من جنيف إلى فيينا مرورًا بميونيخ يكاد العالم يعجز عن إيجاد حل للأزمة السورية التي وصلت إلى “حنق إستراتيجي” تسعى كل الدول الفاعلة في الملف إلى حله على وجه السرعة، فمن ثورة على نظام إلى أزمة إقليمية تقاذفتها الدول المحيطة بسوريا ومن ثم إلى أزمة على المستوى الدولي يتنافس فيها كل من روسيا التي وضعت كل ثقلها على الأرض السورية وتتحكم بالقرار السياسي الرسمي التابع للنظام السوري، والطرف الأمريكي الذي يُجمع الخبراء على تأجيل حل الأزمة ووضعه على طاولة الرئيس الأمريكي القادم.
بينما تتناحر الدول الإقليمية التابعة لكل من روسيا وأمريكا ساعية لحماية أمنها القومي أو تحقيق مصالح لها في سوريا؛ فتركيا المهددة بإقامة دولة كردية على حدودها بدأت تقصف العمق السوري في عزاز الحلبية منعًا لتقدم القوات الكردية وسيطرتها على المدينة، وإيران حليفة بشار الأسد التي تتمسك به لحماية محور المقاومة والممانعة.
والسعودية التي تقف ضد بشار الأسد وتدعم الثوار وتقدمهم لمنع إيران من مد نفوذها إلى سوريا من جهة ومن جهة أخرى لمحاربة داعش الذي يهددها ويأرق مضجعها، ويبقى السوريون الذين يتحملون عبء كل هؤلاء في عدم حل الأزمة ويعانون من التهجير والقصف الروسي الممنهج وتقدم قوات النظام مدعومة بإيران إلى مناطق سيطرة المعارضة، والتهديد الذي يكتنف الجغرافية السورية من “التقسيم” فضلًا عن سيطرة داعش على أرض شاسعة من سوريا.
اجتمع العالم في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لضرب داعش في سوريا والعراق والآن يجتمع التحالف الإسلامي بقيادة السعودية وتركيا الذي قدم مقترحًا للتدخل البري في سوريا ضد داعش.
إذن بات العالم يتصارع في هذه البقعة، أطراف تشرعن النظام وأخرى تنزع شرعيته وبين هذا وذاك تشابكت المصالح وتعقدت الحلول وتعددت السيناريوهات ويبقى المواطن السوري هو الخاسر الوحيد، وجد نفسه يركب عباب البحر متوجهًا إلى أوروبا عن طريق تركيا التي أغلقت بواباتها في الفترة الأخيرة أمام أمواج النازحين لتقدم لهم المساعدات وتقيم المخيمات على الجانب السوري بسبب خشيتها من موجة نزوح ضخمة من حلب من جراء القصف الروسي الذي يطال القرى والبلدات الحلبية بهدف “تفريغ” حلب من سكانها.
فاتفق العالم بقيادة روسيا وأمريكا على هدنة أقرها مجلس الأمن لوقف إطلاق النار شهدت بعض الخروقات من قِبل روسيا والنظام، وحدد ديمستورا يوم 7 مارس موعدًا جديدًا لانطلاق المفاوضات بين المعارضة والنظام.
وفي محاولة من “نون بوست” للاقتراب من تحليل الوضع السوري، قمنا بتحديد عدد من القوى الدولية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري، واخترنا من بينها الولايات المتحدة، روسيا، إيران، السعودية، تركيا بالإضافة إلى سوريا، تواصلنا مع عدد من الخبراء في الشؤون الدولية والمختصين بالشأن السوري، وهم لينا الخطيب للحديث عن دور ومستقبل إيران في سوريا، عبد العزيز بن عثمان بن صقر عن المملكة العربية السعودية ليحدثنا عن التحالف السعودي التركي وموقف المملكة من مصر، مازن هاشم للحديث عن الولايات المتحدة وإستراتيجياتها، باسل حاج جاسم لمناقشة الموقف الروسي، سنان حتاحت ومحمد السرميني لمعرفة رؤيتهم لمستقبل سوريا وعن الموقف التركي تواصلنا مع الباحثيْن جان آجون ومحمد زاهد غول.
