لا يكاد يمر شهر على العراقيين إلا وتطالعهم حكومتهم وقيادتهم السياسية بتصريحات نارية مفادها اقتراب ساعة الصفر لاستعادة مدينة الموصل العراقية من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر عليها منذ شهر يونيو 2014.
الحكومة العراقية التي لا تملك قرارها بيدها كما أجمع عليه المراقبون، لم تدخر جهدًا في محاولة لملمة جراحها والتغلب على صعابها وجمع الميليشيات الشيعية وقوات الصحوات السنية تحت راية واحدة تمثلها قوة عراقية مشتركة بهدف تحرير عاصمة محافظة نينوى وكبرى المدن العراقية بعد بغداد.
في 6 من شهر سبتمبر من العام الماضي، كتبنا مقالًا على منصة “نون بوست” بعنوان “خرافة تحرير الموصل” رصدنا فيه التناقض العجيب بين الوعود الكبيرة التي قطعتها الحكومة العراقية على شعبها باقتراب موعد التحرير وبين الحقائق التي من شأنها تفنيد تلك الوعود والتصريحات.
قبل أيام عاد موضوع تحرير المدينة الواقعة في الشمال العراقي والتي تبعد عن العاصمة بغداد حوالي 465 كيلومترًا، محور اهتمام بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية على خلفية الخلافات الكبيرة داخل الأوساط السياسية العراقية والتي هي بالأساس خلافات بين القوى المتنازعة على تقسيم العراق حول إمكانية مشاركة قوات الحشد الشعبي في المعركة المقبلة لتحرير الموصل أم الاكتفاء بالقوات العراقية رفقة مقاتلي الصحوات.
هذا الخلاف الجدي بين مختلف الأطراف العراقية، كان بسبب حجم الإجرام والجرائم ضد الإنسانية المهولة التي قامت بها ميليشيات الحشد الشعبي الشيعيى الطائفية داخل المدن التي حررتها من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على غرار تكريت وبيجي والمقدادية، الأمر الذي دفع المنظمات الحقوقية الدولية لإطلاق صيحات الفزع ووصف ما حدث داخل هذه المناطق بالجرائم ضد الإنسانية.
قبل نحو أسبوعين وتحديدًا في 21 من شهر فبراير الماضي، أكدت كتلة تحالف القوى العراقية وعشائر الموصل عدم الموافقة على مشاركة الحشد الشعبي في معركة تحرير الموصل بشكل نهائي، داعين إلى فتح المجال أمام أبناء نينوى للتطوع ودعمهم بالسلاح والتجهيزات المطلوبة لأداء واجبهم الوطني في معركة التحرير.
وذكر بيان للتحالف، عقب اجتماع موسع برئاسة النائب السابق لرئيس الجمهورية أسامة النجيفي وبحضور قيادات ووزراء ونواب الكتلة، ركز على مناقشة تطورات الوضع السياسي والأمني وبشكل خاص عملية تحرير الموصل، والتغيير الحكومي المرتقب.
وأكد المجتمعون أن “أبناء نينوى يتحملون الجهد الرئيس في العملية بالمشاركة مع الجيش وقوات البيشمركة والتحالف الدولي وعدم الموافقة على مشاركة الحشد الشعبي في المعركة بشكل نهائي، وذلك لأن نينوى محافظة غنية بطاقاتها البشرية، وأبناؤها يتحرقون شوقًا لتحرير محافظتهم والعودة إلى دورهم وحياتهم الطبيعية، وهم يمتلكون الحافز والدافع والمعنويات العالية للرد على الإرهابيين الذين كانوا السبب في معاناة غير مسبوقة لمواطني مدينتهم” بحسب ما جاء في البيان.
هذا التصعيد من قِبل كتلة تحالف القوى العراقية جاء ردًا على تصريحات رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي أعلن خلال استضافته في مجلس النواب العراقي، أن عملية تحرير الموصل ستشارك فيها كل القوى العراقية وبضمنها البيشمركة والحشد الشعبي.
رد الحشد الشعبي وتصعيده وتهديده لم يتأخر كثيرًا، حيث أكد المتحدث الرسمي باسم عصائب أهل الحق نعيم العبودي بأن الحشد الشعبي هيئة منظمة ومرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي وستشارك في عمليات تحرير مدينة الموصل.
وقال العبودي في حديث صحفي بأن الرد على قرار مجلس محافظة نينوى الذي يُقضي بعدم إشراك الحشد الشعبي بعمليات تحرير الموصل مرتبط بالعبادي فقط، مضيفًا أن الحشد الشعبي يتلقى الأوامر من العبادي ومن الطبيعي مشاركته في تحرير الموصل لاسيما وأنه على أهبة الاستعداد للمشاركة في عمليات التحرير.
إن صراع النفوذ بين إيران والقوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في العراق على أشده في الفترة الأخيرة، فإن كان الطرفان متفقان على هدف مشترك وهو القضاء على “الدولة الإسلامية” إلا أنهما يرفضان التنازل عن مصالحهما في هذا البلد الذي قسمته الطائفية وفتته القوى الاستعمارية.
قرار إشراك الحشد الشعبي في تحرير الموصل، أرجعه بعض السياسيين إلى أوامر وضغوط إيرانية مباشرة، فإيران ترى في استبعاد “الحشد الشعبي” إبعادًا لها عن الساحة العراقية، كما تعتبر مدن غرب العراق بوابتها البرية نحو سوريا، لذلك تسعى لفرض “الحشد الشعبي” كطرف أساسي في معركة الموصل، وهي في ذلك تتجنب تكرار سيناريو “تحرير” الرمادي، الذي تم بقيادة وإشراف أمريكي مباشرين، وبمشاركة فعالة من قوى سنية مسلحة.
