ترجمة وتحرير نون بوست
أتذكر بوضوح أول مرة قمت فيها بالتصويت ضمن الانتخابات الإيرانية، كان ذلك في يوم صيفي منعش في يونيو 2001، حيث ظفر الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي بولاية رئاسية ثانية، وكان الختم الأزرق يظهر على قمة صفحة التصويت التي تتضمن هويتي الشخصية، وحينها شعرت بالفخر الحاد والمبهج.
تجول ذكرى تلك الانتخابات اليوم بشكل كبير في خلدي، وذلك في خضم مراقبتي لنتائج تصويت يوم الجمعة مع عائلتي، مختلفة معهم عمّا قد تعنيه نتائجها بالنسبة للمستقبل الإيراني.
في عام 2001، كانت إيران تتجه في مسار لا رجعة فيه نحو الإصلاح الداخلي، بعملية غير ملوثة بأي تدخل غربي، عرّابها المواطنون والقادة التقدميون الذين يكشفون الطريق قدمًا، وفي ذلك الوقت، كان أولئك القادة، يظهرون وكأنهم فاتسلاف هافيل ورجل الدين الثوري موسى الصدر مجتمعين في شخصية واحدة، وبدت الانتخابات، على عكس الانتخابات التي أُبرمت نهاية الأسبوع الماضي، مليئة بفرص إعادة صياغة السلطة السياسية الحقيقية بدلًا من كونها مجرد إعادة معايرة روتينية طفيفة.
حينها كانت طهران جنة فكرية شابة وواعدة، يعمل ضمنها الإصلاحيون الإسلاميون، الإصلاحيون العلمانيون، المدافعون عن حقوق المرأة الذين طرقوا بابًا إثر آخر في القرى، والناشطون في المناطق الحضرية الذين يجتهدون لحماية كل شيء ابتداءًا من الفهد الإيراني وليس انتهاءًا بتبخر مياة بحيرة أورمية؛ وكان يمكنك أن تجلس قرب أقدام آية الله في الصباح لتستمع لإستراتيجية تحقيق المساواة بين الجنسين من وجهة النظر الدينية، لتذهب مساءًا لتجتمع مع الطلاب المعارضين الراديكاليين في منزل متآكل وسط المدينة، لا يزال مليئًا بقصاصات الوثائق التي سُرقت من سفارة الولايات المتحدة خلال أزمة احتجاز الرهائن عام 1979، وفي كل ليلة تقريبًا، كان يمكنك حضور أمسية قراءات أدبية، أو الاتجاه للمسرح الذي يسخر من النظام مستخدمًا استعارات تتراوح من اقتباسات لعبة البيسبول إلى روائع موليير.
الصورة: الإيرانيون يدلون بأصواتهم في انتخابات يوم الجمعة الماضية.
كان الإصلاحيون في تلك الأيام متفائلين للغاية، حيث استندوا لأقول كارل بوبر للقول بأن الحرية ستأتي إلى إيران في يوم من الأيام، سندعم جميع الفلسطينيين، سنظهر أنفتنا أمام الغرب، وسنكون منارة للتقدم لبقية دول الشرق الأوسط، والتي كانت في تلك الأيام بلادًا سياسية مقفرة.
في طهران، لم ينكمش المعارضون في الظل كما هو الحال في تونس أو القاهرة، بل كتبوا في أعمدة الصحف ليقولوا “قدمت عائلتي ثلاثة شهداء في الحرب مع العراق، وأنا الابن الوحيد الباقي. أنا أؤيد التغيير، ولي الحق في الكلام”،كما كان الناس يحتشدون أمام أكشاك الصحف ليشتري كل منهم خمس صحف يوميًا.
في تلك الفترة قدمتُ تقارير صحفية حول المحاكمات التي تخوضها المحاميات، اللواتي كن يمثلن عائلات الطلاب المعارضين الذين قتلتهم القوات شبه العسكرية، ورفعوا أصواتهن ليعترضوا على القضاة الذين يعتمرون العمامات، وأعطاني وجودي كصحفية في خضم كل ذلك نوعًا من الامتياز منقطع النظير، حيث كنت أستذكر وأنا مستلقية على فراشي في جوف الليل المحادثات التي مرت في ذلك اليوم، وكيف كان يبدو بأن التاريخ لا يُصنع بأيدي القادة الكاريزميين، بل بالقرار اليومي الذي يتخذه الناس العاديون بترك الخوف والعمل بأمل.
