تحفل أبجديات السياسة في الشرق الأوسط بالحديث عن الفشل السياسي لعقود ماضية في كل القضايا، ويُعزى ذلك أحيانًا إلى قلة الفرص وشح الموارد، وضعف التحالفات السياسية وتضارب المصالح وقلة الخبرة في إدارة المفاوضات وحل النزاعات. إذا سلمنا بهذا التشخيص، فكيف يمكن للاعب سياسي يملك فرصًا كبيرة وموارد هائلة ومصلحة واحدة وخبرة سياسية كبيرة أن يفشل؟ أهلًا بكم في الحزب الجمهوري الذي يواجه معضلة تنبئ بفشل ذريع على كل المستويات. تواجه النخبة الجمهورية خطر سيطرة دونالد ترامب على الحزب، رجل الأعمال من خلفية غير سياسية الذي يسعى لنيل بطاقة الترشح عن الحزب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي سيؤدي إلى خسارة محتملة للأصوات المتأرجحة والرمادية وحتى أصوات مؤيدي الحزب في انتخابات مجلس الشيوخ والنواب وحكام الولايات.
واجه الحزب مؤخرًا عددًا من الهزّات تمثلت بانشقاق عدد من سياسييه المرموقين لصالح ترامب. فقد أعلن حاكم ولاية نيوجيرزي ورئيس رابطة حكام الولايات الجمهوريين السابق كريس كريستي دعمه لترامب، مسجلًا أكبر انشقاق عن منظومة الحزب الجمهوري لصالح ترامب حتى الآن، الأمر الذي قد يوفّر غطاءً لسياسيي الحزب الأقل مرتبة للانشقاق والانضمام إلى صف ترامب. وبالفعل، لم تمض بضعة ساعات، حتى انضم إلى كريستي حاكم ولاية مين بول لابيج معلنًا دعمه لترامب مرشحًا عن الحزب لسباق الرئاسة. الأمر الذي أثار مخاوف لدى عدد من سياسيي الحزب في حال تصدّر ترامب المواجهة مع الديمقراطيين، خاصة بالنظر إلى آرائه المتطرفة تجاه عدد من القضايا ليس أولها ولا آخرها مهاجمته للأقليات العرقية والدينية والمهاجرين.
ومع تصاعد موجات الكراهية والأفكار المتطرفة بين حشود الحزب الجمهوري نشطت مجموعات أمريكية متطرفة ودخلت المعترك السياسي. فقد أعلن الزعيم السابق لجماعة “كو كلوكس كلان” ديفيد دوكس دعمه لدونالد ترامب مرشحًا عن الحزب الجمهوري. هذه المجموعة تحمل أفكارًا يمقتها حتى اليمين المتطرف في الحزب الجمهوري وينأى بنفسه عنها، ومنها تفوق العرق الأبيض ومعاداة السامية والعنصرية ومعاداة الكاثوليكية. نأى ترامب بنفسه عن هذه المجموعة وصرح بأنه لا يعرفها ولا يعرف أفرادها. ولكن واقع الحال أن أفكار ترامب الذي يتصدر استطلاعات الرأي في الحزب الجمهوري باتت تروق لتنظيمات تشبه تنظيم داعش في الولايات المتحدة.
يواجه الحزب كذلك خيارات سياسية بائسة تجاه عدد من القضايا قد تتسبب بفقدانه مزيدًا من الأصوات. فبعد وفاة قاضي المحكمة العليا الأمريكية أنطونين سكاليا منذ أسبوعين أعلن مسؤولون رفيعو المستوى في الحزب الجمهوري أنهم لن يدعموا أي مرشح يطرحه الرئيس أوباما لخلافة منصبه وأنهم سيعملون على إيقاف عملية تعيين قاضٍ جديد في مجلس الشيوخ وتأخيرها إلى العام المقبل، الأمر الذي حذرت صحيفة وول ستريت جورنال من أنه يحمل مخاطر كبيرة للحزب الجمهوري بالنظر إلى أن 56 بالمئة من ناخبي ولاية أوهايو التي تتميز بأصواتها المتأرجحة يؤيدون اختيار قاضٍ جديد هذا العام وفق استطلاع أجراه هذا الأسبوع مركز بو للأبحاث، فقد يفقد الحزب هذه الأصوات المتأرجحة في الانتخابات القريبة في الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب.
