لماذا يكون قرار السفر من اهم القرارات التي تتخذها في حياتك؟، بل من الممكن أن يكون أهمها على الإطلاق، فبعيدًا عن أن السفر هو أحد الأشياء التي يجب عليك أن تقوم بها وحيدًا قبل أن تصل إلى الثلاثين من عمرك، أو قبل أن تستقر في حياتك وتتزوج، و بعيدًا عن الأمر يبدو حماسيًا لدى الكثير منا عند ذكر السفر والمغامرات التي تصاحب الشخص المُسافر أو المغترب، إلا أنه من الممكن أن يكون قرار السفر من أصعب القرارات لدى البعض الآخر، بل وأحيانًا من الأفكار المستحيلة لدى الآخرين، فتجد أحدهم يقول أنا راضٍ بكل ما لدي وما حولي، لماذا قد أحتاج أن أسافر في يومًا ما!، أو تجد الكثير يُقلل من قيمة السفر واختزاله في تجربة عابرة في حياة الإنسان لإلتقاط بعض الصور للتعالي على الأصدقاء والعائلة، أو يصل الأمر أحيانًا إلى الخوف من التغيير ومواجهة الأفكار المختلفة، فالسابق ذكرهم يستمتعون بهالة الاستقرار ” comfort zone” التي رسموا حدودها حول أنفسهم ولا يجدون أي متعة خارجها، ولا يجدون تفسيرًا منطقيًا للمختلفين عنهم، هناك من يرى بأن السفر هو إحدى الوسائل المهمة لتوسيع المدارك، ولكنه أيضًا من الممكن أن يبدل شخصية الفرد كليًا ويدفعه إلى الشك والتساؤل في كل ما كان يؤمن به في حياته من قبل، فهل من الممكن للسفر أن يغيّر حياتك للأبد؟
“أنا أقرأ، أنا أسافر، إذًا أنا موجود” ، هذه هي الفلسفة الجديدة لهذا العصر، يقول الرحالة ” كريستوفر ماكندليس” ، الذي صوّرت رحلته على قدميه وبمؤن بسيطة إلى ألاسكا وحيدًا في الغابات في فيلم ” Into The Wild” ، بأن” روح الإنسان تكمن في شغفه للمغامرة، فتأتي متعة الحياة في مواجهتنا للخبرات المختلفة، ومن هنا لا يجد الإنسان متعته إلا في تغيير مداركه، ليحصل على شمسًا جديدة ومختلفة في كل يوم“
يعيش معظم البشر حياة غير سعيدة ولا راضية لهم أو لذويهم، ومع ذلك يستمرون في مواصلة تلك الحياة بدون أي مبادرة للتغيير، وذلك من أجل الأمان والاستقرار، والذي تبدو ظاهريًا أسباب منطقية ليجد المرء السلام الداخلي في حياته، إلا أنه في واقع الأمر يُدمر روحه تدريجيًا، ويقتل شغف المغامرة داخله.
سار كريستوفر ماكيندليس في الغابات وحيدًا، بدون رفيق، ولا هاتف، ولا مؤن، إتخذ من الطريق رفيقًا وسار حتى ضاع وسط الغابات، وتسبب الطبيعة في موته بتناوله بعض النباتات السامة بدون علمه لقتل جوعه، فكتب في مذكراته أخر جملة قبل موته تُلخص ما تعلمه من رحلته، وهي ” السعادة لا تكون حقيقية إلا بالمشاركة“.