ولكن المراسلين المخضرمين في سلك الصحافة الغربية، كما أذكر، لم يكونوا متأثرين بكل هذا الفوران، حيث طرحوا أسئلة متحذلقة حول الإصلاح الدستوري، المؤسسات غير المنتخبة، والأجهزة الأمنية الموازية، لم يكونوا على قدر متعة المشهد على الإطلاق، وبدا لي في ذلك الوقت، وكأنهم ساخرون متحجرون، يعيشون بمنأى عن انتعاش الشباب الإيراني وحيوية أهل الفكر في طهران، لم يتأثروا بالأغاني الثورية التي اعتاد الطلاب غناءها، تلك الأغاني التي تستحضر الدموع إلى مقلتي كلما تذكرتها، كما أنهم لم يقدّروا كيف كانت اللوحات الفنية الراديكالية، المسرح الطليعي، والشعب المتطور، يعيدون صياغة إيران من الأسفل، وحينها كنت أعتقد، بأن البلد هي شعبها فقط.
اليوم، أصبحت أنا ذاتي ساخرة، فعندما يكتب أي شخص دون سن الـ25 عامًا، أو أي شخص يؤمن بالنظام القسري للجمهورية الإسلامية، بحماس عن إصلاح الدولة وفقًا لشروطها، أو حول الاختيار ما بين “السيء والأسوأ”، أتعامل ببرود تام مع الموضوع؛ فإذا كانت الـ15 عامًا الماضية قد أوضحت أمرًا محددًا، فهو يتمثل بالتأكيد بأن التغيير الحقيقي والمشروع لا ينجم على مستوى القاعدة الشعبية، لأن إيران كانت تمتلك جميع ما هو متطلب لتحقيق التغيير: حركة نسوية فاعلة، مجتمع مدني نابض بالحياة، ثقافة التعامل مع السياسة، والصبر لتحقيق إصلاح داخلي بطيء، ولو كانت هذه المكونات الأساسية هي المتطلبة فقط لتحقيق التغيير السياسي، لكانت إيران قد حققته بحلول اليوم، ولكن الحقيقة المرّة هي أن تلك الأشياء ليست كافية، فالبلد هي شعبها وقادتها على حد سواء.
أجرت إيران انتخابات مهمة يوم الجمعة الماضي، حيث تم انتخاب البرلمان، ومجلس خبراء القيادة الذي يعد أهم مؤسسة في الدولة، وبنتيجة الانتخابات، ظفر المرشحون المعتدلون بفوز مدوٍ في طهران، وتصدروا قائمة مجلس الخبراء، محققين نوعًا من الإهانة البسيطة للمتشددين، ولكن خارج العاصمة، تشير النتائج الأولية إلى أن المشهد لم يكن مزدهرًا للغاية؛ فعلينا أن نتذكر بأن إيران امتلكت من ذي قبل برلمانًا مؤيدًا للإصلاح ورئيسًا معتدلًا، واللذان لم يقدّموا بتآزرهما سوى القليل في وجه المزايا الهيكلية والاقتصادية الساحقة التي يغمر بها النظام المتشددين ومؤسساتهم، والذين أضحى من المتوجب عليهم اليوم، إبرام صفقات انتخابية مع البراغماتيين، وتمييع فكرة “الإصلاحيين” كفئة السياسية.
يبدو النشاط الإصلاحي طاغيًا في طهران اليوم، ولكن خبراء الإصلاح الإستراتيجيين يتحدثون عن جعل الاقتصاد أولوية وتليين المتشددين المتطرفين، بدلًا من السعي لتحقيق التحرر الاجتماعي أو السياسي؛ فالإصلاحيون الذين عقدوا قبضاتهم بقوة ليزعموا بأن الإسلام كان إلى جانبهم، يتحدثون الآن عن أهمية التحرك ببطء، ممتنين ببساطة لبقائهم خارج غياهب السجون، والإصلاح الحقيقي، الذي يمثل بجوهره ثقافة أو إستراتيجية فكرية وسياسية، توقف بشكل تام، ريثما تبزغ بعض التحولات الكبيرة ضمن الظروف، أو ريثما يتحقق الحلم الذي طال انتظاره بانكماش وتقوقع المتشددين، وهما الأمران اللذان قد يبثان الحياة في جثة الإصلاح الحقيقي مرة أخرى.
