عانى أهالي النوبة في جنوب مصر طوال عهود من إرث التجاهل والتهميش والعنصرية في كثير من الأحيان من قبل السلطات المصرية المتعاقبة، وهو ما هدد مجتمعهم الذي كاد أن يفقد ثقافته الخاصة وهويته بعد إجباره على التفكك والتحلل باسم المصلحة العامة التي تذرعت بها الحكومات المصرية على مر العصور، مما أنشئ مأساة جديدة لدى قطاع من المصريين تحت اسم “القضية النوبية”.
يُطالب النوبيون بحقوقهم التاريخية وهي توطنيهم على أراضيهم مرة أخرى بعد مرور أكثر من نصف قرن على ما سمي بتحويل مجرى نهر النيل لبناء السد العالي في أسوان، حيث كان هذا السبب الرئيسي في تهجير الآلاف منهم وإغراق أراضيهم ومنازلهم منذ بداية المشروع في عام 1963حتى 1964 مع تحويل مجرى النهر وإنشاء بحيرة ناصر التي يُطالب النوبيون بحقوقهم في الأراضي التي حولها.
ولم تكن هذه السابقة هي الأولى من نوعها ولكنها كانت الأضخم في تاريخ النوبة، إذ تم تهجيرهم قبل هذا التاريخ أربعة مرات منذ 1898، 1902، 1912، 1934، وكان التهجير تحت مزاعم بناء وتعلية خزان أسوان بنفس الذريعة وهي المنفعة العامة دون تعويض.
انتزعت أراضي النوبيين حينها باسم المصلحة العامة ولم توفر لهم البدائل المناسبة حتى تفككت مجتمعات بأكملها بين ربوع مصر، ناهيك عن واقع التهمييش والإهمال الحكومي الذي يُسيطر على الحياة في جنوب مصر.
ناضل النوبيون طوال هذه السنوات لانتزاع حقوقهم حتى تم تصعيد القضية بشكل دولي إبان عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك في 2005 حين بدء الحديث عن حق عودة النوبيين إلى بيئتهم الأصلية على أراضيهم التي هُجروا منهم قسريًا في السابق في مؤتمرات خارج مصر، بالإضافة إلى تصاعد نبرة التطهير والعنصرية ضد النوبيين.
الحلول السلطوية للقضية النوبية كانت دائمًا مبتورة وغير واقعية بالمرة، ففي الوقت الذي بني فيه السد العالي لمواجهة مشاكل مصر المائية ولتوفير الطاقة الكهربائية، لم تكترث الدولة بحال قرى النوبة التي كان يعيش فيها بشر على مساحات تتعدى 75 ألف فدان على ضفاف النيل.
وبعد بناء السد عالجت الدولة القضية بوعود تسكين أهالي النوبة في قرى جديدة ولكنها أبعد ما تكون عن بيئتهم، لتنقلهم الحكومة إلى الصحراء دون توفير البنية الأساسية للحياة، وهو ما تسبب في شعور الحنق لدى أهل النوبة الذين شعروا بالغدر من جانب الدولة التي حاولت طى صفحتهم من التاريخ.
يتحدث نُشطاء من أهالي النوبة عن مشاكلهم مع الدولة المصرية والتي لا يحصروها في قضية التهجير القسري فقط، ولكنهم أكدوا أن مشروع السد العالي وبحيرة ناصر عاد بالضرر على فئات من النوبة بأراضيها التي أُغرقت حتى وادي حلفا وجبال النوبة في السودان دون أي تعويض من الدولة.
رد فعل الدولة على هذه المطالب المتعلقة بحق العودة والتعويضات المناسبة والمطالب الاجتماعية الأخرى التي يحملها أهل النوبة، كان التجاهل وفي حالة التصعيد كانت ترفع الدولة دائمًا شعار المواجهة الأمنية تحت ذرائع المطالب الانفصالية لفض الجماهير من حول القضية النوبية بوصفها قضية انفصالية.
