كثرت الدروس والعبر مقارنة بأعمار لم تبدأ عقدها الثالث بعد، حيث كانت التجربة أعمق من أن نستوعبها بكل تفاصيلها ودروسها، وكانت أعقد من أن نسطحها، لكن إن كان من درسٍ ينبغي الخروج به من هذه التجربة وترسيخه في الأذهان والنفوس فهو “أنه لا أحد فوق المحاسبة”، لا أحد يحتكر الحق المطلق ولا يملك أحدهم الحقيقة الكاملة، ولم يُخلق بعد أيضًا من يحتكر صكوك التقييم دون أن يخضع هو بذاته قبل غيره للتقييم، وأنه لا يوجد ما يسمى بضمير الثورة سوى في أوهام الحالمين، وبشكل واضح لا يجب أن تعطى العصمة لكائن من كان، لا مصابي الثورة وذويهم ولا المعتقلين ولا أهالي الشهداء ولا أيًا من تعرض لظلم أو قهر.
فأبطال اليوم قد يكونون أوغاد الغد، وقادة اللحظة وزعماؤها قد يمحون بين عشية وضحاها تاريخهم ويدهسونه تحت أحذيتهم، كذلك الذين أصابهم الظلم والبطش، فإن ما تعرضوا له لا يعطيهم أي ميزة فوق سائر البشر ولا يعطيهم الحق في أن يكونوا قادة يوجهون ويتحكمون ويعطون الأوامر والتكليفات، لأنهم ببساطة ما زالوا بشر يخطئون ويصيبون ولأن عاطفتهم قد تغلب عليهم وتحركهم بدلًا من عقولهم، بالطبع مقامهم محفوظ بالطبع وتضحياتهم محفورة في التاريخ لكن لا يجب أن يضخموا ويصبحوا فوق المحاسبة أو أن يتم صبغهم بصبغة أولياء الله الصالحين الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم.
كانت هذه المقدمة ضرورية، لأنه إذا كان هؤلاء العظماء ليسوا فوق المحاسبة، فإن “الكوميديان” الثوريّ العظيم لا يمتلك أيًا من كل ما سبق.
“It is not a coup“
أتذكر حين خرج علينا الكوميديان مدعي الفهم والحكمة صاحب البصيرة النافذة ومن خلفه مُريديه يوم الانقلاب العسكري ليؤكدوا أن ما حدث “ثورة” وأنه لا انقلاب عسكري قد حدث سوى في خيالات الإسلاميين المريضة وأن الرئيس الأسبق وجماعته قد اختطفوا البلاد والعباد رهائن وأنه ها هو الجيش قد أعادها لنا بعد أن ثار الشعب مرةً أخرى على الظلم والطغيان.
ولم يكتف بتزييف الحقائق الفجّ هذا وعرض صورة واحدة للمشهد، بل تمادى حتى وصل به إلى الأمر أن يقول يوم “مقتلة” الحرس الجمهوري والتي راح ضحيتها أكثر من سبعين شهيدًا، بأن قادة جماعة الإخوان المسلمين يرسلون شبابهم ليقتلوا ثم يتاجرون بدمائهم، في موقف أبعد ما يكون عن العقلانية وكأن هؤلاء الشباب مسلوبي الإرادة وعبارة عن دمى يحركها آخرون، وموقف معادٍ لأبسط قواعد الإنسانية التي تحترم النفس البشرية وتعظم من حرمة الدماء المراقة التي لطالما نادى بعصمتها السيد البهلوان، لكن دون التعمق في هذين الموقفين وبعيدًا عن مغالطاته وانعدام المروءة في أقواله تلك، التي كان يمكنني فهمها في ظل حالة الهستيريا والجنون وحفلات القتل الجماعي التي كانت تقوم بها الدولة برعاية من شرائح مجتمعية كبيرة وتأييد يتدرج من الصمت حتى المشاركة في عمليات القتل في ذلك الوقت، وأن الراقص على الحبال لم يكن واعيًا أكثر من الجموع المساقة التي تم شحنها وملئ نفوسها بالكراهية والغضب، ورغم أن انسياقه ذلك يفقده أهلية التصدر والتقديم باعتباره رمزً ثوريًا أو الحديث عن الحقوق والحريات المنتهكة إلا أننا سنتجاوز ذلك الآن.