طرحنا سؤالًا أوليا على الخبراء كلهم، لنتلمس معالم الإستراتيجية الأقرب للتحقق في سوريا على المدى القريب، بالنظر إلى ما تم في جنيف وفيينا وميونخ.
وفي ذلك يعتقد مازن هاشم أنه لا وجود لإرهاصات احتراب دولي مباشر، بل إن التنسيق الأمريكي الروسي قد انقلب إلى تفاهم واتفاق شبه كامل، وبالنسبة للدول ذات النفوذ العالمي، فإن ما يجمعهم لا يزال أكبر مما يفرقهم برغم حدّة التنافس، ويرى هاشم بأنه تم تعريف التحدّي بأنه تحدي الإرهاب، وهو موضوع يجتمع العالم الخارجي ويهمّ دول المنطقة أيضًا، وإذا قبلنا المقولة أن أولوية هذه القوى الدولية هو الاستقرار، فإنها تريده استقرارًا تحت قبضة أمنية وقيادة سياسية موالية لها، الشعب السوري أيضًا يتوق إلى الاستقرار، لكنه يريده استقرار عزّ وحرية، هذا عن تعريف التحدي، أما النظرة نحو الصراع بمجمله فقد تمّ تحديده من البدايات أنه “حرب أهلية” وليس أن القصة قصة شعبٍ يريد الانعتاق من قيد ديكتاتورية بشعة
ولا تبتعد لينا الخطيب عن تلك النظرة، فهي ترى أن الواقع السوري لن يتغير بشكل جذري في المستقبل القريب، فالولايات المتحدة تخوض مرحلة انتخابات رئاسية، وهذا يعني عدم الانخراط في أي تصرف ممكن أن يؤدي إلى تغيير مسار سياستها الخارجية خلال هذه الفترة، وحتى عندما يستلم الرئيس(ـة) الجديد، فإن الشأن السوري لن يكون الأمر الأكثر إلحاحًا بالنسبة للأجندة الخارجية للبلاد، وتضيف الخطيب أن التراجع الأمريكي قد أفسح المجال لروسيا لتستغله لفرض نفسها في المجتمع الدولي، وبغياب أي رادع، فسوف تستمر بالتدخل في سورية، وتستنتج أن معالم الإستراتيجية المقبلة ستكون فيه روسيا المحرك الأبرز في ديناميكيات الفترة القادمة، وسيتجلى ذلك في ازدياد نفوذها في سوريا والعمل على استحداث خطط للحكم تضمن بقاء نظام حليف لموسكو في سورية، حتى لو تطلب ذلك تغيير خارطة البلد.
لكن روسيا لا تلعب وحدها بحسب باسل جاسم، إذ يعتقد بأن تدخلاً عسكريًا تركيًا في الشمال السوري قد يقلب الأمور رأسًا على عقب، خاصة إذا لم يتم إرضاء الأتراك بالمنافع الاقتصادية من قبيل خطوط إمدادات الطاقة التي تمر عبر البلاد أو حتى صفقات إعادة إعمار سورية، ويشير جاسم إلى أن على المتابعين عدم إغفال العامل الإسرائيلي، فوسط الفوضى التي تعيشها المنطقة، وحدها إسرائيل تعرف ما تريد، وترفض مالا تريد، وتملك القرار في الحالين، وأي تغيير بالخارطة الجيوسياسية، لا بد أن يكون بموافقة إسرائيلية.
وهنا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار موافقة تركيا مؤخرًا على إعادة تطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال، وهذا ما قد يؤمّن لأنقرة غطاءً دوليًا في حال قررت التحرك عسكريًا، ويقول جاسم في ذلك إن إسرائيل قد تكون الدولة الوحيدة القادرة على إيقاف روسيا، إذ لا يمكن للإسرائيليين قبول وجود حليف لإيران وحزب الله على حدودهم الشمالية.