يلخص عضو مجلس الشيوخ الجمهوري المخضرم عن ولاية ساوث كارولاينا لينزي غراهام وضع حزبه بقوله إنه “أصيب بالجنون”. فما هو الخطر الذي يمثّله ترامب على الحزب؟ وهل زيادة احتمال نيله بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري كفيلة بهزّ أركانه واختلال صفوفه؟
خطورة ترامب
أشارت صحيفة نيويورك تايمز في تشخيص لها للوضع الحالي للحزب الجمهوري إلى أن حصول ترامب على بطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري قد يحدث انشقاقًا داخليًا في الحزب لم يحدث في أي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري منذ نصف قرن، منذ الخروج الجماعي للبيض الجنوبيين من الحزب الديمقراطي إبان حركة الحقوق المدنية.
ويحذر محرر مدونة السياسات في واشنطن بوست “ذا فيكس” كريس سيليزا من أن خطر ترامب يتمثل في ما هو أبعد من أفكاره المتطرفة، وهو همجيته وإطلاقه رسائل غير متوقعة ومفاجئة. ويشير سيليزا إلى حادثتين، الأولى إعادة تغريد ترامب لتغريدة تحمل اقتباسًا من السياسي الإيطالي الفاشي بينيتو موسوليني تحوي عبارة “أن تعيش يومًا كالأسد أفضل من أن تعيش 100 سنة عام كالخروف”. وعندما سئل ترامب عن سبب إعادته التغريدة قال إن “موسوليني هو موسوليني… هذا اقتباس مثير للاهتمام… لا مشكلة فيما إذا كان هو قاله أم لا”. والحادثة الثانية هي جوابه على استفسار مذيع سي أن أن عن تأييد عدد من منتسبي تنظيمات متطرفة من التي تؤيد “تفوق العرق الأبيض” مثلًا لترشحه، أجاب ترامب أنه لا يعرف هذه التنظيمات ولا هذه الأفكار، وأنه لا بد أن يبحث عن مزيد من المعلومات عن هذه التنظيمات قبل أن ينتقدها أو يدينها.
يرى سيليزا أن أيًا من هذه الحالات لن تؤثر كثيرًا في حظ ترامب في السباق نحو نيل بطاقة الترشح للرئاسة في عدد من الولايات، ولن يؤثر كذلك عدم استعداده للاعتذار عن إهانة مرشحين آخرين أو إعلاميين، لكنّها ستؤثر حتمًا في سياسات الحزب الجمهوري. إذا كان ممكنًا على سياسيي الحزب تبرير التعاطي مع وجود مرشح عنهم للرئاسة يعادي المهاجرين أو أقليات أخرى بقول إنهم لا يؤيدون تلك الأفكار لكن رواجها يؤكد ملل الناخبين وضجرهم من السياسات الحالية، إلا أن من غير الممكن أن يبرروا إقرارهم مرشحًا للحزب لا يمكن توقع ما يقوله على التلفاز أو يعيد تغريده، أو حتى عدم إدانته لمجموعات متطرفة تشبه تنظيم داعش في أفكارها. يقول سيليزا إن فكرة وجود ترامب في الصدارة كابوس لأي سياسي جمهوري يسعى لإعادة انتخابه في الخريف لمقبل.
فرانكنترامب لم يأتِ من فراغ
يصف مدير مكتب واشنطن لمجلة “ماذر جونز” ديفيد كورن حالة دونالد ترامب بأنّها “فرانكنترامب”، في إشارة إلى البطل المرعب لرواية مارتن شيلي “فرانكنستاين”. ويرى أن الكراهية التي تحملها ظاهرة فرانكنترامب والتي باتت مقبولة من جمهور الحزب الجمهوري هي من صنع قيادة الحزب. بدأت هذه الظاهرة في حملة ترشح عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية أريزونا جون ماكين في عام 2008، حين اتّخذ من حاكم ولاية ألاسكا سارة بيلين نائبة له. قادت بيلين حملة غير مسبوقة من العداء، بدأتها باتهام المرشح المنافس في ذلك الحين باراك أوباما بمصادقة الإرهابيين وأنه شيوعي يشجع الاشتراكية، وبثّت أفكارًا عن كون مناطق معينة من الولايات المتحدة دون سواها “مؤيدة لأمريكا” (pro-America)، ليهتف الحشود “اقتلوه!” وحتى “أطيحوا برأسه!”، دون أن يسلّط الضوء على المستوى المروّع الذي وصلت له هذه العبارات. حتّى حين حاول ماكين تخفيف حدّة التوتر والتصريح بأنه يحترم أوباما وإنجازاته، صرخ أفراد من الجمهور واصفين أوباما بـ”الإرهابي”.
