توترت العلاقات بين تركيا وروسيا منذ إسقاط القوات الجوية التركية للطائرة الروسية التي اخترقت المجال الجوي التركي في نوفمبر الماضي. لكن التوترات بين البلدين قد تصاعدت قبل أشهر من هذا الحادث بشأن التدخل الروسي في أوكرانيا ومن ثم بشأن سوريا. ونتيجة لذلك، في غضون سنتين، تقلص حجم التوافق بين البلدين الذي استمر على مدى السنوات الخمسة عشر الماضية.
واعتمادًا على التعاون الاقتصادي وتقاسم القلق من النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب، والتشابهات الشخصية إلى حد ما بين قادة البلدين، فلاديمير بوتين رجب طيب أردوغان، كان الوفاق الروسي التركي، في نواحٍ كثيرة، استثناءً تاريخيًا. دوافع المواجهة الأخيرة هي أعمق بكثير من مجرد إسقاط طائرة، وتبشّر على الأرجح بالعودة إلى المنافسة الجيوسياسية التي كانت تمثل قاعدة العلاقات الروسية التركية على مرّ التاريخ.
مواجهة اليوم هي، في الواقع، أقل وضوحًا من التقارب الذي حديث بين البلدين قبل 15 عامًا. وبالرغم من كل شيء، كانت السوابق التاريخية للاتحاد الروسي والجمهورية التركية تنافسية على مدار القرون الخمسة الماضية. لقد جاء الكثير من التوسّع الإمبراطوري الروسي، بدءًا من ضم خانيّة القرم في عام 1783، على حساب الدولة العثمانية (وتوابعها) على طول الساحل الشمالي من البحر الأسود والبلقان، والقوقاز. كما قلبت المكاسب الروسية من تراجع الإمبراطورية العثمانية موازين القوى في أوروبا وأثارت جهود المملكة المتحدة وفرنسا للحفاظ على الدولة العثمانية كقوة عازلة، ولا سيما خلال حرب القرم 1854-1856. وبالإضافة إلى ذلك، ساعدت طموحات روسيا للاستيلاء على المضيق التركي واستكمال تقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية على اندلاع الحرب العالمية الأولى.
صمد التنافس الروسي التركي أمام انهيار كلا الإمبراطوريتين العثمانية والروسية، وبصرف النظر عن التقارب الوجيز في عشرينات القرن المنصرم عندما انضم الزعيم السوفيتي فلاديمير لينين ومؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك إلى القوات المعادية للإمبريالية الغربية. لقد نجحت تركيا في البقاء على الحياد خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن انتصارات الاتحاد السوفيتي أدت إلى إحياء طموح الإمبراطورية الروسية للسيطرة على المضيق التركي. وفي ذلك الوقت، طالب جوزيف ستالين بسيطرة سوفيتية تركية مشتركة على المضيق وإقامة قواعد عسكرية في تركيا.
قاومت أنقرة مطالب ستالين، مما دفع ستالين للضغط من أجل اندلاع ثورة شيوعية في تركيا. وردًا على ذلك، قدّم الرئيس الأمريكي هاري ترومان المساعدة لأنقرة وفقًا لبنود مبدأ ترومان، وفي عام 1952انضمت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. وأصبحت تركيا الكمالية (نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك) معقلًا لمعاداة الشيوعية وركيزة أساسية من ركائز التحالف الغربي. لكنَّ الاتحاد السوفياتي لم يتخل أبدًا عن جهوده لإضعاف تركيا. وبين أدواته للقيام بذلك، كان دعم تمرد حزب العمّال الكردستاني ضد أنقرة في ثمانينات القرن الماضي.
أدى ضعف روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانسحاب القوات الروسية من الحدود التركية (بمساعدة ظهور الدول العازلة في جنوب القوقاز) إلى التخلص من التهديد العسكري وسمح للبلدين بالتركيز على التعاون الاقتصادي.