ويعتقد جاسم أن سوريا تتجه للتقسيم بسبب غياب خطط الأطراف الفاعلة من غير الروس، وعدم التعامل بشكل سريع مع الاقتتال في سوريا، وكذلك إفساح المجال لموسكو في الداخل السوري، وإذا ما استمر القتال على هذا المنوال، فإن التقسيم يصير حتميًا، ومن يمكنه الاستمرار في القتال يمكنه إعلان دويلته الجديدة، وحينها فإن إسرائيل ستتحول إلى دولة عظمى في محطيها بالمعنى الجيوسياسي.
لكن محمد زاهد غول لا يتفق تمامًا مع حديث باسل عن استعداد موسكو لاستمرار الحرب، فهو يقول إن الرغبة في وقف إطلاق النار في سوريا روسية أكثر منها رغبة أمريكية، لأن روسيا لم تأت لتقاتل لسنوات ولا حتى لأشهر طويلة بحسب غول، وهناك فرصة حقيقية لواشنطن كي تُغرق روسيا في المستنقع السوري، واتفاق وقف الأعمال العدائية الأخير محاولة روسية للخروج من أزمتها ولكن أمريكا ستُفشل الاتفاق مع اتهام روسيا ونظام الأسد بإفشاله، ولا يعني أمريكا في إطار ذلك عدد الضحايا السوريين نتيجة العدوان الروسي، من جانبه سيواصل أوباما عدم تحميل واشنطن المسؤولية بادعاء أن الحرب في سورية أهلية وإقليمية وبالوكالة لأن الإستراتيجية الأمريكية تعتمد على استدامة الصراع في المنطقة.
بينما سنان حتاحت لا يتفق مع ذلك الطرح، إذ يؤكد أن واشنطن قد تُضطر إلى مواجهة التهديدات الأمنية الإقليمية بالتدخل المباشر بعد أن حاولت مرارًا التكيف معها من خلال سياسة الانسحاب والتفويض، ويرى حتاحت أن الاتفاق الأمريكي الروسي فشل كسابقه في معالجة الأسباب الموجبة لاستمرار الصراع الدائر في سورية، والتي يسهل حصرها في بقاء بشار الأسد على رأس السلطة، لذا يرجح استمرار الصراع في المشهد السوري وتدفقه إلى خارج حدوده الجغرافية، ويمكن اعتبار توقف الدعم المالي السعودي للحكومة اللبنانية، وتمرد نظام السيسي على المنظومة الخليجية، بالإضافة إلى ازدياد وتيرة الأعمال الإرهابية في تركيا، إرهاصات لانتقال التهديد الأمني للصراع الإقليمي في سورية من نطاقه المحلي إلى نطاق قد يشمل المنطقة برمتها.
إيران
الفاعلون في المشهد السوري كثر، والجمهورية الإسلامية الإيرانية هي أحد أهم الفاعلين، إن لم تكن المؤثر الأول في المشهد السوري الحالي، وهنا ترى لينا الخطيب أن احتواء إيران هو من أهداف الولايات المتحدة الرئيسية، وهذا يدفعه للحرص على أمن إسرائيل، حيث إن الاتفاق النووي يقلص فرص الضغط من قِبل طهران على تل أبيب، إيران تعي هذا جيدًا، وتستغله لكي تخدم أهدافها التوسعية في الشرق الأوسط.
وتؤكد لينا أن التدخل الروسي جاء ليقلق إيران، حيث إنه جعلها لاعبًا ثانويًا في النزاع من بعد أن كانت هي السبب الأول في بقاء النظام السوري، ولذا فإن إيران الآن تريد أن تثبت قيمة وجودها على الأرض في سورية كحليف لا بد منه لتحقيق الأهداف الروسية، وبالمقابل، تطلب إيران ضمان مصالحها في بلاد الشام والتي تتمثل بتحصين إمدادت حزب الله عبر الأراضي السورية، وتعول إيران على قبول المجتمع الدولي بدورها النافذ من خلال تقديم نفسها كفاعل في الحرب على المجموعات الجهادية السنية المتطرفة في سورية والجوار.