مرت شهور قليلة حتى يعود السيد إلى واجهة الأحداث مرة أخرى، عاد ليطل علينا مرة أخرى عبر الشاشة الكبيرة، حينها توسم الكثيرون فيه الخير وأنه لن يبرر للسلطة بالطبع ما فعلته من عمليات قتل وتنكيل في الشوارع على مرأى ومسمع من العالم أجمع في الرابع عشر من أغسطس وما تلاه من أحداث، وأن الثوريّ الذي بداخله سيظهر وينتصر للحق والعدالة والإنسانية مهما كان اختلافه مع الطرف المقتول، لكن المهرج خيب آمال محبيه ومنتظريه، حيث قرر أن يختزل كل ما حدث في مونولوج سخيف، يشبه مواقفه كثيرًا، حيث قال:
“السيسي طرقع بيان، قرر يفشخ الإخوان … السيسي لعبها صح والإخوان ابتدوا بالدح”.
هكذا وبكل بساطة وسطحية قرر توصيف ما حدث من مجازر وقتل وإغلاق للمجال العام وتكميم للأفواه واعتقالات عشوائية وأخرى ممنهجة، بالطبع له كل الحق في توصيفاته واختيار كلماته بهذه الطريقة ككوميديان يحاول أن يكون خفيف الظل يراعي “أكل عيشه” وينافق السلطة بشكل ذكيّ ويقدم السبت حتى يحصل على الأحد.
لكن لم يعد مقبولًا أن يطل علينا بعد ذلك بوجهه الثوريّ العفيّ، منتقدًا هذا ورافعًا من شأن ذاك، وعليه الاكتفاء بأكل العيش في صمت.
…….
في لحظة انتصار عابرة غير مفهومة، في ذكرى الثورة الخامسة، ظهر على السطح وفي كل القنوات التلفزيونية اسم “شادي أبو زيد”، الفتى الذي قام بتقديم أوقية ذكرية على شكل بلالين للمجندين في ميدان التحرير، فيما اعتبرته الدولة فعلًا مشينًا مخالف للقانون وللأعراف المجتمعية، لكن ما يهمني هنا هو شادي ذاته، شادي ليس ذلك الفتى المحبط الفاشل الذي ليس لديه ما يفعله بعد انكسار الثورة في هذه الجولة، شادي كان يعمل كمراسل في برنامج “أبلة فاهيتا” الكوميدي، وبعد وقت قصير من عمله ذاع صيته وصار لديه من الشهرة ما يجعل وجهه مألوفًا للمارة عندما يسير في الشوارع، وأعتقد أن راتبه لم يكن سيئًا ففي أسوأ الأحوال صار يكفي معاشه، صار لديه أيضًا علاقات جيدة تستطيع إخراجه من تحت قبضة يد أمين شرطة إذا ما حاول تفتيشه في بعض الأموال.
إذن، لا شيء يضطر شادي أن يقدم على مقامرة كهذه، على الأقل عند وزن الأمور بالميزان الطبيعيّ، لكن شادي قام بوزن الأمور بميزانه الخاص فوجد أن كل ما سبق لا يساوي ما يستحق أن يُقلق بشأنه بجوار ما يؤمن به، وإن كانت ما يؤمن به هو “المسخرة من أجل المسخرة”، حيث لا أحد فوق الاستهزاء، الدولة بداية من رأسها نزولًا إلى مخبريها، وإعلامها وإعلامييها، وقضائها وقضاتها، وشخصياتها العامة وأحزابها، كلهم خاضعون للسخرية والتنكيل والاستهزاء بسبب أو دون سبب.
كان يعلم شادي أن هذا الفيديو هو الأخير له، حيث كتب شادي قبل نشر الفيديو على صفحته الشخصية أن هذا هو المقطع المصور الأخير له، ولم تخيب الدولة راعية الأخلاق الحميدة ظنه، وتم فصله من عمله والتشهير به إعلاميًا والتحريض ضده وضد أسرته.
بالعودة قليلًا إلى الوراء، نرى أن شادي لم يكن يومًا من مؤيدي مرسي ولم يعتصم في رابعة أو النهضة، لكنه كان له موقف واضح يوم قتل الناس، يوم رأى الجثث كالأكوام ملقاة في المساجد والمشارح، رفض ما حدث، لم تقبل نفسه أن يفرح انتصارًا لرأيه على حساب آخرين يبكون أحبائهم ويودعونهم الوداع الأخير.
شادي لم يهرب بعد استعار نار دولة ونظام أتيا على حساب نظام فرح هو بسقوطه، شادي لم يزايد على أحد، شادي لم يخرج لأناس مصابهم جلل ليقول لهم: متقرفوناش.
هذا هو الفرق تحديدًا بين من هو منا مهما كان بيننا من اختلافات ومن هو منهم وإن لم تتح له الفرصة كاملة ليثبت ولاءه، هنا تتضح الحدود جليًا بين آكلي العيش على كل الموائد المتاحة وبين من له موقف في هذه الحياة.
“أي تشابه بين المحتوى والواقع فهو من قبيل الصدفة، وغير مقصود”.