ظلت القضية النوبية ضحية الإهمال الإعلامي والتآمر بين الدولة وجهات تتدعي أنها تمثل أهالي النوبة زورًا، ولكن ظل النشطاء من أهالي النوبة حريصون على إثارة قضيتهم كل حين وآخر حتى لا تخمد جذوتها، وبالفعل نجحوا في انتزاع اعتراف من الدولة بحق العودة في الدستور الذي أُقر عقب الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو 2013.
حيث نصت المادة 236 من دستور 2014، على أن “الدولة تكفل وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلى، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وأن تعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات”.
حيث كانت الخطوة الرسمية الأولى في تاريخ القضية النوبية التي تعترف بحزمة من حقوقهم على رأسها السماح بعودة النوبيين إلى مواطنهم الأصلية في غضون عشر سنوات، تقام خلالها البنى التحتية اللازمة.
كم نص الدستور على حقوق التنمية للمناطق النائية واحترام التعددية الثقافية لأهالي النوبة، كما جرم العنصرية على أساس اللون أو العرق، كأحد المطالب الاجتماعية للنوبيين.
هذه الخطوة التي فرح بها النوبيون كثيرًا لم تدم، فوقت التنفيذ تدخلت الآلة العسكرية الحاكمة في القضية النوبية وأصدرت قرارًا عسكريًا ينهي حلم العودة لدى أهالي النوبة.
القرار 444
فوجئ النوبيون بالقرار الجمهوري الذي يحمل رقم 444 المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 29 نوفمبر 2014 يقضي باعتبار 16 قرية نوبية كأراض حدودية عسكرية وذلك من أصل 44 قرية إلى جانب قرى الشلال.
القرى التي عني بها القرار تقع من امتداد قرية العلاقي شمالًا إلى أدندان جنوبًا. بمعنى أن كل هذه الأراضي بطول 110 كيلو متر شرق بحيرة السد و25 كليو متر غرب بحيرة السد، ستعتبر أرضًا عسكرية حدودية لا يحق لأحد استخدامها باعتبارها خاضعة لسلطة القوات المسلحة المصرية، وقد تزامن هذا مع تشكيل لجنة إعداد مشروع إعمار وتنمية النوبة.
أي أن القرار يضرب بوعود الدستور الجديد عرض الحائط، كما يعني تغول الجيش على مساحة شاسعة كهذه باعتبارها منطقة حدودية رغم عدم الحاجة الأمنية لكل هذه الأراضي علمًا بأن المناطق الحدودية بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي لا تتخطي 5 كيلو مترات، وهو ما يعني حرمان أهالي 16 قرية من العودة إلى موطنهم للأبد.
تصعيد نوبي
ردًا على هذا القرار صعد النوبيون من حملاتهم الاحتجاجية ضد الدولة منذ صدور القرار وحتى اليوم داعين إلى وقف سلب أراضيهم تحت دعاوى المصلحة العامة تارة وتحت دعاوى الأمن القومي تارة أخرى.
حيث نظم النشطاء النوبيون العديد من الوقفات الاحتجاجية الرافضة للقرار 444، كان آخرها ، وقفة صامتة أمام ساحة معبد أبو سمبل، جنوبي مصر، صباح 22 فبراير الماضي، ضد القرار المتعلق بإهدار حق عودة النوبيين إلى أراضيهم، مستغلين وجود عدد من الوفود الحكومية والأجنبية التي جاءت لمشاهدة ظاهرة تعامد الشمس على معبد رمسيس، وذلك ردًا على مناقشة القانون في مجلس النواب والموافقة عليه.
هذا وقد أصدر الاتحاد العام لأبناء النوبة، بيانًا رسميًا قال فيه: “إذا لم يستجب البرلمان لمناقشة القانون 444 مجددًا، سوف نقوم بإجراءات تصعيدية دولية، ومخاطبة المجتمع الدولي لاسترداد حقوقنا التاريخية”، فيما نظم الاتحاد مع الأهالي عدة وقفات أخرى احتجاجية، أمام مبنى الاتحاد النوبي في أسوان، وفي مركز نصر النوبة.