لكن لا يمكن لطهران أن تستمر في سوريا بدون اعتبارات أخرى، فبحسب لينا، فإن ما يقلق إيران أكثر هو وضعها الداخلي لا الخارجي؛ فالعقوبات الدولية أثرت بشكل كبير على الاقتصاد، وهذا كان الدافع الأكبر لقبولها بشروط الاتفاق النووي.، ولذا، على عكس ما يتداول، فإن الأولوية من ناحية صرف الأموال المتدفقة نتيجة رفع العقوبات هي تحسين وضع الاقتصاد الوطني لا زيادة دعم النظام السوري، إذ إن ضمان الاستقرار الاقتصادي يضمن استقرار النظام الحاكم في طهران، ولكن، بالطبع، فإن ازدياد طمأنينة النظام الإيراني تعطيه المزيد من الزخم من ناحية التدخل في سورية، مع هذا، فإن من مصلحة إيران أن ينتهي الصراع في سورية بقيام نظام في دمشق على علاقة جيدة مع طهران، وإن كانت روسيا هي الطريق لتحقيق ذلك، فلا بأس طالما تستطيع إيران الاستمرار في مد شباكها إلى لبنان والعراق.
السعودية
وعن الاتفاق النفطي الأخير الذي تم في الدوحة جمع “الندين” روسيا والسعودية وتمخض عنه تجميد الإنتاج عند مستويات يناير كخطوة أولية لإعادة الاستقرار لأسواق النفط عبد العزيز بن عثمان بن صقر يرى أن العلاقات السعودية مع روسيا ظاهرة جديدة في السياسية الخارجية السعودية، دوافع تأسيس هذه العلاقات كان سبهها الأساسي هو التغييرات الجذرية في السياسة الأمريكية في المنطقة، وانحسار الدور الأمريكي في شؤون المنطقة، فالمملكة العربية السعودية أدركت ضرورة تعدد الاختيارات في علاقاتها الدولية ومن ضمنها علاقاتها مع روسيا الاتحادية، ولكن هذه العلاقات تقوم على أسس المصالح البحتة، فلا يوجد عمق تاريخي لقيام تحالف، ولا توجد مصالح إستراتيجية بعيدة المدى، وفي تقديرنا إن السلوك الروسي في الأزمة السورية قد وضع النهاية لأي آمال حقيقية في قيام علاقات متعددة الاتجاهات ومتعددة الأهداف، وطويلة المدى مع روسيا، على ضوء هذه الحقيقة من الممكن القول أن العلاقات الروسية – السعودية تقوم على المصالح المتغيرة، وعلى كل قضية بشكل منفصل، لذا قد نجد أن هناك خلاف حول أسلوب التعامل مع الأزمة السورية، ولكن في نفس الوقت نجد أن هناك درجة من التوافق في الأزمة اليمنية مثلاً، وقد ينشأ توافق حول أزمة أسعار النفط أو غيرها من القضايا المستجدة، المملكة ستقيم مواقفها من روسيا بناءً على السلوك الروسي تجاه القضايا التي تعني المملكة والعالم العربي بشكل عام، واستنادًا لهذه المعايير سيتم تحديد المواقف السعودية تجاه دولة روسيا الاتحادية.
وعن رفض عبد الفتاح السيسي للانضمام للتحالف البري في سوريا والتحالف التركي السعودي الإستراتيجي يرى عبد العزيز أنه على القيادة المصرية أن تدرك أن هناك مواقف قومية مصيرية لا يمكن تبني موقف الحياد تجاهها، وأن الحياد في هذه المواقف هو تهديد لهذه المصالح القومية، لذا فإن موقف مصر تحت قيادة الرئيس السيسي ينقصه إدراك هذه الحقيقية، المملكة من الممكن أن تتفهم الظروف الخاصة التي تمر بها جمهورية مصر العربية، ولكنها لن تستطيع أن تغفر أو تتغافل الرفض أو الغياب في تقديم الدعم حين تكون مصلحة الأمة العربية تواجه تحديات حقيقية، عندما قررت المملكة التدخل العسكري في اليمن، وحتى الحديث عن احتمال التدخل العسكري في سوريا، فإن المملكة لا تدافع عن مصالحها الذاتية الضيقة، بل تنظر إلى الأمر من بعد حماية أمن الأمة العربية واستقلالها، فهناك هجمة إيرانية على جميع ثوابت الأمة تشابه وتعادل هجمة التنظيمات المتطرفة والإرهابية كداعش والقاعدة، وإهمال مخاطر التدخلات الإيرانية سابقًا قاد الأمة العربية إلى الاستسلام لواقع فرض السيطرة الإيرانية على دول عربية متعددة مثل لبنان والعراق وسوريا؛ لذا فإن الحس القومي العربي عليه أن يستيقظ ويتعامل مع هذه التهديدات بشكل جماعي.
