لم يعد حال الشعوب العربية حال الذي يريد أن يبقى على قيد الحياة، بل أصبح حال الذي يريد أن يبقى على قيد الأمل، بعد أن تحولت الثورات إلى ثرثرات، وتحولت العزة ورفض الخنوع إلى ذل وقابلية خضوع، وتحول سلاح الإيمان الذي نُرهِب به الأعداء، إلى وشاح نلبسه ونخلعه حسب الأجواء.
وبعد أن صرنا غثاءً كغثاء السيل تصرفنا سياسات الدول العظمى إلى حيث تشاء.
كفانا ضحكًا على العقول بكتابات نقدية، وخطابات تقليدية، وكأننا في سوق الكلام، نبيع الكلمات بمزيد من الأصوات، الكل يريد أن يحظ بما تلذ الأطماع، بما يلقي على الأسماع.
وأمام كل ذلك نجد الشباب في ضلال مبين، لا يرى إلا ما يسمع، داخل زوبعة التُّبَّع، فأصحاب اليمين أخذ منهم كل يمين، وأصحاب اليسار ذهب معهم إلى كل مسار، وما زاد الأمر سوءًا هو ما صنعه الأذكياء الأقوياء لهاته الشعوب المستضعفة من فضاءات، فصار يكفيها أن تجد صفحات للفيسبوك وتويتر لتخوض عليها المعارك، فتفوز بعدد الإعجابات، ويبلغ نصرها الآفاق بكثرة التعليقات، وكأنها بذلك تقيم جمهوريات.
قوموا من سباتكم يرحمكم الله، فليس هكذا نعد لأعدائنا، التمكين ليس اجتماعات على الصفحات، التمكين رباطة مفكر يُذهِب بقوة رشده عقولاً بأسها خلف عسكر، فإن كنتم ترفضون الواقع، فأين هي الخطوب والوقائع؟ ونحن أمام م ايُصنَع بنا نتدافع، ولا نملك حتى أن ندافع، ولا نملك آليات التفكير التي ننال بها التغيير، واعتقدنا أنّ الوعي الناضج هو ذاك الرفض والنقد لكل شيء.
فمن قَبل لم تعجبنا سياسة إيران،وقلنا إنهم شيعة، وأحدثنا معهم القطيعة، ثم لم تعجبنا سياسة تركيا، وقلنا هؤلاء سنة متشددين، فانقسمنا عنها متحدين، والآن لم ترُق لنا سياسة الديكتاتوريين، فرُحنا فرِحين نسقط رؤوس الحكام، وكأننا نسقط رؤوس الأصنام، غير مدركين أنّ الخطأ أبدًا ليس في الحكام، بل في الشعوب التي راحت لهم على الكراسي تقيم، من غير أن تفهم السياسة التي بها الحكم سيستقيم، كمن يمنح المتنافس الجائزة قبل فوزه، ويمنح الأجير أجره قبل عمله.
ولم نتساءل يومًا، أهاته هي السبيل حقًا للتغيير؟ وهل يكفي أن نغيّرالحكام؟ وهل أنظمة الحكم في بلداننا لا تحتاج إلى تغيير؟ ولماذا لا نجعل للحاكم اختبارات تسبق الحكم كما نجعلها لمن سيقود سيارة؟ فهل قيادة سيارة أعظم من قيادة دولة؟ ولماذا لا نؤسس دساتير بأنظمة جديدة؟ ولماذا دومًا ننتظر في ذلك الاستفتاء ولا نكون نحن أهل الإفتاء؟
إنها أسئلة للأسف لم يسبق وطرِحَت، ليس لأنها غير منطقية، بل لأننا تعودنا حتى في التفكير على النمطية.
فكم هو جيد ما قامت به إيران من ثورة على الدستور، وإن فاز حينها الليبراليون، إنما جعلت من يدّعي الإسلاميون ينهضون فيفتكون منهم الحكم من جديد، بالثورة التي تُدعى إسلامية، هو الأمر المختلف الذي صهر كل مختلِف تحت هوية واحدة، حتى إنّ المرشد قبل الانتخابات الرئاسية قال: “إذا لم يعجبكم النظام، فاذهبوا وصوّتوا لأجل إيران”، فاجتمع الجميع تحت مظلة واحدة وكلمة سواء، بغض النظر عن صواب ذلك أو خطئه، وبغض النظر عن صلاح أو فساد الحكم، إنما تلكم هي الثورات التي ينبغي أن تقام، وليس هتافات برحيل رئيس، ومجئ إبليس، وكأن هاته الشعوب باتت تهوى الرقص على حافة البراكين.
فكم هو رائع ما قاله روبرت ميشلز في كتابه “الأحزاب السياسية ” حين قال: “عندما يتقلد القادة مراكز القوة يصبحون جزءًا مكملا للصفوة، وبذلك تصبح مصالحهم متعارضة مع مصالح الجماهير، لأنهم في هذه الحالة يعملون على تدعيم أوضاعهم، وبتعودهم على ممارسة السلطة فنفسيًا يصعب عليهم التخلي عنها لمبالغته في عظمة نفسه”.
أجل نحن بحاجة لفهم تلك السيكولوجيات قبل أن نفهم السياسات، فمن سيكون البديل من الحكام لن يختلف بالشكل الكثير والمثير الذي نتصوره، لأنّ الإنسان سلطوي بطبعه، بعدها علينا أن نفهم أن القوة ليست متجدّرة ومتأصلة في الحاكم حتى تقام الدولة، بل هي في المؤسسات، فكما يقول مارك فيبر: “القوة هي مجموعة بشرية تنجح في دعوى حقها بالاستعمال المشروع للقوة الحسية في نطاق جغرافي معين”.
فلنغير بوصلة التفكير من تغيير الحاكم والدساتير إلى تغيير أنظمة الحكم، فما يحدث في العالم اليوم للدول العربية، هو هذا التخبط في المفاهيم والضبابية في الرؤية، التي تجعلنا نميل إلى حيث مراكز القوة لدى غيرنا، غير مدركين أننا نملك أضعاف ما يملكون من قوة وتمكين، إنما نحن كمرآة رأت الجميع إلا ذاتها.
فبناء الدولة فن إن لم نكن نتقنه فلنتعلمه، فكما يقول فرانسيس فوكوياما أستاذ الاقتصاد السياسي: “فن بناء الدولة هو المكون الرئيسي للسلطة القومية، وهو مهم تمامًا كأهمية القدرة على نشر القوات العسكرية التقليدية من أجل المحافظة على النظام في العالم”.
فإن أرادت هاته الشعوب أن تكفكف الدموع، فلتَكُف لغيرها عن التبعية، الانبهار والخضوع.