ترجمة وتحرير نون بوست
فبراير هو أحد أقل الشهور قيظًا في المملكة العربية السعودية، ولكن الرطوبة العنيدة التي تنتشر في الجو تترك أكمام عبائتي ملتصقة على ذراعي؛ لذا، وفي سيارة الفورد التي يمتلكها والدي، فتحنا مكيف الهواء البارد، وتمتعنا بيوم جمعة نادر تخلو فيه شوارع جدة من أناسها في الصباح الباكر.
الحي الذي مررنا به يزدحم بواجهات المحال المغلقة والهادئة؛ ففي هذا الوقت من اليوم، تنتشر القطط الضالة في شوراع المدينة أكثر من انتشار البشر، حيث يصل أصحاب المحال بعد صلاة الظهر ليفتحوا متاجرهم بالجملة، كعلب السردين المصطفة إلى جانب بعضها البعض.
نشترك أنا ووالدي بعاطفة ننغمس فيها سويًا، وهي السفر عبر الزمن، ووجهتنا حاليًا هي عام 1968؛ لذا توجهنا إلى حي الصحيفه، وهو حي متهدم في الجزء القديم من المدينة، حيث كنا نخطط لزيارة أول منزل “حقيقي” لوالدي.
وصل والدي، زياد، إلى السعودية وهو في سن السابعة، بعد أن أُجبرت عائلته نتيجة للاضطرابات التي شهدتها البلاد في حرب الأيام الستة على الخروج من مخيم للاجئين في قطاع غزة، وهنا، بدأ والدي حياته الدراسية من الصف الثاني، واستطاع جدي إطعام عائلته من خلال عمله بعدد كبير من الوظائف الغريبة، بائع متجول، بائع أحذية، مقاول، وبقال، وعندما اشتد ساعد أبي، استطاع مساعدة والده في الأعباء العائلية، ولطالما تناولت الأسرة غداءها من الأطعمة المعلبة منتهية الصلاحية.
استطعنا أن نعثر على حي الصحيفه بسهولة، على الرغم من التغييرات التي لحقت به؛ فالحلاق الذي اعتاد أن يذهب والدي إليه اختفى، وكذلك المقهى الذي تلكأ بجانبه وهو صبي صغير لمشاهدة التلفاز بشراهة، ولكن مع ذلك، الكثير من جوانب الحي بقيت على حالها، وتمثلت المفاجأة المثيرة للمشاعر بالنسبة لأبي حين أشار إلى متجر بقالة ما زال موجودًا في إحدى زاويا الحي، “هذا متجر والدي” قال أبي وهو يتأتئ قليلًا، “لن نذهب إلى هناك”.
أطفأ والدي المحرك، وخرجنا كلانا من السيارة لنمشي في هواء الصباح الرطب والحار؛ شوراع الحي كانت فارغة باستثناء عدد قليل من الرجال من ذوي الشعر الداكن الذين يرتدون سترات بنية وصنادل بلاستيكية سميكة، وحينها قمت بتعديل حجابي الأخضر ولحقت بوالدي نحو زقاق متداعٍ.
جدة هي مدينة زراعية أساسًا، وقصة والدي ضمنها تنطبق على الآلاف من الأشخاص الآخرين؛ فعدد سكان السعودية في السنة التي وصل فيها والدي كان يبلغ حوالي الستة ملايين، ولم يمض وقت طويل قبل أن تبزغ الطفرة النفطية الأولى؛ مما فجّر ارتفاعًا بالطلب على العمالة، وجعل البلاد مقصدًا رئيسيًا للعمال المهاجرين.
يرجع الفضل بأغلبية التوسع السريع الذي شهدته البنية التحتية للبلاد إلى الأجانب الذين تدفقوا إلى المملكة من دول الجوار العربية وجنوب آسيا، فضلًا عن مناطق أخرى من العالم؛ فالسعوية اليوم تضم حوالي 30 مليون نسمة، من ضمنهم 9 ملايين نسمة على الأقل من العمال الأجانب وعدة أجيال من غير السعوديين الذين ولدوا وترعرعوا في المملكة.