التحالف التركي – السعودي هو نتاج الضرورة، والظروف التي أنتجتها الأزمة السورية والأزمة العراقية؛ فتركيا دولة إسلامية تمتلك حدودًا برية طويلة مع سوريا والعراق، ولا يمكن إنكار القلق التركي من التطورات الجارية في كلا البلدين العربيين، والمملكة من الدول القلائل التي تتفهم هموم تركيا ومخاوفها، تركيا على عكس إيران، لم تظهر أي مطامع في العالم العربي، ولم تتبن سياسة التدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم العربي بالمقارنة مع السياسة الإيرانية التي قامت على هذه الأسس، تركيا تتدخل لحماية نفسها من إسقاطات الوضع الخطير في سوريا والعراق، ولا تتدخل لتأسيس قواعد النفوذ، ولا تستخدم الورقة الطائفية أو الدينية أو العنصرية لتفتيت المجتمعات العربية؛ لذا فإن المملكة وجدت منطق ومصلحة في عملية التحالف مع تركيا والاعتراف بحق تركيا في حماية أراضيها ومواطنيها.
الولايات المتحدة الأمريكية
في إشارة إلى التصريح الأخير الذي نُسب إلى جون كيري حول عدم نية واشنطن خوض صراع مع موسكو، وعن عدم تقديم المعارضة حلولاً سياسية للصراع، يقول مازن هاشم إنه لا يلقي بالًا لتصريحات المسؤولين، فهي عادة مثقلة بالدبلوماسية ولا يمكن الركون إلى ظاهرها سلبًا أو إيجابًا، لكنه يعود ويؤكد أيضًا أن الولايات المتحدة الأمريكية في حالة انكفاء وخاصة تحت إدارة أوباما، وهذا معهود من هذه الدولة، تنوس سياساتها الخارجية بين قطبي المبادرة والانعزال، وبعد التجربتين العراقية والأفغانية، أصبحت أمريكة تدرك بعمق الطبيعة الشائكة لتدخلها المباشر ولا سيما بعد أن تراجع ثقلها النسبي في العالم، برغم كل القوة الهائلة التي تمتلكها، ولذا تفضل العمل عن طريق وكلاء يقومون بتحقيق مرادها بالنيابة، وإن كان هذا التحقق ليس متطابقًا تمامًا وبالكلية مع ما تريد، وتدرك الولايات المتحدة أنها خسرت مواقع إستراتيجية بسبب انسحابية غريبة من نوعها ولا حاجة إليها بهذا الشكل، وبتقديري، تتلخص الإستراتيجية الأمريكية فيما بقي من عمر الإدارة الحالية في تعديل خطط من ستشترك معهم ممن عندهم دوافع ذاتية أو مصلحة للعمل في الملف السوري، وبهذا الشكل توفر جهودها، وتستقطب لاعبين جدد مستعدين للسير في ركابها وتنفيذ خططها، كما تستفيد من أخطاء الفرقاء المشاركين مباشرة، أي أنها الآن تركز على الصورة الكبيرة للمشرق وتحاول إعادة تركيبه بشكل يكون أكثر طواعية لها وعاجز عن القيام بنفسه.
