“كلنا متوحشون”، يبدو أن هذه العبارة هي أجل ما يبقى في الذاكرة من الكلام الذي قيل في فيلم العائد The revenant، وهو كلام قليل جدًا بالمناسبة، وحتى هذه العبارة لم ترد على لسان أحد شخصيات الفيلم، بل ظهرت بلغة فرنسية على لافتة معلقة في مشهد كئيب محبط.
أجد في العبارة فاتحة لا بأس بها للحديث عن هذا الفيلم الذي شغل العالم وأثار اللغط بترشيحاته الاثنى عشر لليلة الأوسكار المرتقبة، فالعبارة الصامتة تحيل على سطوة الصورة على الصوت، أو على سطوة المحسوس على المدرَك، ما يفسح المجال لمدير السينماتوفرافيا إيمانويل لوبزكي والمخرج إينيارتو لاستعراض عضلاتهما التقنية كـ “وحشيْن” حقيقيين في هوليود، وبعد كل العبقرية التي أظهرها الرجلان في “الرجل الطائر” (Birdman)، بحثَـا في “العائد” عن تحد جديد خارج الفضاء المغلق، واتخذا من ترويض شلالات كندا وجبالها الثلجية، هدفًا جديدًا.
لا تدور قصة الفيلم في كندا أو الأرجنتين لكن إينيارتو اعتمد على أماكن خلابة في هذين البلدين لاستعادة مشاهد السهول الكبرى الأمريكية في منطقة داكوتا، أما الزمان، فهو بدايات القرن التاسع عشر، حينما كانت الولايات المتحدة تتشكل فوق جثث أهالي القبائل الأمريكية الأصلية، وأراضيهم ومتاعهم، الفوضى والحرب والعنف هو ما يتسم به كل شيء في هذا المشهد الذي أصبح فيما بعد أقوى دولة في العالم: بعثات الصيادين الأمريكيين العسكرية لجلب الفراء الثمين من أعماق البرية المخيفة، قبائلُ الآريكارا الأمريكية التي لا ترحم سارقيها ومغتصبي ثرواتها، التجار الفرنسيون الأوغاد الذين يستغلون حاجة هذه القبائل للسلاح والأدوات المفيدة لعيشهم وحربهم، وقوى الطبيعة العاتية التي عبثا تحاول فسخ هذا المشهد الإنساني القبيح.
كل شيء متوحش في هذا العالم، ولم يدخر إينيارتو وصديقه لوبزكي جهدًا ليعرض لنا تفاصيل هذه الوحشية، منذ المشاهد الأولى تنهال النبال والرماح على بعثة الصيادين البيض من كل جانب في مشهد بانورامي مبهر، يجعلك تتلفت من حولك خوفًا من سهم طائش خارج الشاشة، تضطر البعثة للتراجع وترك غنائمها من الفراء، ويصر قائد البعثة أندرو هنري (دومنال غليسون) على الأخذ برأي دليله الخبير هيوغ غلاس Hugh Glass (ليوناردو ديكابريو) والابتعاد عن النهر وسلك طريق وعرة عبر الجبال الثلجية، لم يكن الجميع مؤيدًا للقرار، ولم يخف جون فتسجيرَلد (توم هاردي) تبرمه منه، خصوصا لما عُرف عن هيوغ غلاس من معاشرته لقبيلة الباوني وإنجابه منهم ابنَه الذي يرافقه هاوك (فورست غودلك)، ولكي لا أكشف عن مفاجآت الفيلم وأحداثه، أكتفي بالإشارة إلى أن الفيلم يتتبع هيوغ غلاس في رحلته المذهلة وسط جحيم الطبيعة القاسية، وبجسد شبه محطم، حتى وصوله إلى المستعمرة الأمريكية وطلبه الثأر ممن سبب له كل ذلك الأذى.
هل هو فيلم أكشن؟ ليس تمامًا، لنقل إنه دراما عامرة بالمغامرة والإثارة، حيث تصبح القصة ثانوية أمام تأثير عناصرها في نفس المشاهد، والعناصر هنا كثيرة، لكن أهمها العمل الإخراجي والسينماتوغرافي المتميز الذي قام به إينيارتو ولوبزكي، لن أدخل في تفاصيل التصوير، والتقنيات الحديثة جدًا، وساعات التصوير المضنية في تلك الأمكنة المتجمدة أو الخطيرة، ولكن لنتأمل قليلاً في النتيجة.
