“بعد واقعة الشاب التونسي في ديسمبر 2010، التي أقدم فيها على إشعال النار في نفسه، امتدت ألسنة نيران البوعزيزي لتطال دول عربية أخرى بدأت بدولته تونس، التي يطلق عليها شباب العرب ملهمة الربيع العربي، مرورWا بمصر، وليبيا ثم سوريا واليمن و…”.
“هبة الشباب” تم تعريفها وقتها بأسماء عدة بينها الربيع العربي والصحوة، فيما أطلقت عليها الأنظمة وقتها هوجة الاحتجاجات، وبغض النظر عن المسميات خلفت نيران البوعزيزي تغيرات كثيرة بمنطقة الشرق الأوسط، أبعدته كثيرًا عن سنوات الجمود السياسي والصمت، لكن الأهم كان في علاقات تلك الدول بدولة الاحتلال الإسرائيلي، ونظرة دولة الكيان نفسها لكيفية الحذر من تداعيات تلك الهبة، حتى إنها أنشأت في بدايات العام 2011 ملحق جديد بمعهد أبحاث الأمن القومي، وخصصته لدراسة التداعيات الإقليمية والدولية للربيع العربي، وآثاره المحتملة على الأمن القومي الإسرائيلي.
بالعودة للتاريخ العربي الحديث، نجد أن الجيش والدين كانا يمثلان مصدرا القوة الرئيسيين في الشرق الأوسط على مدى سنوات تقارب الخمسين عامًا، انتصرت فيها المؤسسات العسكرية في معظم المواجهات، باستثناء ثورة إيران الإسلامية في العام 79، لكن مع ثورات الربع العربي تغير الواقع تمامًا، وبدا أن الأحزاب السياسية الدينية في طريقها لاعتلاء كرسي الحكم بدول عدة، بدأت بحزب النهضة في تونس، ثم جماعة الإخوان في مصر، والجماعات الإسلامية في سوريا، مع تدخلات ومصالح إقليمية حكمت الصراع داخلها، وكذلك ليبيا التي كانت ثروتها البترولية وبالاً على شعبها، وأدت لاقتتال نخبها السياسية وقبائلها، لتمهيد الطريق لتكون دولة القذافي حاضنة مثلى لتنظيم داعش الهارب من سوريا والعراق، وأصبحت الأحزاب السياسية الدينية المهمشة سابقًا، قوة لا يستهان بها في المنطقة، حملت تداعيات مروعة لإسرائيل والمجتمع الدولي ككل.
لم تقف دولة الكيان مكتوفة الأيدي أمام تلك التحديات، وسارعت للبحث عن فرصها في التطورات الأخيرة في الشرق الأوسط على صعيد السياسة الخارجية الإقليمية لها، وعلاقتها مع الدول العربية والإسلاميّة، فشجعت كتل الدولة العميقة بتلك الدول لإنجاح الثورة المضادة، وهو ما تحقق لها في بعض تلك الدول.
إسرائيل أدركت أن الهزة التي تشهدها دول الجوار بعيدًا عن كونها تساهم في إعادة تشكيل أنظمة تلك الدول فقط، فإنها تؤثر في طبيعة التهديد الذي تتعرض له من شعوب رافضة لاحتلالها لدولة فلسطين، بداية من ضعف النظام في مصر وغيابها عن فرض القانون بسيناء، وانهيار نظام الحليف القوي لها في سوريا، مثلما حدث سابقًا بلبنان خلال فترة الحرب الأهلية، التي شجعت الجماعات الفلسطينية بلبنان على مهاجمة أهداف لدولة إسرائيل.