مما لاشك فيه أن للعراق أهمية إستراتيجية في سياسة كل من الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني، لكن السياسات الممارسة من قبلهما في العراق تظهر بشكلي جلي التناقض الواضح بينهما ممارسة الأمر الذي أثر بشكل سلبي على حاضر ومستقبل العراق.
الموصل إلى الآن بعيدة كل البعد على أن تكون قبلة للقوات المشتركة بسنييها وشيعييها وأكرادها وبغربييها أيضًا، ومن المغالطة أن يصرح أي مسؤول عراقي أو غربي عن اقتراب ساعة الصفر لتحرير عاصمة محافظة نينوى، ومن المغالطة أيضًا الاستهانة بحجم قوة تنظيم الدولة الإسلامية داخل المدينة وفي حدودها، فإن كانت مدينة الرمادي التي قال العبادي إنه حررها ومن ثمة سيحرر الموصل لم تحرر بشكل نهائي بعد، ولازالت المعارك على أشدها داخل مركزها وعلى أطرافها بين آلاف القوات العراقية وعشرات المسلحين من التنظيم اللذين يخوضون معارك كر وفر وحرب عصابات لاستنزاف خصومهم، فما بالك بمدينة أشبه ما تكون بصندوق أسود لا يعلم سره سوى الله.
تعهُد العبادي بتحرير الموصل لا يبدو سهل المنال، ولعل خير دليل على ذلك ما قاله المتحدث باسم التحالف الدولي الكولونيل ستيف وارن من أن “الموصل مختلفة عن الرمادي لأنها مدينة كبيرة للغاية وستحتاج لمجهود كبير وستحتاج لمزيد من التدريب، وستحتاج لمزيد من العتاد، وستحتاج للصبر”.
تكرار سيناريو الرمادي في الموصل لن يكون بهذه السهولة بالمرة، فالموصل هي قاعدة تنظيم الدولة في العراق والمدينة الرمزية له ولأنصاره بعد أن أعلن منها “الخلافة الإسلامية”، وتضم آلاف المقاتلين المتمرسين ومئات من عناصر القوات الخاصة التي يدخر مجهوداتها ويراهن على مفاجآتها لحماية هذه المدينة التي خطب من على منبر جامعها الكبير زعيم التنظيم وأميره أبو بكر البغدادي.
أضف إلى ذلك أن المدينة تضم فوق كل هذا، أكثر من مليوني شخص، وهو ما يجعل عمليات القصف مهمة عسيرة، وتهدد بإيقاع عدد هائل من الضحايا المدنيين وهو ما يمكن أن يراهن عليه الجهاز الإعلامي للتنظيم للترويج إلى الدعاية المضادة ضد خصومه.
بعد كل هذا يمكننا القول إن تصريح رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي الجنرال جوزيف دنفورد ورئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري بأن بغداد أنهت استعداداتها للمعركة وبأن “معركة الموصل قد بدأت مقدمًا، والقيادات العسكرية في وزارة الدفاع الأمريكية، يدرسون الخطة العراقية لتحرير الموصل، من أجل إبداء ملاحظاتهم عليها” لا تعدو أن تكون محاولة لذر الرماد في العيون لطمأنة عموم العراقيين اللذين ينتظرون المشاركة في معركة التحرير بعد أن أعيتهم التحضيرات وأنهكتهم التسويفات والتطمينات.
استنتاجاتنا حول عدم اقتراب معركة تحرير الموصل وإن كان تغريدًا خارج سرب عديد الكتاب والمحللين العرب، إلا أنه قد ارتكز أساسًا حول تضارب تصريحات القادة الغربيين، ففي المؤتمر الصحفي الذي عقده دنفورد مع من وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر الثلاثاء 1 مارس، رفض رئيس هيئة الأركان، تحديد موعد أو فترة زمنية لانطلاق العمليات في الموصل، إلا أنه أكد على أنها “قد بدأت مقدمًا، أو بعبارة أخرى، نقوم بعزل الموصل، في هذه اللحظة، وهو الشيء نفسه الذي نفعله في الرقة الآن، لذا فإن هذا ليس أمرًا سيحدث في المستقبل البعيد جدًا”.
لسنا الوحيدين من المتبنين ومن المتأكدين من أن الموصل لا زالت بعيدة في الوقت الراهن وفي المستقبل القريب عن ساحة المواجهة، بل لنا سند من الباحثين الغربيين، ففي معرض الحديث عن تحرير مدينة الموصل، نقلت صحيفة واشنطن بوست عن جيسيكا لويس، ضابط استخبارات سابق في الجيش الأمريكي، قولها “إن الموصل بكل بساطة ستكون صعبة للغاية، خصوصًا إذا ما حاول داعش إقحام القوات المهاجمة في حرب داخل المدينة”.
وهذا ما أشار إليه أيضًا الباحث الأمريكي نيت فرير، من معهد الدراسات الحربية، وفقًا لـ “واشنطن بوست”، حيث قال “إن الفرق بين المعارك في المناطق المفتوحة والمعارك في المناطق السكنية كالفرق بين الليل والنهار، خصوصًا إذا كان الأمر يتعلق بعمليات قتالية مغلقة، حيث التهديدات متواجدة عند مختلف الزوايا، التي لا تدرك لحين الاصطدام بها”.
في ختام هذا المقال لا يمكننا القول إلا أن هذا الموضوع محل متابعة منا وللحديث بقية.