لي أخت لديها طفلان؛ حمزة لم يكمل الخامسة والنصف وعبدالله لم يكمل الثالثة والنصف. استحوزت على عقلها فكرة الذهاب لأداء مناسك العمرة برفقة زوجها. كانت تنقل لي مدى شغفها بهذه الرحلة من وقت إلى آخر؛ لكنها تخشى على ولديها إذا سافرت. شجعتها وتعهدت لها برعايتهما بجانب أمي ومساعدتنا في المنزل. تعهدت ولم أدرك مقدار صعوبة المهمة وثقل المسئولية، فما أصعبها مهمة وما أثقلها مسئولية أن تعمل أمًّا!
لقد حصلت على إجازة من عملي لمدة أسبوعين، وتخليت عن عاداتي وانقلبت حياتي رأسًا على عقب وأضحى حمزة وعبدالله محورها، وأصبحت أتحرى ارتداء ملابس منزلية لها جيوب لأحشوها مناديل ورقية؛ حتى أتمكن من ملاحقة أنفيهما السيالين أيًّا كان وضعي. أصبحت أستعين بالمُنبه لضبطه على مواعيد جرعات دوائهما لا لأغراضي الخاصة واحتياجاتي. واستبدلت بالقراءة قبل النوم الرد على أسئلتهما بعد حكي الحواديت أو مشاهدتها أو قراءة القرآن بصوت عالٍ بعد أن حظيت الفكرة باستحسانهما، فكان عبدالله يطلب مني ذلك باستمرار.
وذات يوم طلبت من أخي أن يشتري لي علبة كبيرة من اللبان لأستخدم حبَّاته في التحفيز والمكافأة للولدين. وما إن شهد عبدالله العلبة في يدي حتى صاح وطلب مني أن يأخذها، وأنا أخبره بأن ذلك لا يصح لأن العلبة ملكية عامة “بتاعتنا كلنا” وأنه إذا أخذ بعضًا من حباتها أصبحت ملكية خاصة له، يفعل بها ما يشاء. أنا أقول وهو يصر على رأيه وقد تحول صياحه إلى بكاء تتصاعد نبرته شيئًا فشيئًا؛ ذلك البكاء الذي كنت أنفر منه وأفر إلى حجرتي وأتركه مع أمه وشأنهما. لكنني هذه المرة لم أستطع النفور ولم أتمكن من الفِكاك.
ظل عبدالله يبكي بشدة ويحاول جاهدًا استمالتي، لأعطيه العلبة كلها غير راضٍ ببعض حباتها، ويطلب العون من مساعدتنا في المنزل لاستمالتي. وأنا أعيد عليه أن العلبة ملكية عامة ولا يصح أن يستحوز عليها، فيصرخ أكثر فأكثر وتزداد شدة بكائه.
خرجت من الحجرة وتركته في بكائه وطلبت من المساعدة أن تعينني على تحقيق هدفنا المنشود الذي يتلخص في كسر تشبث عبدالله بكل شيء يحظى باهتمامه وعدم رغبته في مشاركة أحد إياه، فاقتنعت وتركته هي كذلك وانشغلنا بمهامنا، وذهبت إلى المطبخ لإعداد الغداء إذ أوكلت إليَّ أمي ذلك؛ لتعذر وجودها في المنزل في ذلك الوقت.
ولا يفوت حمزة، بالطبع، تحسين صورته أمام عمته، عندما اتصلت تليفونيًّا ساعتئذ للاطمئنان عليهما، ولو على حساب صورة أخيه بإبلاغها أنه يحسن التصرف على عكس عبدالله ويحكي لها ما حدث، فتلك هي فطرة الإنسان إلى أن يعقل ويختار بين أن يتبع هواه وما له من عواقب وأن يواجه نوازع نفسه وما له من جزاء.