وداعًا للسعودية
رغم أنني ووالدي كنا نسترجع لحظات طفولته ونحن نسير في الأزقة الضيقة الفائضة بالأنقاض، إلا أنني أدركت بأن هذه الرحلة تشكل بطريقة أو بأخرى وداعًا؛ فبعد حوالي 50 عامًا، يتخلى والدي عن حياته في المملكة العربية السعودية.
“أنا متعب”، كان يقول لي في كثير من الأحيان؛ فبعد عقود عاشها في المملكة، لا يزال والدي “مقيمًا مؤقتًا” غير مؤهل لتلقي الخدمات العامة وتحت رحمة الكفيل السعودي، ومرهقًا من الجهود والنفقات اللازمة لاستصدار تصريح إقامته في كل عام، وهي أقرب وثيقة للديمومة يستطيع غير السعوديين أن يأملوا بالحصول عليها في هذه البلاد.
الأهم من ذلك كله، هو أن والدي سئم من الأقوال، الخفية والصريحة، التي تذكره دائمًا بأنه لن ينتمي إلى هذا المكان حقًا، “لقد أردت أن أكون جزءًا من هذا البلد، وحاولت جهدي حقًا”، يقول والدي؛ فكتابه السنوي المدرسي يضم صورًا محببة تظهره وهو يرتدي الثوب السعودي التقليدي والغترة، كما أنه نشأ وترعرع ولعب كرة القدم مع جيرانه السعوديين في الملعب الترابي شبه المنحرف الذي يقع خارج المبنى الذي كان يقطن فيه، وأحد زملائه في اللعب وصل بموهبته الكروية إلى الحدود المهنية، وعلى الرغم من أن والدي كان مؤهلًا أيضًا لمهنة كرة القدم الاحترفية، إلا أنه تم رفضه، لأن هذا المنصب متاح “للسعوديين فقط”.
كان حلم والدي القادم أكثر واقعية، حيث حلم بأن يصبح طيارًا؛ فالعديد من أقرانه مضوا قدمًا لتحقيق ذلك، ولكن انعدام مواطنته استبعدته من برنامج التدريب المدعوم حكوميًا، وعلى الرغم من أنه لم يفقد شغفه للطيران، ولكن قدماه لم تطأ قمرة القيادة البتة.
كغيره من الأشخاص غير السعوديين الذين يعيشون في المملكة، وجد والدي نفسه باستمرار مقيدًا بسبب النظام الاجتماعي الذي يمنح الامتيازات للمواطنين في الوقت الذي يصوغ فيه قوانينًا تجعل من المستحيل تقريبًا حيازة مواطنة الدولة، وبالمحصلة، اختار والدي أن يغتنم فرصة حلمه الرابع، الهندسة.
العديد من أبناء عمومتي الذين ولدوا في المملكة العربية السعودية لأبوين فلسطينيين، يواجهون نفس المعضلة اليوم؛ فعمي، الذي أوهنه مرض السرطان منذ سنوات، لا يستطيع دفع ثمن إيجار منزله، ناهيك عن الإرهاق الذي يعانيه ليدفع ثمن تعليم أبنائه، وبناته، اللواتي برعن في مدارسهن الثانوية، لسن مؤهلات للحصول على منحة دراسية حكومية، لذا فإنهن يتلكأن اليوم في المنزل متضرعات إلى الله ليتقدم أحد إليهن بعرض زواج.
في وقت لاحق من حياته، اهتم والدي بالانخراط في مهنة العقارات، ولكنه أدرك أيضًا بأن هذا الباب موصد دون غير السعوديين؛ فالحظر الواسع الذي تفرضه قوانين المملكة على الملكية يجعل من المستحيل تقريبًا على أي شخص من غير المواطنين شراء الأراضي لأغراض التجارة، وهكذا، عمل والدي كمدير في الشركات العقارية المملوكة للآخرين، في مدينة قضى ضمنها سنوات وهو يشيد الفصول الدراسية والمنازل والأعمال التجارية لصالح أصحاب العمل السعوديين.