لم تتوقف هذه الأفكار عند هذا الحد، ولم تزد الأجواء مع تولي أوباما الرئاسة إلا اشتعالًا. في كتابه “لا تسأل عن الخير الذي نفعله: في كواليس مجلس النواب الأمريكي”، يتناول الكاتب الأمريكي روبرت دريبر ما وُصِف بأنه “استراتيجية الإحباط اللانهائي” لاستعادة السلطة ووضع عراقيل أمام سياسات أوباما في مجلسي الشيوخ والنواب. وضعت هذه الاستراتيجية من قبل مجموعة من السياسيين من نخبة الحزب الجمهوري في عشاء خاص بواشنطن بعد تولي أوباما الرئاسة في عام 2008. حضر العشاء مستشار الحزب فرانك لانتز، والنواب من فيرجينيا إيريك كانتور ومن كاليفورنيا كيفين مكارثي ومن ويسكانسن بول رايان، وأعضاء مجلس الشيوخ من تينيسي بوب كوركر ومن أوكلاهوما توم كوبورن، إلى جانب عدد من السياسيين المخضرمين في الحزب في غياب ملحوظ لزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل، وزعيم الأقلية في الكونغرس جون بينر.
قررت نخبة الحزب في الاجتماع الوقوف في وجه كل مشاريع الحزب الديمقراطي على الإطلاق: ملاحقة وزير الخزانة تيموثي غيثنر، وإظهار وحدة ومعارضة صلبة لسياسات أوباما الاقتصادية، والبدء بمهاجمة الأعضاء الديمقراطيين الأضعف على موجات الأثير، “نسيطر على مجلس النواب في 2010، ونضرب أوباما بلا هوادة في 2011، ونفوز بالمجلسين في 2012”. نقل دريبر عن السياسي الجمهوري المخضرم نوت غينغريتش قوله في الاجتماع “ستذكرون هذا اليوم عندما نحصد النتائج في 2012”. اتّبع الحزب الخطة بحذافيرها، خلال حديث للرئيس أوباما في جلسة مشتركة في الكونغرس في 2009، قاطعه النائب جو ويلسون من ساوث كارولاينا واصفًا إياه بـ”الكاذب”. اعتذر ويلسون لاحقًا، لكنه كوفئ بتبرعات لحملته الانتخابية المقبلة.
دفع الجمهوريون بفكرة اغتصاب أوباما لمنصب الرئاسة وأنه ولد في كينيا وليس في هاواي، وأنه مسلم واشتراكي بالسرّ. كانت الفكرة تتمحور حول كونه “ليس أمريكيًا حقيقيًا”، سيطر على السلطة بوسائل ماكرة، وامتلك أجندة سريّة، أي شيء لضمان إذكاء كراهية أوباما. في التظاهرة ضد برنامج أوباما للرعاية الصحية التي دعت إليها النائبة عن ولاية مينيسوتا ميشيل باكمان، كان المحتجّون يكرّرون العبارات نفسها حول كون أوباما خائنًا، ويشكّكون في جنسيته الأمريكية، ويصفون الديمقراطيين بالنازيين. كانت الكراهية في تصاعد، وحضرت قيادة الحزب الجمهوري بأكملها تلك التظاهرة، بما فيهم جون بينر الذي لم يصحّح مزاعم الحشود ولم يحاول التخفيف من موجة الكراهية، على العكس، شارك بينر في إذكاء تلك الروح بوصفه أوباما بأنه “أكبر تهديد للحرية رأيته في حياتي”. وحذّرت حشود الجمهوريين من أن برنامج أوباما للرعاية الصحية سيدمر البلاد ويؤدي إلى “أحكام بالإعدام”، تمامًا كما وصفوا مشاريع قراراته الأخرى المتعلقة بالميزانية والاحتباس الحراري وكل مشروع قرار آخر، كما قرّر الحزب في خطّته.