ما تخشاه إسرائيل حاليًا بمصر، لا يتعلق بالنظام القائم، لكن بالضغوط المفروضة عليه، فالنظام المصري مازال يملك جيشًا قويًا وضخمًا جيد التسليح، صحيح أن إمكانية دخوله في حرب مع إسرائيل مستبعدة على المدى القصير، لكن نقص الاستثمارات الغربية وهروب السياحة، وانخفاض إيرادات قناة السويس، والانهيار الكبير للجنيه المصري أمام الدولار، وارتفاعات الأسعار وخفض الدعم وزيادة تكلفة الخدمات الأسياسية، ينبئ بانتفاضة خبز مقبلة، من المتوقع أن يقابلها النظام بإلقاء اللائمة على أعداء خارجيين، ربما تكون إسرائيل أولهم لإشغال وإلهاء المواطنين، ما قد يعني أن النظام المصري قد يحرك كتائب من قواته العسكرية إلى سيناء بحجة الدفاع عن البلاد ضد نوع من التهديد الإسرائيلي، وهو نموذج يلقى قبولاً شعبيًا ويخفف من الضغوط الداخلية على أي نظام حاكم.
سوريا هي الأخرى ستشكل صداعًا لدولة الكيان، فسقوط نظام الأسد بات واقعًا لا مفر منه، خصوصًا بعد أن تورط النظام في قتل أعداد مهولة من المواطنين، أكثر بكثير من تلك التي لاقت حتفها في الحروب مع إسرائيل، وبات بشار هو الحاكم العلوي الأخير للدولة السورية، ما يعني أن الخطر على الحدود السورية – الإسرائيلية آخذ في الارتفاع، تحكمه فقط سيناريوهات ما بعد بشار، خصوصًا مع الانقسام الكبير بين تيارات المعارضة، الأمر الذي ينبئ بظهور تحالف يضم جماعات سنية مختلفة، تشمل القوى الإسلامية والعلمانية والليبرالية على حد سواء، وهو أمر مقبول إسرائيليًا، لكن السيناريو الأكثر رعبًا لها هو نشوب حرب استنزاف داخل سوريا يهيمن فيها المتطرفون، وتصبح مرتفعات الجولان بيئة محتملة للصراع، وهي أسوأ كوابيس دولة الكيان لذا تسعى جاهدة لإطالة أمد الأزمة قدر الإمكان، لحين فرض ما ترضاه داخليًا بسوريا.
وفي غزة، لم تفلح إسرائيل بالتعاون مع النظام المصري القائم بمنع تهريب البضائع عبر الأنفاق، وزادت موجة الأسلحة المهربة لحركة حماس الشوكة في حلق إسرائيل، وهو ما ظهر جليًا في الحرب الأخيرة 2015، التي نالت فيها دولة الكيان ضربات موجعة، لذا تسعى دولة الكيان للعمل على منع تحول القطاع إلى مصدر للهجمات ودعم عدم الاستقرار، وتفتيت الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لساكني القطاع، لينكب على مشاكله الداخلية.
في الأردن، تواجه العائلة المالكة انتقادًا على الساحة الداخلية حول العدالة الاقتصادية والفساد، لكنها تتعامل بجدية وواقعية معها، بيد أن الأزمة السورية قد تفاقم من هذه التوترات، وهو ما قد يؤثر بدوره بصورة سلبية على إسرائيل.
لبنان هي الأخرى مرشحة للاشتعال، فحزب الله أيقن بفقدانه الراعي الرئيس له بالمنطقة “الأسد ونظامه”، وفي حال شعوره بالخطر، لن يتورع عن توجيه أسلحته لإسرائيل.
الخلاصة.. إن هيمنة التيارات الإسلامية على دول الربيع العربي أو بعضها، ودورها الفاعل في الخارطة السياسية الحالية، حتى لو لم تكن على كرسي الحكم، مثلما الحال في تونس بالنسبة لحركة النهضة، أو الوضع الحالي بسوريا، واليمن، وليبيا، بعيدًا عن الأزمة في مصر، وصلت بمخاوف إسرائيل لأوجها، بشأن أمنها القومي، لذا فهي تسعى للحفاظ على النظام الأردني الذي يقوم بدور شبيه بما كان يفعله مبارك، وتعمل مع الولايات المتحدة لمنع تكرار الأمر ذاته الذي حدث في القاهرة مع النظام الأردني، مع ضرورة إعادة فتح قنوات اتصال مع الإسلاميين، للتقليل من سوء الفهم بين الجانبين، وفتح ملف التسوية مع الفلسطينيين من جديد.