وفي ذات الإطار يصبح التحالف السعودي التركي ذو رمزية كبيرة من حيث إمكانية تأثيره على المشهد، فهو سبقٌ من ناحية تجاوز حساسيات قديمة، لكن هاشم يرى أن التدخل البري المباشر لهذا التحالف يبدو أمرًا مستبعدًا جدًا، فالتحالف ما زال جديدًا، والتفاهم ليس مكتملًا، وتوزيع الأدوار ليس واضحًا، والخطة العملية ليس باتة بعد، والتحرك العسكري للتحالف عليه أن يتعامل مع الواقع الميداني التي أنشأه التدخل الروسي والموافقة الأمريكية عليه، وأضف إلى ذلك الرغبة الأكيدة للدول النافذة بألا تترسّخ استقلالية السعودية أو تركيا، وألا يشكلا جبهة خارجة عن الطوق الأمريكي، وللأسف، ما زالت الدول النافذة عالميًا تمنّي نفسها بحلولٍ ليست ناجعة، مراهنة أن الفئات التي تقاتل في أرض سورية أصبحت منهكة وأن عامة الشعب لم يعد يهمهم إلا عودة شيء من الطبيعية إلى الحياة.
روسيا
تراهن موسكو على خططها السياسية والعسكرية في تطويع المسار السياسي وفق رؤيتها المتسقة مع تحسين شروطها وشروط حليفها الأسد ولكن المتابع للسياسة الروسية الخارجية، يجدها تتحرك كلاعب القمار، ترمي بأوراقها ثم تنظر ماذا يحدث وتتصرف، قبل شهر أو أقل من ضمها شبه جزيرة القرم، لو تحدث أحد عن سيناريو كهذا، لكان حديثه ضرب من الخيال، وبشكل مفاجئ دخلت سوريا، وخرجت من عزلة حقيقية بعد تدخلها في أوكرانيا، الأسد بالنسبة لموسكو “جوكر” تلعب به وعليه، والتصريحات المتضاربة بين الحين والآخر، والرسائل التي تريد إيصالها للآخرين، تظهر ذلك، ومن أسباب دخولها سوريا المعلنة تعزيز سلطة الأسد، ولكنها اليوم تقامر بورقة الانفصالية، وتدعم ميليشيات انفصاليه، تقوّض ليس سلطة الأسد، وإنما تهدد بتمزيق سوريا، وذلك للانتقام من تركيا، بسبب إسقاط طائرتها، وتنفيذ خطط موسكو رهن على كيف ستتصرف الأطراف الأخرى، المسألة مسألة وقت، من يسرع ويسيطرعلى الأرض أولاً، يمكن أن يكون له كلمة عليا لاحقًا، والمفاوضات الحقيقية والجادة تكون عندما يدخل طرف آخر عسكريًا إلى الأرض السورية، موسكو جاءت لسوريا لتقول تعالوا نتفاوض، وهي بانتظار الطرف المفاوض المباشر.
كما أن تراخي تراخي الاقتصاد الروسي وتوقعات العجز وما يرافقه من هبوط لأسعار النفط بالتأكيد سيكون لكل ذلك تأثير لكن ليس على المدى المنظور، وإنما يحتاج لوقت، حين تلامس هذه الأمور حياة المواطن الروسي العادي، والمفارقة أن هذه الأزمات تزيد من شعبية بوتين، حيث ينظر إليه الروس على اعتباره “قلعة الصمود” في وجه الغرب، وخصوصًا عندما رفع شعار لم شمل الأراضي الروسية حين ضم القرم.
تركيا
وبشأن استقبال اللاجئين السوريين وعدم إدخالهم في المرة الأخيرة، لعل في التصريح الأخير لرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان المعروف بتصريحاته المعارضة لاستقبال اللاجئين في القارة الأوروبية: “إنّ الاتحاد الأوروبي بات يتوسل إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحل أزمة اللاجئين”، فيه دلالة على أن تركيا لا تريد تحمل المزيد من الأعباء في استقبال اللاجئين، بينما لا يبذل المجتمع الدولي أي دور تجاه جرائم نظام الأسد المتسبب بأزمة اللاجئين في تركيا وفي أوروبا والعالم، فتركيا تريد أولًا أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته نحو اللاجئين وليس الضغط على أوروبا لمكاسب خاصة ولا مطالبتها بأثمان إيواء اللاجئين، وتركيا لم تستلم أية مساعدة حتى الآن، ولو استلمت فإنها ستذهب إلى السوريين وليس للخزينة التركية، فالاتفاق مع الاتحاد الوروبي لا يزال قيد البحث مع وجود تقدم يخدم قضية الملف السوري لإيجاد حل سياسي وإنساني له.