كريستوفر ماكيندليس
الخروج من هالة الاستقرار والمنطقة المريحة التي يركن إليها الإنسان في العادة، هي أول الطريق لأن يصبح الإنسان قوي وواثق من نفسه، هل يواجهك مواقف تندم على سفرك بسببها؟، بالطبع، هل ستسطيع تخطيها، نعم، بل وستكون أقوى بعدها بكثير عن ذي قبل، الأمر كله يعتمد على المرونة في التعامل مع المواقف المتغيرة بشكل سريع ومتزايد يوميًا مع المسافر أو المغترب، واتخاذ تلك المواقف عبرة للمستقبل، مع الأخذ في الاعتبار أن مختلف الخبرات التي ستواجهها و مختلف أساليب الحياة التي يتخذها الناس في حياتهم ستؤثر على طريقة تفكيرك وقراراتك في تخطي تلك الأزمات التي تمر بها أثناء سفرك، لا يوجد أسلوب حياة أفضل من آخر، فلا وجود لثقافة أسمى من ثقافة أخرى، وتلك النقطة مهمة لكل من هم قوميين أو متعصبيين لعرق أو ثقافة معينة، وهي العقبة التي تواجه الكثير عند بداية رحلة جديدة في بلد غريب عن البلد الأم، وبخاصة إن كان يختلف في اللغة والدين.
يمكنك أن تكتسب خبرات جديدة أو أصدقاء متنوعين من السفر، ولكن يمكن للسفر أن يمنحك نعمة لم تفكر فيها من قبل، وهي أنه من الممكن أن تصبح مبدعًا أكثر مما كنت، فعلى سبيل المثال، كان أعظم كتاب الرواية والمؤلفين يسافرون من مكان لآخر بحثًا عن الإبداع، وبالفعل كُتبت العديد من الروايات لمؤلفين في بلاد غير بلادهم ولاقت صديً يختلف تمامًا عن روايات الكاتب العادية.
تمّ إثبات فائدة السفر على قدرات التفكير علميًا، فالأصوات المختلفة، والأطعمة المتنوعة، والأماكن التي يراها الإنسان لأول مرة في حياته، واستخدامه للغات أجنبية لأول مرة يُثقل من قدراته العقلية وينميها بشكل متسارع، فالخبرات المختلفة الناتجة من السفر تؤثر بشكل كبير ومُركز على التفكير الإدراكي لدى الإنسان كما تؤثر على “تكاملية الفكر” ” integrative of thought” ، وهو المصطلح الذي يطلق على الإنسان الذي يقفز من فكرة لأخرى دون توقف، وهو العامل الأساسي للإبداع.
تعتمد درجة تأثير السفر على تفكير الإنسان بمدى مرونته في التعامل مع اللغات والثقافات المختلفة، فالسفر إلى الخارج وقضاء الوقت وحيدًا لن يغير شيء في إبداعية الإنسان بقدر أنه من الممكن أن ينقصها، ولكن إذا اختلف الأمر وقرر المسافر أو المغترب أن يختلط بالسكان المحليين، فذلك سيزيد من إبداعيته بدرجة مؤكدة.
أكد خبراء علم النفس أن السفر هو أحد الوسائل الذي يُنمي الاعتزاز بالنفس وإدراك النفس بشكل أكثر وضوحًا، فقابلية الإنسان على التعامل مع خلفيات مختلفة ولغات مختلفة تجعله يفهم قدراته ومداركه بطريقة تختلف عن من يتعامل مع نفس اللغة ونفس الأشخاص لفترة طويلة من حياته.
السفر عبر الدول المختلفة ينجح في إخراج الناس من الفقاعات الثقافية التي يعيشون فيها طوال حياتهم، فالسفر يعزز المفهوم المعروف بالـ” الثقة المُعممة” ” Generalized Trust” أو الإيمان العام بالإنسانية عندما تم اكتشاف أن الناس المختلفة الآتية من بقاع مختلفة من العالم تتطابق وتتشابه في العديد من االصفات والأفكار وأحيانًا الطبائع، نعم ينعم العالم بتنوع هائل وهذا ما يجعله غنيًا وعظيمًا، ولكن هذا يجعلنا نؤمن بأن الإنسانية موجودة بالفعل وليست كلام سياسي أو إعلامي مبهم.
من الممكن للمرء أن يختزل تجربته في الترحال والغربة في العديد من الكتب أو الروايات أو المقالات، أو حتى الأفلام، وكل ذلك يساعد على توصيل الفكرة وشرح الصورة، ولكنه لن يكون أبدًا كافيًا لشرح التجربة الحية والفعلية، ولا يتطلب الأمر منك شيئًا أكثر من أن تجرب بنفسك.