وما إن أشعلت النار وشرعت في الطبخ حتى وجدت عبدالله يهرول إليَّ ويطلب مني أن أتوقف عن الطبخ وأحمله. أدركت وقتئذ أنه نفس بشرية لها كبرياء حتى وإن كان سنُّها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. تلك الكبرياء التي لا بد أن أضعها في الاعتبار؛ فكما أن لي طلبًا عنده أُصرعلى تنفيذه، فهو له طلب عندي أيضًا وعلى كل منا مراعاة الآخر. وهذا ما يعنيه التفاوض، فالتفاوض يعني تحقيق الرضا للطرفين والتنازل من قِبل الطرفين، وليس سحق أحد الطرفين للآخر.
وقد حدث بالفعل أن أطفأت النار وحملته، وسرعان ما تغيرت حالته تمامًا كما لو أنها انتقلت إلى الغوص في حوض به ماء بارد لطيف بعد أن تعرضت للغوص في حوض به ماء ساخن مزعج، وعلامة ذلك أنه ضحك بابتهاج بعد أن بكى بحرقة. واتجهنا إلى الحجرة وأنا أحمله وأحضرت علبة اللبان وأعطيته خمس حبات منها بناءً على طلبه.
وقد أحضرت لنا أختي الكبرى علبة من البسكويت اللذيذ بالشيكولاتة وأخبرتني وهي تعطيني إياها أن هذه العلبة محاولة منها لمساعدتي في إنجاز مهمتي الطارئة. وقد حدث ما هو متوقع أن طلب عبدالله أن يستحوزعلى العلبة كلها، وراح يصيح ويصرخ كعادته، وأنا أخبره أنها ملكية عامة “بتاعتنا كلنا” وأن رد فعلي لن يتغير تمامًا مثلما حدث في موقف علبة اللبان، فتقل حدة بكائه ومدته إذا قورنت بموقف علبة اللبان.
لقد ثبت على موقفي لأنه نمى إلى علمي أنه عندما تُربي طفلًا على اكتسـاب قيمـة لا بد أن يلمس فيك الثبات والمثابرة حتى يستشعر أنه لا مناص من التحلي بها.
وقد طلب عبدالله ذات ليلة أن يأكل “فول سوداني” ووافقناه جميعًا ورحبنا بالفكرة، ولما أُتي بكيس الفول السوداني ظهرت عادة عبدالله من جديد في التشبث بالشيء وعدم مشاركته أحدًا والبكاء عليه وأنا أصر على رد فعلي وأذكره بأنه أشبه ما يكون بموقف علبة اللبان فيهدأ ويتوقف عن البكاء ويرتضي بالمشاركة ونجلس معًا لنأكل الفول السوداني كلنا. وبينما كنا نأكل أخذت أفكر في مدى صعوبة بناء إنسان.
انتقلت وأمي وحمزة وعبدالله للمبيت في منزل أختي قبل ثلاثة أيام من موعد وصولها لتهيئة منزلها لاستقبالها. كنت أعد الساعات في الأيام الثلاثة تلك إن لم يكن الدقائق والثواني انتظارًا لوصولها لأسلمها الأمانة وتسلمني حريتي وكامل خصوصيتي.
وبينما كنت أحزم حقائبي استعدادًا للرجوع إلى بيتنا وكلي شوق وحنين إلى حجرتي وفراشي واستعادة خصوصيتي بعد التجني عليها لمدة أسبوعين، سمعت عبدالله ينادي عليَّ بأعلى صوته مستغيثًا بعد أن نادى عليَّ مرات قبلها لكنني لم أنتبه لأن ثمة إشارة أُرسلت إلى مخي مفادها أن أمهما وصلت وأن مسئوليتي عنهما قد رُفعت؛ نادى عبدالله مستغيثًا ليسألني: “مش علبة المناديل بتاعتنا كلنا؟ أصل حمزة مش عايز يديني منديل”.
لقد محا سؤال عبدالله البلاغي هذا كل التعب والمشقة اللذين مرَّا بي طيلة أسبوعين، وتبدل الشعور بالإنجاز بالشعور بالعناء.
وأود أن أقول من واقع التجربة إن التقويم ممكن في الطفولة إذا كان ثمة عزم على بناء إنسان مقترنًا بمثابرة على مراحل البناء. أما بعد مرحلة الطفولة، فيصعُب التقويم لأن العود يكون قد اشتد والهوى قد شق طريقه لدى الإنسان.