الحادي عشر من نوفمبر 1914 – قصر دولمابهجة السلطاني – إسطنبول
يجلس السلطان العثماني محمد الخامس إلى مكتبه، يرى أمامه نسخة من اتفاقية الدفاع المشترك التي قام بالتوقيع عليها مع الإمبراطور الألماني قبل ثلاثة أشهر، كان ليستطيع أيضًا أن يرى ناقلات الجنود الألمانية رمادية اللون من شرفة مكتبه أيضًا، وصل الجنود الألمان قبل بضعة أيام ضمن فرقة بحرية مكلفة بحماية مضيق البوسفور.
يعلم السلطان أن أنور باشا في طريقه إلى القصر الآن، يعلم أنه سيدخل عليه بلا استئذان في أي لحظة كعادته، فالبرغم من حصوله على رتبة الباشا وتحوله إلى أقوى رجل في الإمبراطورية، يبدو أن طباع وصلافة فلاحي البلقان لم يغيرها شيء عند أنور، بالفعل يدخل أنور إلى مكتب السلطان بلا استئذان بعد لحظات، يضع أنور باشا أمام السلطان ورقة كبيرة ممشوقة بخط الثلث، تبدأ الورقة بالبسملة وتنتهي بإعلان السلطان العثماني أمير المؤمنين وخليفة المسلمين للجهاد بجانب الإمبراطورية الألمانية ضد التحالف الثلاثي، يوقع السلطان على الورقة بدون أن يتبادل كلمة واحدة مع الباشا، يأخذ أنور الورقة الموقعة بدوره من دون قول أي كلمة ليخرج من الغرفة.
يناير 1915 – مقر الشريف حسين – مكة
يدخل الشريف لاستقبال ضيوفه، لا يعلم تحديدًا ما الذي أتى بهؤلاء الأفندية من الشوام إلى حضرته، إلا أنه يستطيع غالبًا التخمين، لا بد أنهم يأتون لمناقشة سبل تلبية نداء الجهاد الذي أطلقه الخليفة، إلا أنه يُفاجأ من صفاقتهم في مطالبته بالثورة على الخليفة، ما هذا الذي يعنونه بالخلافة العربية، أليس الخليفة بخليفة للمسلمين؟
ينقطع تسلسل أفكاره بدخول ابنه البكري إلى المكان يستشيط غضبًا، لم يكن الحلم أبدًا من صفات علي، إلا أنه يبدو أسوأ من أي وقت مضى، يخبر علي أباه بالمراسلات التي استطاع اختراقها بين غريمه علي حيدر والصدر الأعظم في إسطنبول، يبدو بلا شك أن الصدر الأعظم يرغب في التخلص من وجود الشريف في مكة، لم يفهم الأخير أبدًا المنطق الذي يحرك السياسة العثمانية في شبه الجزيرة العربية، ويبدو أن انعدام الفهم يزداد أكثر وأكثر مع وصول جمعية الاتحاد والترقي للحكم.
يشير الشريف إلى ابنه الأصغر فيصل أن يقترب إليه، يخبر الشريف فيصل أن عليه الاستعداد للسفر إلى إسطنبول، على فيصل أن يواجه الصدر الأعظم باكتشاف أخيه الأكبر للحصول على تفسير ما.
يوليو 1915 – مكتب المندوب السامي البريطاني – القاهرة
يهرع رولاند ستورز سكرتير هنري مكماهون المندوب السامي البريطاني إلى مكتب رئيسه، يحمل السكرتير في يده ورقة وظرف مفتوح، يعطي السكرتير مكماهون الورقة بشيء من العجلة، يرفع المندوب رأسه إلى ستورز في استعجاب، فمكماهون لا يستطيع قراءة العربية، يفسر السكرتير تحمسه سريعًا، فقد وصل الخطاب الذي يحمله المندوب في يده للتو على يد عبدالله ابن الشريف حسين، وتتلخص فحواه في استعداد الشريف للتعاون مع الإنجليز في المجهود الحربي ضد الدولة العثمانية في الجزيرة مقابل وعد من الإمبراطورية البريطانية بدولة عربية مستقلة بعد الحرب.
هنا يقفز مكماهون بدوره ليصل إلى الهاتف العملاق المعلق على الحائط، يخبر عامل التحويلات بتوصيله فورًا بغرفة الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس في فندق شيبارد، لا يمكن ألا يكون سايكس أول من يطلع على هذا الخبر، فالصديق المقرب لوزير الحرب البريطاني والدبلوماسي المسؤول عن التنسيق مع فرنسا فيما يخص تقسيم الأراضي العثمانية هو خير من ينقل هذا الخبر إلى لندن.
تلقى سايكس المكالمة ليقوم مباشرة بتحضير حقائبه، لا يمكن سوى أن يكون في لندن في أقرب وقت.
أكتوبر 1915 – مقر وزارة جلالة الملك للشؤون الخارجية – لندن
يقرأ اللورد إدوارد جراي وزير خارجية جلالة الملك الخطاب الواصل للتو من مكتب مكماهون بالقاهرة، ما زال مكماهون في طور مراسلة الشريف العربي اليائس، يخبر مكماهون اللورد باستمرار الشريف في التنازل عن مطالبه في خطاب بعد الآخر، إلا أنه يخبره أيضًا أن الوقت يصبح حرجًا باستمرار توارد التقارير الاستخباراتية عن استعداد العثمانيين للهجوم على مكة والتخلص من الشريف، يرجو مكماهون من وزير الخارجية أن يصرح له بإنهاء الاتفاق مع الشريف في أسرع وقت.
يعلم جراي تمامًا أن المشكلة أكبر بكثير من الشريف العجوز، يطالب الشريف بسيطرة تامة ومستقلة لدولة عربية على أراضي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق، يعلم جراي تمامًا أيضًا أن الفرنسيين لا يمكن الحديث معهم من الأساس فيما يخص سيطرتهم على سوريا ولبنان، يعلم أن المنظمات الصهيونية لن تقبل بعدم تأسيس دولة يهودية في فلسطين، ويعلم أن العراق غني بالبترول بما يكفي لاستحالة تنازل التاج البريطاني عنه.
لا يبدو أن الشريف يدرك أيًا من هذا، إلا أن الوقت حرج للغاية.
يخرج جراي قلمه ليبدأ في كتابة رده على مندوبه في القاهرة، يصرح جراي لمندوبه بإنهاء الاتفاق، إلا أنه يضيف ملاحظة في نهاية رده: “اعمل على أن يكون الرد على الشريف في أغمض الصور الممكنة”، يمهر اللورد الخطاب بتوقيعه ويضعه في خانة البريد شديد السرية والعجلة على مكتبه.