كان يعتقد بينر ومستشاروه أن الروح المتصاعدة لدى جماهير الحزب الجمهوري ستصب في صالح استعادة الحزب للسيطرة على الكونغرس. وبالفعل أثمرت الخطة عن استعادة الحزب الجمهوري للأغلبية في الكونغرس منذ عام 2011، واستعادة الأغلبية في مجلس الشيوخ بعد أربع سنوات في عام 2015، لكن روح الكراهية استمرت وواصل الجمهوريون تكرار أفكار ولادة أوباما في كينيا التي تدفعه إلى تبني حديث معادي للإمبريالية وبالتالي “معادٍ لأمريكا” وأنه لا يتبنّى التجربة الأمريكية، وانتشرت الدعوات لأوباما لتعلّم “كيف يكون أمريكيًا”. وعلى الرغم من رفض بعض السياسيين مثل حاكم ولاية ماساتشوسيتس السابق ميت رومني لفكرة كون أوباما من أصل كيني بالسرّ، إلا أنّهم أيدوا بعض الشخصيات التي كانت تروج لذلك مثل دونالد ترامب الذي دعم ميت رومني في سباق الرئاسة عام 2012.
على الرغم من ذلك، كان قادة الحزب الجمهوري يحافظون على توازن معقول بين الخط العام للحزب في يمين الوسط وبين الخطاب المتطرف الذي اتّكؤوا عليه في محاولة تحطيم الحزب الديمقراطي، حتى أن مرشح الحزب للرئاسة في مواجهة أوباما في عام 2012 رومني يملك برنامج رعاية صحية متقدمًا على برنامج باراك أوباما نفسه وذلك بعد أن ثبت نجاحه في ولاية ماساتشوسيتس. يقول أحد مستشاري رومني إنه رفض ظهور ترامب في حملته الإعلانية وإعطائه فرصة لتقديم خطابات. لكن خطاب الكراهية والدعاية الكاذبة تصاعد بعد خسارة رومني، بدأ الجمهوريون يروجون إلى أن أوباما يرغب في نزع السلاح من أيدي الأمريكان، الذي يكفل الدستور الأمريكي للمواطنين حيازته التي يعدها الجمهوريون حقًا أصيلًا لا يمكن التنازل عنه، رغم حوادث القتل المتكررة من جراء الإهمال في اقتناء الأسلحة وتركها بين أيدي صغار السن والقُصّر.
ترافقت موجة الكراهية مع صعود المحافظين الجدد مجددًا، فقد صرح نائب الرئيس الأمريكي السابق ديك تشيني بأن أوباما يتصرف وكأنه يريد أن “يدمر أمريكا”. وخرج حاكم ولاية تكساس غريغ آبوت وعضو مجلس الشيوخ تيد كروز بفكرة أن أوباما يريد أن يحتل تكساس ويسيطر عليها!. أثار الجمهوريون وشرعنوا خطاب كراهية أوباما والدعاية الكاذبة، واستثاروا غضب اليمين، وهيّؤوا الأرضية لكل من يريد استغلال هذا الغضب وهذه الدعاية، لكنهم لم يتوقعوا أن يستغل ذلك شخص من خارج الحزب كان قد قدّم للحزب سابقًا 300 ألف دولار وهو دونالد ترامب.