ومع ذلك، استمر الصراع بين أنقرة وموسكو بشأن الدول المجاورة. في تسعينات القرن الماضي، حاولت تركيا الاستفادة من العلاقات التاريخية والثقافية لتحلّ محلّ روسيا باعتبارها راعي الجمهوريات الإسلامية الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى. كما دعمت أنقرة وموسكو أطرافًا متناقضة في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان حول إقليم ناغورنو كاراباخ الذي توقف بعد اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1994. لكنَّ التحدي الأكبر كان فيحرب الشيشان، حيث اتهمت روسيا تركيا بدعم المتمردين الانفصاليين.
ومع تعثر اقتصاد كلا البلدين بشدة في منعطف القرن الماضي، وافقت أنقرة وموسكو على حلّ مشاكلهم الجيوسياسية والتركيز على تعميق التعاون الاقتصادي. ورفضت موسكو طلب اللجوء السياسي من زعيم حزب العمّال الكردستاني عبد الله أوجلان وألغت بيع أنظمة الدفاع الجوي S-300 المتطورة لقبرص. وتناول اتفاق عام 2001 التوترات بين البلدين بشأن القوقاز وآسيا الوسطى. وبموجب اتفاق يناير عام 2002، سحبت روسيا دعمها لحزب العمّال الكردستاني في حين اعتمدت تركيا موقفًا أكثر تشددًا في الشيشان وجماعات شمال القوقاز الأخرى التي تعمل من أراضيها، على الرغم من التعاطف الكبير الذي كانوا يتمتعون به بين الشعب التركي (مئات الآلاف من المواطنين الأتراك ينحدرون من القوقاز التي فرّ إليها كثير من المسلمين في مواجهة الغزو الروسي في القرن التاسع عشر).
ومع انخفاض المخاطر الاستراتيجية، ازدهرت العلاقات الاقتصادية بين روسيا وتركيا. وبحلول عام 2008، أصبحت روسيا أكبر شريك تجاري لتركيا. وكان مجال الطاقة هو المكّون الأكثر أهمية في العلاقات الاقتصادية بين البلدين. استوردت تركيا، التي لا تمتلك سوى القليل من المواد الهيدروكربونية، أكثر من 40 بالمئة من واردتها النفطية من روسيا في عام 2009 (على الرغم من انخفاض هذا المعدل منذ ذلك الحين). ولا تزال روسيا تزوّد البلاد بحوالي 57 بالمئة من الغاز الطبيعي. كما امتدت العلاقات الاقتصادية لتشمل الطاقة النووية، والإنشاءات، والسياحة، والقطاعات الأخرى كذلك.
كان من بين الأمور التي ساعدت على التقارب الروسي التركي هو الإقصاء المتزايدة من الغرب والوئام بين بوتين وأردوغان. كلاهما عارض الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق. وفي الوقت نفسه، على الجانب الروسي، أدى تجدّد توسّع الناتو وما يسمى الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا إلى إحياء المخاوف من أن الغرب يسعى لدحر النفوذ الروسي. وعلى الجانب التركي، أدتالمحادثات غير المثمرة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى جانب القبول في اتحاد قبرص اليونانية على الرغم من رفضها لخطة السلام التي ترعاها الأمم المتحدة، إلى تعميق خيبة أمل أنقرة. ولذلك، سعى البلدان لوضع أنفسهما كوسطاء بين الغرب وطهران بشأن البرنامج النووي الإيراني، حتى أنَّ أنقرة اتخذت موقفًا ملائمًا نسبيًا فيما يتعلق بغزو روسيا لجورجيا في عام 2008.
ولكنَّ هذا الوفاق الروسي التركي اعتمد على أسس جيوسياسية ضحلة، انهارت على مدى السنوات القليلة الماضية في ظل انتشار الصراعات الإقليمية. قبل إسقاط تركيا للطائرة الروسية، سعت أنقرة وموسكو إلى السيطرة على خلافاتهما بشأن سوريا والاستمرار في التعاون في أي مكان آخر. ولكنَّ الأزمات في القوقاز وأوكرانيا والشرق الأوسط أشعلت الخلافات بين روسيا وتركيا، والحدّ من هامش أنقرة الأمني ووضع الضغوط على العلاقة الروسية التركية بسبب حادث إسقاط الطائرة.
