بينما تتواصل عمليات تحرير المناطق التي يسطر عليها تنظيم داعش، ثمة قلق وشكوك حول إمكانية عودة الأمن والاستقرار واستئناف حركة الحياة الاقتصادية والخدمية والإدارية بشكل يلبي الحاجات الإساسية لمعيشة العوائل بعد عودتها إلى هذه المناطق، هذه الشكوك نابعة من الدمار الكبير الذي حل بالبنى التحتية، والنزوح الجماعي الذي أفرغ هذه المناطق ديمغرافيًا وتركها فريسة لأي مشروع يستهدف إعادة تشكيلها سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، وما يترتب على ذلك من تبعات قد تؤدي إلى خلق أشكال أخرى من النزاعات التي قد تستنزف ما تبقى من المخزون البشري فضلاً عن إعاقة عودة النازحين.
مخاوف كثيرة تصاحب العمليات العسكرية التي يشترك فيها أطراف عديدة رسمية وشعبية، وطنية وأجنبية، من أبناء المناطق وخارجها، هذه الأطراف غير المتجانسة من المحتمل أن تتسبب في نزاعات قد تصل حد استخدام السلاح كما حصل في أكثر من منطقة من المناطق المحررة، النزاعات يمكن أن تنشأ نتيجة الخلافات حول مسك الأراضي المحررة وإدارتها وحمايتها، أو نتيجة تشكل مراكز قوى جديدة خارج سيطرة الحكومة تحاول الهيمنة على مراكز صنع القرار وقد تلجأ لاستخدام السلاح، أيًا كان مصدر النزاع فإنه سيزج بأعداد كبيرة من أبناء المناطق المحررة في الاحتراب ويجبر أعداد أكبر منهم على الهروب خارج البلد، ويهدر المورد الأهم في إعادة الإعمار والبناء، حيث لا يمكن لأي رأس مال وطنيًا كان أو أجنبيًا أن يعيد إعمار البلد من دون أبنائها وكفاءاتها.
إعادة الإعمار بحد ذاتها عملية يكتنفها الغموض والتعقيد وتكاد تكون معضلة مستعصية تحول دون عودة الحياة للمناطق المدمرة كما في الرمادي، فإن كان الجيش وقوات التحالف الدولي والحشود الشعبية والعشائرية قد قامت بعمليات التحرير، فمن المسؤول عن عمليات الإعمار؟ هل الحكومة المحلية؟ أم حكومة المركز؟ أم المجتمع الدولي؟
أيًا كان الطرف الذي سيتعهد بالأمر، لا بد من الكوادر البشرية التي تباشر تنفيذ الإعمار تخطيطا وإدارة وتنفيذا، فمن أين سيؤتى بهذه الكوادر إذا كانت المناطق قد أفرغت من سكانها الذين ينتظرون إعمار مناطقهم كي يتمكنوا من العودة إليها؟ إنها حلقة مفرغة لن تنتج إلا عن تفاقم معاناة الأهالي المشردين ورفع وتيرة اليأس وفقدان الثقة وتعميق النزاعات والخلافات بين السلطات الرسمية والتشكيلات الشعبية، أما الجهات الدولية فلن يسعها إلا أن تنتظر اتضاح المسار الذي يمكن لها أن تقدم الدعم والاسناد المادي من خلاله، واتضاح الجهات المسؤولة عن تلقي الدعم ومدى كفاءتها ومصداقيتها في تنفيذ الإعمار، وبخلاف ذلك لن يقدم أي طرف أو أي دولة على مد يد العون خشية أن يذهب الدعم والإسناد المادي أدراج رياح الفساد والمفسدين.