أخذ ترامب هذا الغضب إلى أبعد مما كان يتصور أي من سياسيي الحزب الجمهوري. كسب ترامب شريحة جديدة كانت معطلة من الناخبين، لكنه يكاد مع اقترابه من الفوز ببطاقة الحزب للترشح للسباق الرئاسي يُفقِد الحزب كل أصوات الأقليات تقريبًا. اجتذب ترامب أكثر الأصوات تطرفًا، حتى تحول الحزب إلى راعٍ للأيديولوجيات المتطرفة التي تحمل برامج تتلخص في إبعاد الأقليات وبناء جدران الفصل العنصري والأيديولوجي، مما أثار مخاوف قادة الحزب من فقدان ثقة قواعد الحزب نفسه فضلًا عن الأصوات الرمادية والمتأرجحة. لعب ساسة الجمهوريين بالنار التي يبدو أنها ستلتهمهم وتلتهم الحزب لتحوله إلى كيان جديد لا يشبه “الحزب العظيم القديم” العبارة التي يفخر الجمهوريون باتصاف الحزب بها “GOP Great Old Party”.
الحزب الجمهوري يقاوم دون جدوى
في حديث له أمام جمع من حكام الولايات الجمهوريين والمانحين في واشنطن منذ أسبوعين، حذر مستشار الحزب كارل روف من أن فوز ترامب بالترشح عن الحزب سيكون كارثيًا ومدمرًا للحزب. لكن روف، كبير مخططي حملات انتخاب جورج دبليو بوش، أكد في الوقت نفسه أن الأوان لم يفت على إيقاف ترامب. وفي لقاء للحكام في اليوم التالي، طالب النائب عن ولاية مين بول لابيج بتحرك للحزب ضد ترامب الذي رأى أنه سيصيب الحزب في مقتل، داعيًا إلى إرسال رسالة مفتوحة “إلى الشعب” تنزع الشرعية عن ترامب وسياساته التي يروج لها. لم يستجب الحزب لمطالبات روف ولابيج، وانتهى الأمر بعد أسبوع بانشقاق في الحزب تمثل في دعم كريس كريستي وبول لابيج لترشح دونالد ترامب.
ظهرت على العلن دعوات لاتحاد الحزب وراء مرشح واحد في مواجهة ترامب، لكن أيًا منها لم تفلح. فقد فشلت كل من دعوة المرشح عن الحزب ماركو روبيو لكريس كريستي ودعوة رومني للمرشح جون كاسيك. وضع على الأقل مرشّحان جمهوريان خطة لإيقاف ترامب عبر اتفاق وساطة بين زعامات الحزب، ووضع زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل خطة لعزل ترامب عن أعضاء الحزب في الكونغرس ومجلس الشيوخ في الانتخابات العامة، وهذا أمر في غاية الأهمية في مواجهة ترامب بالنظر إلى أن الانتخابات النهائية لاختيار مرشح الحزب للرئاسة تجري في المؤتمر العام للحزب الجمهوري ويصوت فيها حكام الولايات والنواب وأعضاء مجلس الشيوخ لاختيار مرشح الحزب.
ولكن، على الرغم من اتجاه كل سهام الحزب نحو ترامب، إلا أن اللقاءات والخطابات الأخيرة تُظهر أن الحزب الجمهوري يتعرض لحالة شلل وفراغ في القيادة وعدم قدرة على اتخاذ قرار، خاصة بعد الفوز المدوّي لترامب في كل من ساوث كارولاينا ونيفادا. كما يسود بين المانحين فزع من عواقب المواجهة المباشرة مع ترامب، وتوقف كبار ساسة الحزب عن مهاجمته بشكل مباشر خوفًا من أن يزيد ذلك من شعبيته. رأت صحيفة نيويورك تايمز في تقرير لها حول الوضع الحالي للحزب الجمهوري أنه يفتقد إلى مايسترو من خارج الحزب يدير قواعد المناظرات عن بعد، وقد تكون الصحيفة محقّة فكل ما لديهم الآن هو ما بنوه سابقًا: محرّضون وصانعو دعاية كاذبة من الطراز الأول.
رغم إقرارهم بالفشل، الجمهوريون يقاومون ترامب
أقر الجمهوريون بحسرة بأن الوضع المزري الذي وصلوا أو يكادون يصلون إليه هو بسبب ما اقترفته أيديهم، بسبب سلبيتهم وهمودهم. فضلًا عن تركهم موجات الغضب والكراهية تجاه الديمقراطيين تخرج عن السيطرة، فقد كانت لديهم في بداية السباق الرئاسي فرص كثيرة لمواجهة ترامب، فقد رفض الحزب أكثر من خطة طرحت لتلك المواجهة ولم يتلق أي من منافسيه الذين هاجموه سابقًا دعمًا كافيًا من رفاقهم في الحزب لتفشل كل تلك الهجمات.