أما جان آجون فيرى أن تركيا منذ بداية الأزمة السورية تدعو إلى إنشاء منطقة آمنة داخل سورية بغية حماية المدنيين السوريين، ولكن للأسف لم تجد تركيا إجماعًا بين الحلفاء الغربيين حول هذه القضية، في الآونة الأخيرة، وبعد تزايد عدد اللاجئين السوريين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا، تغيرت وجهة نظر الدول الأوروبية وبدأوا في الدفاع بشكل متزايد عن الأطروحة التركية، تسعى تركيا لاتخاذ الخطوات اللازمة لتأمين بعض المناطق داخل سوريا لضمان سلامة اللاجئين وللحيولة دون تطبيق الإستراتيجية اللاإنسانية التي يحاول النظام السوري وإيران وروسيا تطبيقها في مناطق سيطرة المعارضة، ومن ناحية أخرى تواصل تركيا باتباع سياسة الباب المفتوح تجاه السورية.
أما السياسة التركية تجاه الملف السوري فيقول زاهد غول، تركيا دولة جارة لسوريا، ولم تختلف رؤية تركيا لسوريا قبل الثورة وبعدها إلا في جانبين، الأول أن الشعب السوري لا يستحق كل هذا العذاب لمجرد مطالبته بالإصلاح والديمقراطية، فما جرى أن بشار الأسد لم ينتهز الفرصة الذهبية التي قدمتها له تركيا في الأشهر الأولى للثورة، ولو فعل لبقي في السلطة السياسية مع إصلاحات دستورية محدودة، ولكنه اختار سبيل الدم والقتل والقمع تبعًا لنصائح إيران وروسيا فأوردوه وأوردوا أنفسهم المهالك، فلم يكن الأمر يحتاج لخمس سنوات من القتال دون فائدة.
وبرأي غول مهما كانت نتائج الصراع في سوريا فالأمر قابل للمعالجة من الناحية التركية وهو الجانب الثاني الذي يهم الموقف التركي وهو الموقف الأمني، فبعد الموقف الإنساني الذي تعالج به تركيا مأساة الشعب السوري، تعالج تركيا ما يخص أمنها القومي الداخلي والحدودي، وحتى لو أقام حزب الاتحاد الديمقراطي دولته على الحدود التركية فإن الحكومة التركية ستعامل هذا الكيان بما يتوجب بخصوص دولة جارة معادية، ولكن هذا الخيار ليس في مصلحة السوريين أولًا، ولذلك فإن من يقاتل على الأرض ضد هذا الخيار الأمريكي والروسي وضد وحدات حماية الشعب هو الشعب السوري نفسه، الذي يرفض تقسيم سوريا، ويرفض الحرب القومية على الأرض السورية لصالح أعداء سوريا، وليس أعداء تركيا فقط، فالمصلحة الشعبية السورية التي تمثلها فصائل المعارضة الوطنية الأصلية ترفض المشاريع الروسية والإيرانية والأمريكية التي تنهش بالجسم السوري.
أما جان آجون يرى أن اتفاق الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حول الأزمة السورية يضيّق من الخيارات التركية، ويبدو بأن هذا الاتفاق يسعى لإخراج تركيا من المعادلة في سوريا، ولكنني أعتقد بأن تركيا قادرة على الوقوف بوجه هذه اللعبة الجديدة؛ فالكتلة الجديدة والحاسمة التي سيتم تشكيلها مع دول الخليج، ستدعم المعارضة السورية دون الحاجة إلى التدخل المباشر، بالمحصلة، الحرب السورية هي حرب استنزاف، والزمن يجري لصالح المعارضة وليس لصالح أقلية نظام الأسد، وأعتقد أننا إذا أخذنا بعين الاعتبار الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التطورات في اليمن، والوضع الصعب الذي سيواجهه حلفاء الأسد جرّاء انخفاض أسعار النفط، ستكون المعارضة السورية، المدعومة من أغلبية الديموغرافيا السورية، هي الفائزة في نهاية المطاف.