نظام الإقصاء
لعل هذا النظام الاقصائي مؤلم بشكل خاص بالنسبة لأشخاص مثل والدي، الذين نشؤوا، كفلسطينيين، عديمي الجنسية، ولكن مع ذلك، قصة والدي ما تزال أقل مأساوية من قصص كثيرين آخرين؛ فنظام الكفالة السعودي يخوّل الكفيل سلطة هائلة، وهي القدرة التي يستخدمها البعض لممارسة سلطة تعسفية على العمالة المهاجرة، وحتى في أكثر الحالات إشراقًا، لا تزال هذه السياسات موجودة لتدق ناقوس الذكرى دائمًا بأن هذا البلد ينتمي أولًا وقبل كل شيء لمواطنيه.
لم تكن مسافة طويلة تلك التي قطعناها مشيًا من باب السيارة وحتى “باب” منزل والدي القديم في حي الصحيفه، فالباب، إن صح التعبير، كان عبارة عن قطعة معدنية تتوضع أدنى من مستوى الشارع، حيث كانت الأمطار ومياه الصرف تغمر تلك البقعة في الكثير من الأحيان، وفقًا لما يتذكر والدي.
الجدران كانت متصدعة، ويبدو بأن هذا الفندق المكوّن من غرفة واحدة كان مهجورًا، ولم يتسن لنا أن نعرف منذ متى ومن قِبل مَن تم هجره، وفي تلك الآونة، كان والدي هادئًا، ونظر بشكل عابر إلى اليمين وإلى اليسار، مندهشًا ربما من ضيق المكان وألفته.
أثناء إلقائي لنظرة على الشوارع التي تتناثر فيها القمامة في حي الصحيفه، أصابتني الدهشة حقًا من مدى التقدم الذي حققه والدي، لقد عمل بجد، ولكنه يعترف بسرعة بأن المعلمين والموجهين وأصحاب العمل – وأغلبهم من السعوديين – لعبوا دورًا كبيرًا في رحلته، ولربما صداقته مع هؤلاء السعوديون هي التي تبرر شعوره بالاستياء من النظام الذي كُرِّس لفصلهم عن بعضهم.
ساعدت ثروة صناعة النفط على تكريس واستمرار ممارسات المجتمع الطبقية، ولكن اليوم، ومع التحولات التي يشهدها سوق الطاقة، والتي تحد من تدفق الإيرادات، يجب على السعوديين التساؤل عمّا إذا كان ما فعلوه كافيًا لتعزيز مرونة أو ولاء القوى العاملة لديهم، ففي الآونة الأخيرة، لم تعمل سياسات الترحيل جماعي، “السعودة”، والمساعدات الحكومية الضخمة، إلا على تضخيم الانقسام ما بين السعوديين والأجانب غير المواطنين.
بالنسبة لي، لم أكن أعرف جدي، رجل العائلة الضخم بوجهه الأسمر، إلا من خلال الصور، حيث توفي قبل وفاة جدتي، ودُفن في المقبرة المحلية، وعندما توفيت جدتي، أبلغت السلطات والدي بأن الموقع الذي يرقد فيه جدي تم إعادة تحويله ليصبح مقبرة مخصصة للسعوديين فقط، مما حذا به لإيجاد مكان آخر لدفن والدته.
الإهانات اليومية، كما أعتقد، هي التي دفعت بوالدي لترك المملكة، للابتعاد عن البلاد التي يعترف بأنها كانت ملاذًا مهمًا لعائلته بعد الحرب، وموطنًا للعديد من الذكريات الأثيرة ولمعظم الإنجازات المهنية.
عندما سيغادر، سيشعر والدي بشعور الراحة الذي يخالطه الندم، الندم على ما كان يمكن له أن يكون، على ما لم يستطع أبناء عمومتي أن يكونوا عليه، وعلى فقدان البلاد التي لطالما حاول أن يحبها.
المصدر: ميدل إيست آي