طرح الخبيران الجمهوريان في إدارة الحملات الانتخابية أليكس كاستيلانوس وغيل غيتشو في الخريف الماضي على اثنين من كبار مانحي الحزب، الملياردير العامل في قطاع الكازينوهات شيلدون أديلسون ومدير إحدى أكبر الصناديق المالية الملياردير بول سينغر، خطة لإنشاء لجنة تمويل انتخابية “super PAC” بهدف الإطاحة بترامب. وأظهرت وثيقة سرية أن الخبيرين أطلقوا على الخطة اسم “حماية الولايات المتحدة” (ProtectUS). كانت الخطة تهدف حسب الوثيقة إلى دفع الناخبين لتخيل ترامب في كرسي الرئاسة في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض وهو يتولى مسؤوليات الرئيس ويواجه العالم، وأنتجوا حسب مطّلعين على الخطة فيديوهات للحملة تصور عدم أهلية ترامب للرئاسة. حذّر الخبيران من أن فوز ترامب بالترشح لن يؤدي إلى فقدان الحزب لكرسي الرئاسة فقط وإنما لخسارة في انتخابات مجلس الشيوخ وحكام الولايات ولفقدان الحزب عددًا من أعضائه المعتدلين في الكونغرس. لم يوافق أي من المانحين البارزين على هذه الخطة.
لا زالت مقاومة ترامب متجذرة لدى سياسيي ومانحي الحزب الجمهوري. في ندوة استضافها أبرز المانحين المحافظين في الولايات المتحدة، المليارديرين تشارلز جي وديفيد أتش كوتش، وصف مستشاروهم السياسيين سجلّ ترامب بأنه غير مقبول أبدًا، وسلّطوا الضوء على دعمه للإعانات المالية الحكومية للشركات وبرنامج الرعاية الصحية المدعوم من قبل الحكومة، وهي برامج يرفضها المحافظون والحزب الجمهوري بشكل عام. لكن كوتش لم يظهر رغبة في التدخل بشكل مباشر بتحرك حاسم في الانتخابات التمهيدية.
وعلى الرغم من إعلان “صندوق المستقبل الأمريكي”، المجموعة المحافظة التي لا تعلن أسماء مانحيها، يوم الجمعة الماضي خططًا لنشر فيديوهات تفضح دور ترامب في شركة تعمل في قطاع التعليم احتالت على الطلاب، إلا أنّ ما بقي من الوقت ليس كافيًا لانتشار هذه الإعلانات قبل انتهاء الانتخابات التمهيدية في عدد من الولايات الكبيرة. استعاض منافسو ترامب بدلًا من ذلك على بعض تكتيكات حرب العصابات واحتمالات الصمود على المدى الطويل، وتركوا مصير السباق الرئاسي للناخبين ومجموعات المصالح لمواجهة حملة ترامب التي تزداد شراسة. ويبدو أن يقظة بعض المانحين والسياسين من الحزب باتت متأخرة.
كل الطرق تؤدي إلى روبيو
لا زال هناك أمل لدى الحزب الجمهوري في الاتّحاد وراء المرشح الكوبي الأصل ماركو روبيو لمواجهة ترامب في الانتخابات التمهيدية في شهر مارس الجاري، وقد أعلن عدد من كبار سياسيي الحزب دعمهم له في الأسبوع الماضي. لكن روبيو لا زال يواجه مقاومة من منافسيه جون كاسيك، وتيد كروز الذي يقود حملة انتخابية هي الأقرب أيديولوجيًا إلى حملة ترامب. أكد موظف ديمقراطي في كابيتول هيل أن المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين يتفقون على بغض تيد كروز، وقد ذكر لينزي غراهام في حديث له الأسبوع الماضي أنّه “لو أطلق أحدهم النار على تيد كروز في الكونغرس، لن يشهد أحد ضد الفاعل!”. أما كاسيك، فقد دعاه عدد من كبار سياسيي الحزب إلى إيقاف حملته الانتخابية وإتاحة الفرصة للاتحاد وراء مرشح آخر، إلا أن كاسيك أعلن أن لديه خطة للفوز في الانتخابات التمهيدية بولاية أوهايو في 15 مارس الجاري وتوحيد الحزب وراء حملته الانتخابية إذا خسر روبيو في انتخابات فلوريدا في اليوم نفسه. إلا أن عددًا من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين أعربوا عن سخطهم إزاء عناد كاسيك واصفين ذلك بالأنانية.