لا أعتقد أن المشاهد سوف ينسى بسهولة مشهد الصراع مع الدب، وكم بدا واقعيًا، وكم بدا مفزعًا، تقول الأسطورة إن مشهد لجوء هيوغ غلاس (ديكابريو) إلى جثة الحصان والاحتماء بجلده (بعد نزع أحشائه) تم باستعمال حصان حقيقي، وهي طبعا لا تتجاوز أن تكون إشاعة مردها قوة المشهد نفسه وسطوته على مشاعر المشاهدين.
أما مشهدي المفضل في الفيلم، فهو بكل تأكيد حينما تضرع هيوغ غلاس أمام رجل الباوني المنكب على جثة البيسون، ليعطيه بعضًا من اللحم، وكضبع شريد، حصل هيوغ على قطعة اللحم النيء وراح يلوكها في نهم، كما قلت فكل شيء متوحش في هذه الصورة، ولكنك لن تدير وجهك عنه، جمال البشاعة؟ كلا، بل هي سطوة البشاعة، وسيطرتها على الإنسان، تلذذه الخفي بوحشيته التي لم يتخلص منها تمامًا، لأننا جميعنا متوحشون، مهما أبدينا من تحضر ومهما ادعينا من قيم.
لا يبدو سهلاً فهم الصورة الخفية من وراء مشاهد “العائد”، سيكون طبيعيًا أن نقول إن الفيلم مجرد قصة أخرى عن الانتقام، ومحاولة جديدة من المخرج المكسيكي لتجاوز نفسه واستعراض موهبته، والحصول على تمثال ذهبي جديد ربما يملأ به فضاءً متروكًا في مكتبه، ولكن إينيارتو أثبت في كل مرة أنه ليس سطحيًا إلى هذا الحد، وأن له فكرته عن السينما وعن ما يريدنا أن نراه.
في مستوى ثانٍ، يمكن أن نقول إنه جاءنا من كتب التاريخ ببعض مشاهد المجزرة، الأمريكيون البيض، يفتكون أرض الأصليين، ويسرقون فراء حيواناتهم التي يعيشون عليها، والفرنسيون يتاجرونهم فيأخذون منهم مقابل إرجاع أملاكهم التي سرقها الآخرون منهم، يغتصبون نساءهم، يتركونهم لليأس والانتحار، ثم يطلب من المشاهد أن يتأفف من طريقة أكل اللحم النيء البدائية، أو من مقاومة الهنود لهؤلاء البيض وقتلهم حيثما ثقفوهم.
كلنا متوحشون، لكن هناك من أجبر أن يكون متوحشًا، وهناك من اختار أن يكون كذلك، لقد أعلن ديكابريو أثناء تسلمه جائزة أفضل ممثل عن دراما في حفل الجولدن جلوب، أنه يهدي الفيلم إلى الأمريكيين الأصليين الذين سقطوا ضحايا الحرب الأمريكية الهندية، ومجازرها المريعة، ربما هناك فكرة أن هؤلاء هم شهداء الوطن الأمريكي، ولقد ماتوا في سبيل أن تكون أمريكا وطنًا للجميع، وهي فكرة أكثر رومانسية ليتبناها شخصٌ متهِمٌ بطبعه كإينيارتو، لذلك نجد أنفسنا في مستوى ثالث، حيث نلحظ هذا التقابل بين المنزع الواقعي الذي يسيطر على المشاهد وعلى ملامح الشخصيات، وبين تعمد إينيارتو تغيير الكثير من القصة التي دونها التاريخ عن مغامرة هيوغ غلاس في سبيل البقاء، لقد جعل منه المخرجُ المكسيكي، عنوانًا للتزاوج الممكن بين الأمريكي الأبيض، والأمريكي الأصلي.
إنه ذلك الخيار الوسط الذي يحمي الأمريكي الأبيض على حساب عدوه حينًا، ويحمي الأمريكي الأصلي على حساب عدوه الأبيض حينًا آخر (قتله للضابط الأمريكي حينما هاجموا قبيلة الباوني، وحاولوا قتل زوجته)، فلم يُعرف عن الرجل أنه خالط الباوني إلى حد الزواج منهم، وإنجاب هاوك، ذلك الحلم الأمريكي في شكل غلام وديع، ولم يعرف أنه أنقذ ابنة أحد زعماء الآريكارا من براثن الفرنسيين.