كثيرًا ما تعود إلى ذهني صورة الصحافية الشابة التي كنت عليها غير مرة، حيث كنت، ونتيجة لاستيائي مما آلت إليه أوضاع قدامى المحاربين، على استعداد لفعل أي شيء، على أهبة لارتداء الحجاب بابتهاج عند التعامل مع المسؤولين الإيرانيين خارج البلاد، أو لمجادلة المحافظين الأمريكيين العازمين على تلطيخ صورة إيران بالسواد، طالما أن تلك الأمور من شأنها إحداث تغيير في الطريقة التي يُنظر فيها إلى إيران، أستذكر اليوم ما كنت أقوله مرارًا وتكرارًا، أنا أرفض سرد الضحية، نحن لسنا ضحايا، ليس بعد، لأن تفكيرنا وثقافتنا مازالا مستقلين؛ فنحن محكومون من قِبل الجمهورية الإسلامية، ولكننا لا ننتمي إليها.
ولكن اليوم، جميع هؤلاء الشباب الذين يفيضون إلهامًا، والذين جلست معهم في المقاهي، وكتبت عنهم، لم يعودوا شبابًا بعد الآن، إنهم في الأربعينيات من أعمارهم، منتشرون في جميع أصقاع العالم، ويشعرون بالانفصال، الضياع، أو الاحتجاز داخل البلد؛ لقد توقفوا عن الإيمان بإمكانية تغيّر الأمور، وأضحوا أناسًا مختلفين.
أحد أوائل الأصدقاء الذين قابلتهم في طهران، كان الزميل الشاب الإيراني- الأمريكي، سياماك نامازي، لقد اعتدنا أن نخوض في مشاحنات سياسية طويلة وعديدة، حيث كنت أثني خلالها على الجمهورية الإسلامية لمعدلات التعليم المرتفعة ضمنها، وللارتفاع المدهش في عدد النساء من خريجات الجامعات، وكنت أجادله قائلة: “إنظر إلى الفارق الكبير الذي نتقدم به على مصر”، وكان يجيبني بغضب: “توقفي عن مقارنتا بمصر، إنها ليست مقياسًا لإيران، يجب أن نقارن أنفسنا بكوريا الجنوبية، أو على الأقل، بتركيا”.
لقد كان نامازي يقول ذلك لأنه، ككل الشبان الإيرانيين المصممين، يتطلع إلى أهداف بعيدة وعالية، حيث كان يؤمن بالتغيير السلمي والتدريجي، ولكنه اليوم يقبع في سجن إيفين بتهم غير معروفة، وفي الأسبوع الماضي اعتقلت السلطات الإيرانية والده البالغ من العمر 80 عامًا، وهو محافظ سابق ومسؤول في اليونيسيف، والمعروف بكونه شخصية إيرانية – أميركية لائقة ووطنية.
اليوم، وبعد أن أُعيد تأهيل إيران جرّاء التوقيع على الاتفاق النووي مع الغرب، باشرت الصور الإعلامية المستمرة التي كانت تعكس وقائع أرض الاستبداد الفائضة بعبادة الموت، وهي الصور التي اعتدت أن أحاربها سابقًا، تتنحى من واجهة المشهد، ليحل مكانها صور الأزياء الإيرانية الأنيقة، قوائم الطعام الفارسية، وميزات التزلج على جبال إيران، حيث لم يُثر احتجاز طهران لمواطن أمريكي آخر وسجن والده الطاعن في السن، أي ردود فعل غاضبة.
قبل عدة سنوات، كنت مصممة على رؤية النور في إيران، ولكن اليوم، أضحيت، ربما كأصدقائي الذين سبقوني وشاهدوا أصدقائهم يعتقلون ويسجنون أو راقبوا الأمور لفترة كافية ليكوّنوا فكرة أفضل، أوجه نظرتي بمعظمها نحو الظلال.
المصدر: نيويورك تايمز