أظهر روبيو براعة في التعاطي مع إحباط منافسيه الذين خسروا أو يقتربون من خسارة السباق. فقد هاجم كريس كريستي روبيو في نيوهامشير واصفًا إياه بالسطحي الذي يقرأ من الورق، إلا أن روبيو أظهر رحابة صدر في تصريح له بعد خروج كريستي من السباق، وأرسل له رسالة صوتية طلب فيها دعمه وأكد له أن أمامه مستقبلًا زاهرًا في الخدمة العامة حسب وصف كريستي للرسالة لمقربين منه. كريستي في المقابل رأى أن الرسالة قلّلت من احترامه، متسائلًا “كيف لشخص يبلغ من العمر 44 عامًا” أن يحدثه عن مستقبله! وذلك وفق مصادر لم تكشف عن اسمها، ولم تسفر جهود توحيدهما عن نتيجة فقد أعلن كريستي دعمه لترامب.
لم تكن جهود المصالحة بين روبيو ومنافسه السابق جيب بوش أوفر حظًا، فقد ذكر أعضاء في الحزب أن كارل روف تصدر جهودًا للمصالحة بينهما قبل الانتخابات التمهيدية في ساوث كارولاينا التي أجريت مطلع مارس الجاري، إلا أن هذه الجهود لم تثمر حتى انسحاب بوش من السباق. لم يعلن بوش منذ انسحابه دعمه لأي من المرشحين المتبقين، وعلى الرغم من اتصال روبيو به هاتفيًا إلا أن المكالمة لم تطُل ولم تسفر عن نتيجة إيجابية، وذكرت مصادر من الحزب أن روبيو لم يطلب دعم بوش.
يقول السياسي الجمهوري المخضرم لينزي غراهام إن موجة من الذعر تسود أروقة الحزب وتدفع باتجاه الوحدة بين أعضائه، لكنه يستدرك بأنّه لا يرى أي جهود ملموسة في هذا الاتجاه. لم تكلل جهود مستشاري روبيو لكسب دعم ميت رومني بالنجاح، على الرغم من تحركات رومني لحشد السياسيين في مواجهة ترامب. وقد ذكر مقرّبون منه أنه كاد في لحظة أن يعلن دعمه لروبيو، إلا أنه تراجع وأبلغ مستشاريه بأنه سيهاجم ترامب مباشرة معربًا عن شعوره بالقلق تجاه سباق الترشح عن الحزب الجمهوري. طالب رومني في حديث لقناة فوكس نوز ترامب بإعلان عوائده الضريبية لإثبات أنه لا يخفي مفاجأة قد تكون نقطة ضعف للحزب، ليرد ترامب عليه بتغريدة وصفه فيها بأنه “أحد أغبى وأسوأ المرشحين في تاريخ الجمهوريين”.
لم يكن كريس كريستي وبول لابيج الجمهوريين الوحيدين الذين استسلما للحملة الجارفة لدونالد ترامب، فقد بدأ عدد من سياسيي الحزب يبدون نبرة تصالح تجاهه. رئيس الأغلبية الجمهورية في الكونغرس، النائب عن ولاية كاليفورنيا كيفين مكارثي، قال في تصريح له إنه يعتقد أن بإمكانه أن يعمل مع ترامب إذا صار رئيسًا للولايات المتحدة. تقول نيويورك تايمز إن موجة من الإحباط والاستسلام بدأت تنتشر في صفوف الحزب الجمهوري. يقول الرئيس المالي لرابطة حكام الولايات الجمهوريين فريد مالك إن منظومة الحزب في وضع لا تحسد عليه “فليس هناك زعيم ولا مؤسسة تملك القدرة على توحيد المجموعة المشتتة التي تدعى الحزب الجمهوري وراء مرشح واحد”.