حصل فيلم سبوت لايت (بقعة الضوء) صباح اليوم على جائزة الأوسكار عن فئتي أفضل فيلم وأفضل سيناريو، وحصلت تحقيقات جريدة البوسطن جلوب التي دار حولها الفيلم على جائزة البوليتزر عام 2003، كلتا الجائزتين هما أكبر إنجاز قد يحققه أي عمل في مجالي السينما والصحافة عالميًا، وكصحفيين؛ ربما يمكن النظر إلى فوز الفيلم بالجائزة كإهداء خاص إلينا، وقد يكون هذا الوقت تحديدًا مناسبًا للغاية لإلقاء النظر على مجموعة من الملاحظات التي تخص المهنة الصحفية في بقعة الضوء؛ بقعة الضوء التي سلطها مجموعة من الصحفيين وفيلم يحملان نفس الاسم على مجموعة من الأزمات التي تعاني منها مهنتنا ومجتمعاتنا على حد سواء.
يحكي الفيلم قصة أشهر تغطيات فريق (بقعة الضوء)؛ الفريق المسؤول عن التحقيقات الاستقصائية في جريدة بوسطن جلوب، الفريق الذي عمل على تغطية ملفات كممارسات الدائنين وأحوال المصحات العقلية والسجون في الولايات المتحدة، ترشح الفريق للبوليتزر أكثر من مرة آخرها عام 2012، كما حصل عليها في التغطية التي يتلو الفيلم قصتها عن التستر المنهجي للكنيسة الكاثوليكية على اغتصاب آبائها وكهنتها لأكثر من ألف طفل في مدينة بوسطن وحدها.
المعلومات ملك الجميع … بلا استثناء!
إذا بدأنا بمجتمعاتنا لنبقي مساحة لأزمات مهنتنا؛ فلا شك أن إشكالية حرية تداول المعلومات خير بداية.
في سياق يدعي الديموقراطية؛ تصبح الشفافية شقًا لا يمكن التغاضي عنه، فإذا كان الشعب مصدر للسلطات؛ فإن الوصول للمعلومات؛ كل المعلومات يصبح حقًا أصيلًا على الرأي العام المانح لهذه السلطة، فكل قرار ينبني بالضرورة على رأي، وكل رأي لا تغذيه المعلومات هو رأي فاسد بالضرورة، ولأن الرأي العام هو بالضرورة أكبر من مجموع مكوناته؛ فإن ممارسة هذا الرأي سلطته على مكوناته تلك إلى جانب من عهد لهم بتسيير أموره تتطلب قدرته على الوصول إلى كافة المعلومات بأكبر قدر ممكن من الشفافية، الشفافية التي تمكنه من المحاسبة والدفاع عن مصلحته العامة.
في الفيلم نرى الصحفيين يدخلون إلى أروقة المحكمة مستخرجين كل ما يحتاجونه من معلومات عن القضايا السابقة بدون أن يسألهم أحد عن السبب، نرى الكنيسة ملتزمة بنشر تقرير سنوي عن كلية العاملين بها، نرى أرشيفات لا يجرؤ أحد على منع الوصول إليها، نرى الصحفي مذكرًا القاضي أن الأمر لا يتعلق بكون المواد المحفوظة حساسة أم لا؛ بل يتعلق بالضرورة بكون هذه المواد حق للرأي العام.
ربما إذن ندرك أن المرة القادمة التي يضطر فيها صحفي أو باحث في شأن ما إلى الحصول على تصريح أمني للوصول إلى وثائق في أرشيف أو مكتبة عمومية ما أن مجتمعنا يتخلى عن حق أصيل من حقوقه.
الصحفي ليس ببطل، لكن الصحافة بطولة
لا نرى على طول الفيلم أي صحفي قافزًا أمام النيران أو منقذًا الأزمة في أحرج اللحظات، نرى أشخاص جالسين في مكتبات وسائرين وراء أناس لا يرغبون في الحديث إليهم، نرى حسابات تحريرية وخيوط كثيرة تترك قبل اكتمالها، الواقع أن الصحفي ليس ببطل الفيلم أو القصة، وإنما القصة هي عملية التحقيق ذاتها، دور البطولة هنا لعملية تتبع الأدلة والخيوط الموجودة أمام العين وغير المرئية بالضرورة.