كما أصدر الاتحاد حملة توقيعات أكد أنها استكمالًا للتصعيد السلمي ضد الانتهاكات التي تقع علي الأراضي النوبية المصرية بموجب القرار 444 لسنة 2014، وقد تم إقرار البدء في حملة جمع مائة ألف توقيع من أجل إلغاء القرار 444 و سرعة تطبيق المادة 236 من الدستور خلال 30 يومًا، وقد أكد الاتحاد في حملته أن التوقيع ليس قاصرًا على النوبيين بل يشمل كل مصري مؤمن بحقوق أهالي النوبة.
اشتباكات مع الجيش
وعلى إثر هذه التوترات مع الدولة نشبت اشتباكات بين أهالي قرية “غرب سهيل” النوبية وبعض من عناصر قوات الجيش المتواجدة في منطقة كوبري الخزان ناحية القرية، بسبب رفض قوات الجيش مرور بعض السائقين وهو ما أدى إلى اشتباكات بين الطرفين، قبض فيها على اثنين من السائقين من قبل قوات الجيش، وهو ما أشعل الموقف من جانب أهالي القرية.
خرجت تجمعات من الأهالي مطالبة بالإفراج عن السائقين، وتدخلت حينها قوات الشرطة المدنية لفض هذه التجمعات بالقوة، وهو ما انتهى بإحالة بعض شباب القرية إلى النيابة العسكرية تمهيدًا لمحاكمتهم عسكريًا بتهمة الاعتداء على قوات للجيش.
ظاهرة الاحتكاك بين عناصر الجيش وبعض الشباب النوبي ليست بالجديدة كما يصفها المراقبون، حيث تُلقي القضية النوبية وتعامل الدولة معها بظلالها، وهو ما يؤدي إلى نشوب مثل هذه الحوادث، التي يشعر الأهالي خلالها أن هؤلاء هم أسباب تهجيرهم وعدم قدرتهم على استرداد حقوقهم، مؤكدين أن الأمر سيستمر على هذا المنوال إذا لم تتدخل الدولة لتوقيف استثارة الشباب النوبي بتعميق مظلوميتهم.
يُشار إلى هذه ليست الحالة الأولى التي يُقدم فيها أحد أبناء النوبة للمحاكمة العسكرية حيث نشرت الصفحة الرسمية للاتحاد النوبي العام حالة أخرى تضامنوا فيه مع تحويل أحد سائقي المراكب النيلية للمحاكمة العسكرية بعد انقلاب مركبه وهو يحمل بعض العسكريين، وهو الأمر الذي أكد معه الاتحاد أنه لا يجوز التعامل مع شائق مدني بالقضاء العسكري.
تجاهل تاريخي مستمر
تجاهل الحكومات المتعاقبة على مصر تاريخيًا لقضية النوبة جعل نشطاء النوبة غير متعجبين من إخلاف السلطة الحالية لوعودها معهم، فبعد أن التقى بهم الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي قبل فوزه بمقعد الرئاسة خلال حملته الانتخابية وتأكيده بحث قضيتهم، عاد ليتذرع بصعوبة تنفيذ مطالب حق العودة بسبب ظروف الدولة ومحاربتها للإرهاب.
وهو نفس ما حدث عقب انقلاب يوليو 1952 حينما طالبوا مجلس قيادة الثورة بحقوقهم التي سلبت منهم تاريخيًا عند بناء خزان أسوان، لكن الرئيس المصري وقتها جمال عبدالناصر الذي خطب فيهم خطبة حماسية عاد ليصدر قرار آخر بعد أعوام بدورة ثانية من التهجير القسري في الستينيات عند تحويل مجرى النهر.
كما لم يأت عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بجديد في القضية النوبية، ولم تحل وعود العد المباركي المشكلة النوبية، إلا إنه العهد الذي شهد تطور القضية النوبية ومحاولة تدويلها، وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير التي شهدت انفراجة بعض الشئ بين الدولة وأهالي النوبة لكنها ما لبثت أن انتهت بصدام مع رئيس الوزراء حينها عصام شرف والمجلس العسكري الحاكم.
وهو الأمر الذي سارت على سنته السلطة الحالية في مسألة تفضيل التعامل الأمني مع القضية النوبية على الحل العادل، حتى بعد أن اعترف دستور الدولة بحقوق النوبيين، تأتي القرارات العسكرية لتقضي على حلم عودتهم إلى أراضيهم.