كان ذلك مجالاً لإينيارتو ليحلم، ويصنع أمريكيًا معاديًا لجون فيتسجيرالد، الرجل الذي اختصر كل شيء سيء في أمريكا: القتل، البراغماتية الميكافيلية، الرأسمالية الإمبريالية، العنصرية، التآمر، الخديعة، الكذب… المصلحة الاقتصادية، قبل الشرف، وقبل الأخلاق، والتفكير العملي والمنفعي، يجعل من القيم الأخلاقية مسألة رجعية ومثيرة للسخرية.
في حالة هيوغ غلاس، كان المنطق عقيمًا، ومخطئًا، وتحولت حكمة فيتسجيرالد إلى جريمة قتل، وكان على الطبيعة الأمريكية القاسية، أن تنتخب أحدهما للبقاء، ولتمثيل أمريكا، نحن نعرف من بقي منهما، وكذلك إينيارتو، لكنه أصر أن يحلم، واصل حلمه حتى النهاية، حينما (ويمكنكم أن تتجاوزوا هذا السطر لئلا تنكشف لكم أحداث مهمة) ترك قاتله للطبيعة نفسها لتواصل عملها الانتقائي الفذ.
كلنا متوحشون، لأن الطبيعة نفسها متوحشة، عنيفة، ضاربة في العمق الإنساني، وناحتة لأساس المجتمع، إن الفيلم من هذه الزاوية، عودة إلى جذور المجتمع الأمريكي ونفسيته، وهي نفسية مقاتلة افتكت بقاءها من براثن الطبيعة افتكاكًا.
من المؤكد أن إينيارتو من يتوغل كثيرًا في هذه المقاربة التي أشرت إليها، ولكنها كانت هناك. ومن المؤكد أيضا أن من زعم أن الفيلم معد أساسا لحصد الجوائز، لم يبتعد عن الحقيقة كثيرا، لكن من الإجحاف أن نختصر الفيلم في هذه الصورة، لقد وقع الفيلم ضحية نجاح إينيارتو، وربما أيضًا ضحية نجاح ديكابريو، لو أنه تمكن من الأوسكار المنتظر.
لا أحد يجهل أمر الهستيريا الغريبة على الإنترنت حول علاقة ليو بتمثال الأوسكار، فهو بنظر الكثيرين أكثر شخص حرم من الجائزة، وأكثر شخص ظلم في الحفلات السابقة، ولقد صارت الفكرة مسيطرة على الأذهان كلما ظهر الرجل في فيلم جديد، وهو ما جعل التركيز منصبًا تمامًا على آدائه، وجعل من تقييمه أمــرًا غير موضوعي بالمرة.
أولاً، ليس ليو أكثر شخص ترشح للجائزة ولم يظفر بها، فقد ترشح بطل لورانس العرب، بيتر أوتول للجائزة ثمانية مرات، ولم يظفر بأية واحدة منها، كما ترشح ريتشرد برتن (من المرعوب من فرجينيا وولف؟) لها سبع مرات، بينما ترشحت غلين كلوز (100 كلب دالماس وكلب) ست مرات دون أن تظفر بإحداها.
ثانيًا، لم يكن ليو مظلومًا كثيرًا في المرات التي حرم فيها من الأوسكار، بقدر ما كان غير محظوظ، ويمكننا أن نعود إلى الترشيحات الأربعة الماضية لندرك ذلك؛ لقد كان دوره في فيلم مارتن سكورسيسي “ذئب وول ستريت” متميزًا، لكن من الإجحاف مقارنته بالدور الأسطوري لماتيو ماكونوهي في فيلم نادي دالاس للمشترين، حين أدى الرجل دور مصاب بالإيدز، تنقلب حياته من العبث والفساد إلى الصراع من أجل قضية عادلة.
وفي سنة 2007، ترشح ليو عن دوره المتميز في فيلم الألماس الدموي، وفاز بالجائزة فورست وايتايكر عن الدور الوحيد الذي سيذكره الناس به: الطاغية عيدي أمين في فيلم “آخر ملوك إسكتلندا”، لا مجال للمقارنة، يمكنني أن أؤكد لكم ذلك!
أما في سنة 2005، فلقد قدم ليو برأيي أفضل أدواره، وكان نقطة التحول في مسيرته الحافلة بالأعمال المتميزة. أتحدث هنا عن فيلم الطيار Aviator ودور هاورد هيوغز الرائع، ومن غير شك فليو في ذلك العام كان ليستحق الأوسكار لولا فيلم Ray، وجهد جيمي فوكس الخرافي لتجسيد أسطورة البلوز الأمريكية الذي توفي في تلك السنة، ويجعل القلوب كلها تميل إلى كفة جيمي.
