر: باز فيد