إنه تحد بكل ما تعنيه الكلمة وربما يفوق في صعوبته عملية التحرير ذاتها، وإذا كان التحرير بدأ بإرادة دولية ونفذ بالتنسيق مع السلطات المحلية، فإن الإعمار لا يمكن أن يبدأ إلا بإرادة محلية ومن ثم يكون التنسيق مع الأطراف الخارجية سواء مع الحكومة المركزية أو مع الدول والمنظمات الدولية، هذه الإرادة ينبغي أن تترجم على الواقع بشكل خطط وبرامج وآليات تنفيذ وجهات مسؤولة وموارد بشرية مهيئة، فهل ثمة فرص وموارد يمكن البدء منها؟ حتمًا هناك الملايين من المتلهفين للعودة إلى ديارهم هؤلاء يمكن أن يكونوا مصدرًا رئيسًا للموارد البشرية المستعدة للعمل المدني ولو تطوعًا، فضلاً عن وجود جيش من الموظفين الحكومين الذين ما زالوا يتقاضون رواتبهم، والذين بالإمكان استثمارهم في تنفيذ برامج إعادة الإعمار وتأمين الخدمات الأساسية.
التحدي الذي يواجهه هذا الجيش من المتطوعين أو الموظفين هو نقص الخبرة لكيفية العمل في أوقات الأزمات، فضلاً عن حاجتهم لمن يديرهم ويوجههم، هذه الخبرة لا يمكن اكتسابها بين يوم وليلة، وعند الحاجة إلى هذه الجهود لن يكون ثمة متسع لتوجيههم وتدريبهم إنما ستدار الأمور بشكل عفوي وربما فوضوي.
المشكلة اليوم أن الإدارات المحلية منهمكة في سيناريوهات عملية التحرير إلى الحد الذي تتعدى فيه حدود الرقابة والتنسيق مع القيادات العسكرية إلى محاولة التدخل المباشر في الإدارة والتخطيط للعمليات القتالية، متجاهلة مسؤولياتها الرئيسية في رسم خطط وبرامج إعادة الحياة إلى هذه المناطق وتأمين الخدمات الضرورية، ورسم خطط وسيناريوهات لكيفية التعامل مع النقص الحاد في الطواقم المطلوبة والمواد الأساسية، لاسيما في ظل توقع حدوث أضرار وخسائر مادية وبشرية خلال عمليات التحرير والحاجة الملحة للجهد الإغاثي لإنقاذ أرواح العوائل التي ما زالت تقطن هذه المناطق.
هذا التجاهل لأهمية إعداد خطط وبرامج إعادة الاستقرار للمناطق المحررة من قِبل الإدارات المحلية سوف يزيد من السخط الشعبي عليها ويفسح المجال لمن يسعون لاستغلال فشل الحكومات المحلية في تعبئة الرأي العام للعمل على إسقاطها وربما يتحول الأمر إلى نزاع مسلح لاسيما في ظل وجود تشكيلات شعبية مسلحة يمكن بسهولة أن تخرج عن سيطرة الحكومة، ولن يقف عندئذ الأمر عند حدود إسقاط الحكومة وإنما قد يتحول إلى نزاع أهلي مسلح يعمق من معاناة هذه المناطق ويزيد من هجرة أبنائها ويؤخر عودة النازحين والمهاجرين خارج البلد.
إن التعبئة والتحشيد للجهد المدني المطلوب ما بعد التحرير لا يقل إن لم نقل يفوق أهمية التعبئة والتحشيد لعملية التحرير ذاتها، وبإمكان هذا الحشد المدني أن يسع من لم يسعه الحشد العسكري، وأن يوجه طاقات الشباب نحو الأنشطة المدنية البناءة التي تعزز خبراتهم وتصرفهم عن الانجرار في أي نزاع مسلح، بل إن الحشد المدني سيكون الملاذ لمن انخرط في الحشد العسكري بعد انتهاء العمليات القتالية، كما أن وجود جهة مدنية منظمة مسؤولة تقوم بمهام إعادة الاستقرار وتسهيل عودة النازحين سوف يسهل عمل المنظمات الدولية في تقديم الدعم والإسناد المادي، ويطمئنها على سلامة توزيع المساعدات المقدمة في المجالات المناسبة، بل إن من مهام هذه الجهة المدنية تقييم واقع المناطق المحررة وتقدير احتياجاتها وتزويد الجهات الدولية بالبيانات حول الاحتياجات المطلوب تأمينها، وأخيرًا فإن الحشد المدني هو ممارسة ضرورية للخروج من أجواء الحرب والقتال وتهيئة الأجواء المناسبة لاستئناف الأنشطة المدنية في مختلف المجالات، حيث يمكن بعد ذلك البدء ببرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تحتاجها المناطق المحررة بشكل ملح.