بهذا المنطق لا يصبح الصحفي أكثر من شخص يؤدي عمله، إلا أن هذا العمل في حد ذاته هو خط الدفاع الأساسي عن الرئيسي عن المصلحة العامة، هذا الخط تحكمه بالضرورة اختيارات كالسياسة التحريرية والقدرة على رؤية ما وراء الظاهر من أنماط وأنظمة، هنا تخطو الصحافة أفرادها برؤاهم وتحيزاتهم لتصبح الحارس اليقظ ليس للمصلحة العامة؛ وإنما للحق العام في المعرفة والشفافية.
ربما يكون من الصعب علينا كمعشر الصحفيين أن ننزع عن أنفسنا البطولة والملحمية بهذا الشكل، إلا أن هذه هي حقيقة الأمر، ليس دور صحفي أن يقفز وسط النيران مخلصًا العالم من الشر؛ إنما الدور الحقيقي هو العمل المنهجي (الممل في غالب الأحوال) والمجتهد لضمان بقاء ملحمية وبطولة دور الصحافة في الكلية، فواقع الأمر أن الطريق للوقوف في الجانب الخطأ ولعب دور يناقض السابق أسهل ما يكون، ويكاد يكون منحصرًا في غياب الجدية والمثابرة واتخاذ الطريق السهل.
الحقيقة ملقاة على قارعة الطريق
“ماذا عنا؟
لقد كانت كل قطع الأحجية تحت أعيننا.. لماذا لم نتحرك حتى الآن؟”
وصف عالم الاجتماعي الشهير رايت ميلز دور عالم الاجتماع بـ “رؤية غير المألوف في المألوف”، وربما يكون هذ الدور أليق بالصحفي من عالم الاجتماع، ففي عالم أصبح الوصول فيه لقدر لا متناهي من المعلومات لا يتطلب أكثر من الضغط على زر؛ لا شك في أن الحقيقة ملقاة على قارع الطريق، كل ما يتطلبه الأمر في هذه الحالة هو عين قادرة على التعرف على الأنماط والتناقضات، عين تدرك أن القصص غالبًا لا تقف عند نقطة أو شخص معين.
تفرض وفرة المعلومات والمصادر علينا عبئًا ربما قد يكون أكبر بكثير من ندرتها، إذ تعني هذه الوفرة إذا اقترنت بمحدودية المصادر ومجالات النشر والحديث أن التردد أو الاستسهال كفيلة بدفن الحقيقة؛ بل وربما تكون كافية لدفع الزيف أو حتى الموت إلى حدود الواقع، تساءل رئيس الفريق التحريري التساؤل الذي ورد في الاقتباس أعلاه، ويبدو رد رئيس التحرير عليه غاية في الأهمية: “من السهل أن ننسى أنا نقضي أغلب وقتنا سائرين في الظلام، إلا أن بزوغ ضوء واحد كفيل بأن يترك كلًا منا بقدر كافي من اللوم”.
“لا نبحث عن أشخاص؛ نبحث عن نظام”، أو في قول آخر: القصة في قانون الحركة لا المحرك
ربما تتشابه النقطة الحالية مع السابقة في البداية، إلا أنها غالبًا أهم درس قد يجب أن نلفت نظرنا إليه، فلكل قصة أبعاد عدة؛ أبعاد متراكبة، وكما لا يتوقف التعرف على مرض التشريح حتى الوصول إلى العضو المريض؛ بل يجب فهم فيسيولوجيا الجسم وآليات عمل المرض ذاته، يتطلب التعامل مع الواقع والقصة الصحفية ذات القدر من التوغل والتوسع، فالقصة الصحفية أبطالها أفراد وأحداث؛ إلا أن التحقيق الصحفي لا يهدف أساسًا إلى تلاوة القصة؛ وإنما التوغل في تتبعها حتى الوصول إلى آلية حدوثها في الواقع بتشابكاته المختلفة.
هنا قد يمكن اقتباس نقطة ذكرها الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين عن دور الناقد الاجتماعي، وهي النقطة التي قد تكون أكثر مناسبة لدور الصحفي الاستقصائي أكثر ربما: “الجمهور يجب أن يُـثـْبَت، دوما، بأنه مخطئ، وأن يشعر، مع ذلك، بأن الناقد ينطق باسمه.”