لقد أدى ضم روسيا لشبه جزيرة القرم إلى تغيير جذري في ميزان القوى حول البحر الأسود، مع تعزيز موسكو لقدراتها البحرية حول شبه الجزيرة حتى أثناء زيادة تدخلها العسكري في سوريا. وتواجه تركيا الآن احتمال محاصرتها من قِبل القوات البحرية الروسية.
وبالإضافة إلى ذلك، تصاعد العنف على طول منطقة قره باغ الجبلية والحدود بين أرمينيا وأذربيجان التي تهدد بجر روسيا وتركيا إلى صراع بالوكالة. لم تساعد جهود موسكو في إبعاد أذربيجان عن الانحياز إلى تركيا والاتحاد الأوروبي.
وعلاوة على ذلك، فقد تحوّلت سوريا بالفعل إلى صراع بالوكالة، مع سعي أنقرة للإطاحة بالأسد ودعم جماعات المعارضة السُنية التي تعتبرها موسكو جماعات إرهابية. على الجانب الآخر، قدّمت روسيا (جنبًا إلى جنب مع إيران) دعمًا غير محدود للنظام السوري من خلال التدخل العسكري المباشر الذي سمح للأسد باستعادة الزخم على الأرض في الأسابيع الأخيرة، وفشل محادثات السلام الدولية في جنيف. ولكن تلك الحرب كانت كارثة بالنسبة لتركيا؛ حيث جعلت أكثر من 2.5 مليون لاجئ يتدفقون إلى البلاد، وتأسيس حزب الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمّال الكردستاني شبه دولة كردية على الحدود التركية، إلى جانب اشتعال الحرب مع حزب العمّال الكردستاني داخل تركيا مرة أخرى.
وقد حاولت أنقرة احتواء الأزمة، ولكن موسكو استغلتها لإثارة المشاعر القومية ضد تركيا وفرض عقوبات قد تكلّف الاقتصاد التركي 0.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد كثّفت القوات الروسية أيضًا من هجماتها الجوية ضد وكلاء الأتراك في سوريا وسارعت في تأييدحزب الاتحاد الديمقراطي. تدرك روسيا أن تركيا تقع تحت ضغط هائل بسبب أزمة اللاجئين، والهجمات الإرهابية المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتجّدد الحرب مع حزب العمّال الكردستاني، ولذلك تسعى للاستفادة من هذا المأزق التركي.
وكما هو الحال في المراحل السابقة، ترى تركيا أن توسّع النفوذ الروسي يشكّل خطرًا كبيرًا على نفسها وعلى توازن القوى في المنطقة. وردًا على ذلك، ليس ثمة خيار أمام تركيا سوى محاولة رأب صدع العلاقات مع الغرب. ولذلك، دعت أنقرة على الفور لإجراء مشاورات مع حلف شمال الأطلسي بعد إسقاط الطائرة الروسية. وفي الآونة الأخيرة، وقّعت اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي الذي عرض على تركيا المساعدة المالية وجدد مناقشات عضوية تركيا في الاتحاد، وعرض المزيد من المساعدة على تركيا لوقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا.
يعود الفضل في التقارب الروسي التركي في السنوات الخمسة عشر الماضية إلى بساطة البيئة الجيوسياسية. لقد شكّلت روسيا الأكثر انطواءً وضعفًا تهديداً أقل للمصالح التركية. وفي الوقت نفسه، كانت تركيا تفكر في الابتعاد عن الغرب، ورأت في روسيا شريكًا مفيدًا لها. وفي ظل هذه الظروف، وجدت أنقرة وموسكو أنه من السهل التعاون في التجارة والطاقة، والدبلوماسية الإقليمية.
ولكن في السنوات القليلة الماضية، عادت الصراعات الجيوسياسية التقليدية مرة أخرى. والآن، ثمة اختلافات جوهرية في المصالح الروسية والتركية في منطقة القوقاز والبحر الأسود، والشرق الأوسط. كما أدى ضم شبه جزيرة القرم إلى تصاعد الخطر الذي تشكّله تركيا في شمال روسيا، في حين أن الصراعات السورية والكردية قد أحدثت جرحًا مفتوحًا على حدودها الشرقية. ومرة أخرى، يتم تعريف العلاقات الروسية التركية على أنها صراع من أجل السيادة الإقليمية.
المصدر: فورين أفيرز / ترجمة: إيوان 24