أما أول ترشيح لليو، فقد كان عن دوره الثانوي في فيلم ماذا يأكل جيلبر جرايب، وقد كان بعد فتى مغمورًا ذي عشرين عامًا، ولم يكن له حظ أمام العملاق تومي لي جونز آنذاك حتى وإن كان أفضل منه.
لقد عانى ديكابريو من سوء الحظ كثيرًا، وأعتقد أنه في دوره الثانوي في فيلم دجانغو، كان يستحق ترشيحًا للأوسكار، ربما لو لم يطغ دورُ كريستوفر والتس على الفيلم حينئذ، حيث فاز الرجلُ بالأوسكار بالفعل.
إن قسمات وجه ليو الحادة، تُداهم الذاكرة بسهولة وتحفر لها مكانًا فيها، مهما كانت الشخصية التي تجسدها، إن المشاهد يرى ليو، قبل أن يرى هيوغ غلاس، أو هاورد هيوغس، أو جوردان بلفورد، ربما يعطي ذلك انطباعًا زائفًا بفشل التقمص أو ضعف الأداء، لكنني أعتبر الرجل موهوبًا بالفعل، وأعتقد أن دوره في فيلم العائد، يستحق الأوسكار لو فاز به، وليس مجاملة فرضتها هستيريا الإنترنت، لأنه يجب أن ندرك أن تلك الهستيريا أفرزت أيضًا هستيريا معاكسة جعلت الضوء مسلطًا بشدة على ديكابريو، ربما أكثر من اللازم.
لقد ترشح توم هاردي عن دوره في الفيلم نفسه، كأفضل أداء عن دور ثانوي، وأثار الإعجاب كثيرًا، رغم أن شخصيته وتقاسيم وجهه (إذا ما تجاوزنا الماكياج والزي) هي نفسها شخصية رون التي قدمها في فيلم أسطورة (2016)، لكن لا أحد يسلط الضوء على توم هاردي، الكل يجزم تمامًا أن الفيلم أعد على مقاس ليو، ولعبت الآلة الإعلامية لتسرب حجم المعاناة التي واجهها لإنجاز الفيلم، وأنا أعتقد أن كل ذلك صحيح.
إن ليو يبحث عن الجائزة، ولكنها ليست المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك، لقد كان ذئب وول ستريت أيضًا محاولة لإخراج كل الانفعالات الممكنة من ليو، لإقناع لجنة التحكيم، تدحرج وصرخ وضحك وعبث وفعل كل شيء ليظفر بالجائزة، ولكن الهستيريا لم تكن مسلطة كما ينبغي آنذاك.
إن ليو يبحث عن الجائزة وهذا حقه، أما نحن، فعلينا أن نتجاوز ذلك لننظر إلى العمل نفسه، لقد كان ليو يستحق الجائزة في 2014، لكن كان هناك من هو أفضل منه، أما اليوم فيبدو أنه أفضل المرشحين رغم أنه ليس أفضل أداء له في مسيرته.
لقد شاهدتُ مايكل فاسبندر في ستيف جوبز، ولقد كان عاديًا جدًا، بل ربما لم يشبه ستيف جوبز أصلاً، أما برايان كرانستون في ترمبو Trumbo، فقد كان رائعًا، ولكن يمكنني أن أمنح التميز أكثر لشخصية الكاتب دالتون ترامبو، وربما لشخصية كرانستون نفسه التي لا يألفها المشاهد مثلما يألف ليو، مات دايمون في فيلم رجل المريخ The martian كان مبدعًا وقدم أداءً فريدًا، وهو برأيي يستحق الجائزة أيضًا، لكن أعتقد أن الدور كان ثريًا ويسمح له بأشياء كثيرة، على عكس دور غلاس الضيق جيدًا، والمقتصر على الحركة والملامح، أما دور إيدي ريمان في الفتاة الدانماركية فلا يمكنني إبداء رأي بشأنه لأنني لم أشاهده.
إن ما أريد أن أذهب إليه، هو أن العائد فيه تكلف كبير على مستوى السيناريو (مبالغات كان بالإمكان تفاديها لو أخلص المخرج أكثر للقصة الحقيقية) وربما على مستوى الصورة والأداء، لكن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا ننساق وراء الهستيريا المضادة ونتجاهل عبقرية ما فيهما، إن إينيارتو يستحق جائزة الإخراج مرة أخرى (رغم المنافسة الشرسة) وإن ديكابريو يستحق التمثال الذهبي، وإن لم يكن أفضل أداء له في مسيرته.