سوريا
بالتزامن مع وقف إطلاق النار والتراجعات العسكرية التي تشهدها المعارضة يرى سنان حتاحت في ظل عجز المجتمع الدولي في مواجهة الصلف الروسي والإيراني فإنه من واجب المعارضة السياسية والعسكرية العمل على إنهاء سيولة المشهد السوري بما يدفع الفاعل الأمريكي لمواجهة التحديات الأمنية الناشئة عن تدفق الأزمة السورية إلى خارج حدودها الجغرافية، لقد نجحت الهيئة العليا للمفاوضات في شراء بعض الوقت بحثًا عن فرص جديدة للخروج من مأزقها السياسي، إلّا إن استمرار أداءها السياسي القائم على القبول المشروط من شأنه الآن القضاء على آخر فرص الشعب السوري في تحقيق حل سياسي عادل ومستدام، لذا لا تمتلك المعارضة اليوم خيارًا سوى المضي قدمًا في خيار المقاومة، ومحاولة استغلال الإرهاق الذي ستصاب فيه قوى النظام وروسيا قريبًا، بحسب حتاحت.
أما محمد سرميني فيرى أن الهدنة التي تمت الموافقة عليها منذ يوم السبت 27 فبراير 2016 وسوف يتم البدء بالتنفيذ الفوري من كافة الأطراف ما عدا داعش والنصرة مع حالة من الترقب وتوقع اختراقات من قِبل النظام وروسيا، وسوف تستأنف العملية السياسية (المفاوضات) يوم 7 مارس من أجل تشكيل هيئة حكم انتقالي وليس حكومة وحدة وطنية، العمل يجري على مسارين سياسي وعسكري، السياسي المضي في المفاوضات من أجل التوصل إلى ما جاء به بيان جنيف، والعسكري الاستمرار بالمقاومة من أجل إنهاء الاحتلال الأسدي والروسي والإيراني لكن بطرق مختلفة.
أما السيناريوهات المطروحة على الساحة من تقسيم أو امتداد للصراع أو مفاوضات بلا فائدة فإن حتاحت يرى أن على المعارضة في بداية الأمر تعزيز الديناميكية التي أوجدتها الهيئة العليا في تنسيق أداءها السياسي والعسكري، وإعادة تفعيل آليات تنسيق العمل العسكري على كامل الأراضي السورية، بعد تحقق هذا الأمر يمكن التحدث لاحقًا عن إستراتيجية شاملة تقوم بشكل رئيسي على وضع حلفائها أمام تحدياتهم الحقيقة، وبشكل ثانوي على خلق تحالفات متينة مع قوى إقليمية (كالمعارضة اللبنانية، البارزاني، والمقاومة اليمينية على سبيل المثال لا الحصر) مناوئة للتوجه الإيراني الروسي في المنطقة بهدف تشتيت جهودهم على كامل جغرافية المنطقة.
أما سرميني يقول لا أرى تقسيمًا في سوريا وكل ما يقال أو يجري هو مخاضات، فهم الواقع الإقليمي والدولي يوجب علينا التعامل مع ما يجري من واقع مصلحة السوريين من خلال تقاطعها مع مصالح الدول الحليفة، الطرف الروسي يبحث عن مخرج ويريد إنهاء الحرب في سورية والتي باتت آثارها تهدد الجميع بدون استثناء وهناك اتفاق أمريكي روسي على ذلك، المعارضة خياراتها سياسيًا في المضي في المفاوضات وعسكريًا وبالتنسيق مع الحلفاء تحقيق تقدم ميداني لتغير قواعد اللعبة.